قضايا
إبراهيم الجميلي: مجتمع السحالي.. التملق كقيمة نفعية في زمن الانحطاط

في عالمٍ تزداد فيه هشاشة القيم وتضعف فيه المبادئ، ينمو نوعٌ جديد من المجتمعات، يمكن تسميته تجاوزًا بـ"مجتمع السحالي"؛ حيث يغدو الإنسان كائنًا يتقن فنّ تغيير الألوان بحسب المصلحة، لا وفاء لديه إلا لمنافعه، ولا ولاء إلا لما يُدرّ عليه الربح أو السلامة. وكما أن السحلية تغيّر لونها للتخفي أو لتجنّب الخطر، يغيّر هذا الإنسان "المتملق" مواقفه، أقنعته، وولاءاته، بحسب التيار الأقوى، لا وفقًا لمبدأ أو إيمان.
التملق: سلوك نابع من أنانية وجودية
وفي هذا الصدد نجد أن الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه كان قد حذّر من "الإنسان القطيع" الذي يفقد ذاته ويعيش على إيقاع ما يفرضه الجمع. أما الإنسان المتملق، فهو نسخة أكثر دهاءً من هذا الإنسان القَطيعي: لا يتبع الجمع فقط، بل يسبقهم أحيانًا في التزلف لصاحب القوة، ويتقن لغة الثناء المصطنع، لأنه أدرك أن الحقيقة لا تُطعم خبزًا، وأن الجرأة على المبدأ لا تفتح الأبواب بل توصدها.
التملق، إذًا، ليس سلوكًا ساذجًا فحسب، بل هو خيار فلسفي قائم على رؤية نفعية للعالم. في عالمٍ باتت فيه القيم مجرد لافتات ديكورية، يتحوّل التملق إلى استراتيجية للبقاء، بل للترقي. فالمتملق لا يعبأ بالحقيقة، لأنه مؤمن، كما يرى ميكيافيلي، بأن الغاية تبرّر الوسيلة، وإن كانت الوسيلة انبطاحًا مفرطًا للسلطة، أو نفاقًا صريحًا للمصالح.
المجتمع السحلية: تبدل في القيم أم في الأقنعة؟
عندما يغدو التملق هو الطريق الأقصر للنجاح، فإن المجتمع كله يدخل في أزمة ضمير. تختلط معايير الاستحقاق، وتصبح الحقيقة مرهونة بالقبول الاجتماعي، لا بالبرهان العقلي. وحين يتربى الجيل الجديد على رؤية المنافقين في القمم، وأصحاب المبدأ في الحفر، فإن السؤال لم يعد: "ماذا يجب أن أفعل؟" بل "ماذا يريد الأقوياء أن أكون؟".
وهنا تتجلى صورة "السحلية الاجتماعية" بأوضح معانيها. فالمجتمع يبدّل ألوانه لا لأنه في رحلة تطور، بل لأنه خائف، متردد، أو طامع. تتغير المواقف كما تتغير ألوان الجلد، ويغدو الثبات عارًا، والصدق حماقة. ويُحتفى بالمرونة الزائدة بوصفها ذكاءً، مع أن الحقيقة الفلسفية تقول إن هذه "المرونة" ليست سوى نوع من الانكسار الروحي.
هل من خلاص؟
السؤال المؤلم هنا: هل يمكن الخلاص من هذا النمط السلوكي؟ وهل يمكن أن نعيد الاعتبار للقيم الجوهرية في زمن لا يعترف إلا بالمصلحة؟
ربما يكون الجواب عند سقراط، الذي فضّل الموت على أن يبيع قناعاته لأهواء السلطة، وعند كانط، الذي شدد على أن الإنسان يجب أن يُعامل كغاية لا كوسيلة. ما نحتاجه، إذًا، هو إعادة ترسيخ "الضمير الأخلاقي" كمصدر للفعل، لا المصلحة العمياء. أن نُعلّم أن الصدق قد يكون مؤلمًا، لكنه وحده ما يصنع الإنسان الحر.
خاتمة
إنّ مجتمع السحالي ليس خرافةً، بل هو واقع نعيشه في كثير من زوايا حياتنا. في السياسة، في العمل، وحتى في العلاقات اليومية. وحين يسود التملق على حساب الصدق، ويُكافأ الانبطاح بينما يُعاقب الاستقلال، فإن الفلسفة لا تملك إلا أن تدقّ ناقوس الخطر، محذّرة من انقراض الإنسان الأخلاقي في غابة المصالح.
فالسؤال الفلسفي الأعمق ليس: كيف ننجو؟ بل: بأيّ كلفة ننجو؟ وكم من مرة سنغيّر لون جلدنا، قبل أن نفقد هويتنا الحقيقية؟
***
الدكتور: ابراهيم احمد شعير الجميلي/ كركوك - العراق