قضايا

خالد اليماني: مبدأ بقاء الوجود.. نحو تأسيس لفلسفة أنطولوجية

انشغل الإنسان عبر العصور بتأمل ظواهر إرادة البقاء لدى الموجودات من أوجه متعددة: علمية، فلسفية، سيكولوجية، بل وحتى دينية ووجودية، ساعيًا لفهم هذا الميل العميق الذي يشترك فيه كل كائن حي. شوبنهَور، الفيلسوفُ الألماني، مثال بارز. كتبَ عن الإرادة، والشهوة، والغريزة، وكذلك فعل الكثير من الفلاسفة والعلماء الذين تناولوا هذه الظاهرة وكيف تؤثر على سلوك الإنسان وطريقة تفكيره، والقيمة التي يُضفيها على ذاته.
رغم كثرة المقاربات التي تناولت إرادة البقاء، يبدو لي أن سؤالًا جوهريًا ظلّ بعيدًا عن مركز الاهتمام: لماذا تميل الموجودات أصلًا إلى البقاء؟ ولماذا تتشكّل هذه الغريزة بهذا النحو دون غيره؟ أو لأطرح السؤال بشكل مختلف: لماذا لا تتشبث الموجودات بالعدم؟ لماذا الإرادة – التي تشمل غريزة البقاء – هي الأصل، والفعل الأكثر ثباتًا في كلّ الوجود؟
تاريخيًا، وجدت حجج أنطولوجية عديدة تثبت وجود مصدرٍ رئيس، وباعث، وواجب لهذا الوجود. لكنها غالبًا ما تجاوزت جوهر المسألة: سؤال الوجود بما هو وجود، وتشبّث الموجودات به.
هذه الأسئلة أفسدت علي سكينتي لسنوات. وفي كل مرة، كان عقلي الفطري يوبّخني: ما هذه الحماقة؟ "لماذا الوجود وإرادته؟'، لكنني وجدتُني أكتب أخيرًا ما كان يعصر ذهني.
أدركت أن السؤال أعمقُ من سائر الأسئلة الفلسفية الأخرى المتعلقة بموضوع الوجود والعدم من حيث كنههما، لا من حيث التجربة الإنسانية فقط، رغم أن التجربة الإنسانية هي أقوى تجلٍّ لهذه الإرادة، وأسطعها: إرادة الخلود!
هنا بدأت تتبلور لديّ فكرة مفادها: أن الميل إلى البقاء لا يُفسِّر من الناحية المادية الغريزية فقط، بل هو تعبير عن جوهر الوجود، الذي نحن انكشافاتٌ له في فضاء العالم.
أي: ما نسمّيه غريزةً بلغة العلم الحديث، إنما هو – في أحد أوجهه – إعلانٌ عن أسبقيّة الوجود على العدم؛ عن أحقية الحضور في أن يكون الأصل. العدم، مهما بدا واقعياً، كونُ كلَّ شيءٍ إلى الفناء، يظل حبيس تجربة الوجود، لأن لا معنى للعدم والموت دون وجود يسبقه.
قولنا إنّ "العدم أصل"، كقولنا إنّ الظلَّ يسبق النور؛ فالعدم، شأنه شأن الظل، لا يظهر فاعلًا في الواقع، بل تصوّرٌ ذهنيّ يُدرك بنقيضه–الوجود.
ويمكن الاصطلاحُ على هذه الفكرة بـ «مبدأ بقاء الوجود»، لكن هنا دلالة الكلمة مختلفة مثلما أشرنا فيما سبق، فهي ليست استدلالًا منطقيًا صرفًا، بل هي حجّة عقلية، أقرب إلى البداهة، تخرج من تجربة الإنسان في العالم وتأملها، والكل متأمل، لكن القليلَ من يتأمّلون في تأمُّلهم!
هذه الحجّة – إن شئتم – لا تدل على أسبقيّة الوجود من الناحية الزمنية، ولا تدل على حدوث العالم، بل هي تذهب أبعد من ذلك، إلى بناء شبكة مفاهيم تعبر وتشير إلى أن الحياة بما هي حياة، شيئًا مثيرًا للدهشة منذ انبثاقها.
ولا نقف عند هذا الحد، بل نذهب إلى أبعد من ذلك، في التأمل في إرادة البقاء والغريزة وإرادة الخلود، التي نعرف أن العلم أخذ شوطًا مُعمَّقًا في فهمها. لكن أؤمن بأن الأسئلة تسبق المعرفة وتوجّهها. وهذا السؤال – بسبب طابعه الفلسفي، والذي لم يُطرق له من الزاوية التي أشرنا إليها – يُعدّ ولادةً لمفهوم دلالي جديد: أن الوجود، بإرادته المتأصّلة، هو الأصل، لا العدم.
وهذه الإرادة ليست خوفاً من الموت، أو الفناء أو العدم، بل هي تعبيرٌ جليٌّ عن انسجام الموجودات مع الأبد!
***
خالد اليماني

في المثقف اليوم