قضايا
محمد سيف: كيف ندفع الدماغ لبناء عاداتنا المناهضة لإكراهات المحيط؟!
في كتابه (القهر والسلطة - القدرة الإلهية والقوة المستمدّة منها الدين والعالم في الإسلام) يقرأ الألماني يوهان كريستوف بيرغل فكرة ابن خلدون في مقدمته حول أنّ البقاع تغيّر الطباع، بشيء من إِنْعام النظر وإِمْعانه، مع استصحاب جذور هذه الفكرة التاريخية، إذْ يقول ما نصُّه: "ينطلق ابن خلدون من وجود علاقة وثيقة بين الإنسان والوسط الذي يعيش فيه، كما نعرفها من الطب اليوناني والجغرافيا اليونانية، نذكر بهذا الخصوص بكتاب أبقراط المشهور (عن الأجواء والمياه والأمكنة) الذي أعطاه م. بولنتس Pohlenz العنوان السائد اليوم (عن البيئة) حسب هذه النظرية يؤثّر المناخ على الإنسان، ويحدد إلى درجة كبيرة طابعه وثقافته"(1) إذن نرى يوهان هُنا أنه يرجع بفكرة تأثير البيئة المحيطة بالإنسان إلى إشارات سابقة من حضارة مختلفة؛ وفي ذلك تدليلٌ على إدراك مختلف الشعوب تأثير محيطها في أخصّ خصوصياتها، فالمرءُ ابن بيئته.
وفي سياق ضبط المفاهيم، فإني في هذا المقال، لا أقصر مدلول المحيط - بطبيعة الحال - على عنصر المناخ فحسب، بل أمطُّه مطًا عريضا ليشمل منظومة رحبة تضم في خِبائها مختلف العناصر كنوع الطبيعة والحالة الثقافية والقوة الاقتصادية والموروث الشعبي وتصنيف الديانة ومستواها والوضع السياسي والمشهد الاجتماعي والديموغرافيا السكانية والمستوى التعليمي المتوسط…إلخ، فيما نختصره بقولنا المحيط، الذي تتموضع فيه أنشطتنا اليومية، بل حال كثير من الناس أن يكون هذا المحيط - والذي قد لا يتجاوز مئات الكيلومترات المربعة - مُستقرَّه من الميلاد إلى اللحد!
وباعتبار المحيط - بالدلالة الموسعة السابقة - مؤثِّرًا، فإني لا أتناول هنا متعلّقات هذا التأثير إلا متغيرّا واحدا وهو العادات، وهي الممارسات الدورية، إذْ أحاول جَلاء العلاقة التأثيرية بين المحيط والعادات، كاشفا عن مدى دقة وصف هذه العلاقة بالخطية، أي هل نحن بإزاء مؤثر فحسب في طرف، ومتأثر فحسب في الطرف المقابل؟ وكيف نستثمر علم الدماغ في مساعدتنا على بناء عادات وسط محيط لا يوفر بيئة حاضنة مناسبة؟
لا غَرْوَ أنّنا في بُعد حيوي من هُويّتنا مكوَّنون من عادات تشكّل معالمها، عادات ظهرت في صيغة سلوكيات لدوافع معينة، ثم عزّزتْ استمرارَها عواملُ شتى، حتى انتقلت من كونها مجرد ممارسات عابرة إلى عادات تتشبّث بأنَانا، وتصوغُ ما نحن عليه اليوم، ومن يرى أن الإنسان في جوهره ما هو إلا عاداته فإنه لم يبعد النجعة أبدا.
وسردُ قائمة المؤثرات في العادات يطول بلا ريب، ولكن حين يتعلق الأمر بالمؤثرات الرئيسة، فلا يمكننا بحال إغفال تأثير محيطنا في عاداتنا، فمثلا ما زلت أذكر إبّان دراستي الماجستير في تونس كيف أن الظهيرة - بحكم حالة الطقس العامة - مكتظة بحركة معاش لا تهدأ، خصوصا أنه بعد الثامنة ليلا، تتهيّأ العاصمة للاستعداد للنوم، فتجد نفسك مدفوعا - إلى حدٍ كبير - لتكييف عاداتك وفق هذا النمط الحركي/الزمني، وهذا خلافا للوضع الذي أعيشه في سلطنة عُمان، وهكذا الحال حين سافرتُ مؤخرا إلى بيرمينجهام بالمملكة المتحدة، وجدتُني مع الساعة السادسة مساء أبدأ في لَمْلَمَة يومي تزامنا مع طَيّ بيرمينجهام صخبها! وهكذا دواليك، وأعتقد أن من اعتاد السفر وخصوصا لمُدَد إقامة طويلة يتفق معي على هذا القدر من تغير الإيقاع البشري وفقا لطبيعة المكان.
الأمر لا يقتصر - كما أسلفت - على أحوال الطقس التي تحفز هذه العادة أو تمنع تلك، وإنما ينسحب الأمر كذلك على بقية عوامل المحيط، والمحور المركزي في هذا المقال ليس لإثبات التأثير بقدر ما هو توجيه بؤرة الاهتمام إلى معضلة واقعية تعيشها شريحة منّا، ممن سئموا تكرار المحيط، وأدركوا سَوْءاتِه، ورغبوا في بناء عادات جديدة على مجتمعهم، جديدة باعتبارها ظاهرة وحقا مشروعا متفهَّما، وليس بالضرورة أن تكون جديدة بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكن محيطهم يصدّ تلك المحاولات أو يعرقلها بطريقة أو بأخرى.
وهذا التحدي يكتسب أهمية بالغة؛ لمركزية العادات في حياتنا، إلا أنه كذلك يعرّضنا لخطورة بالغة في حالة كون تلك العادات غير مستساغة في ذائقة المجتمع الذي ننتمي إليه، أو على الأقل لا يوفّر ضمانة جادّة تكفل رعايتها، فالتخلي عن العادات التي يرى فيها الفرد حالة متعالية سامية من الوعي، يغتال فيه الهُويّة الذاتية، كما أن الصدام مع المجتمع من شأنه أن يصادر منه حقوقه اللازمة ليعيش حياة مستقرة؛ فالاحتياجات البشرية لا يمكن إشباعهُا إلا جماعيا.
ولعل إحدى المقاربات العملية للخروج من عنق الزجاجة هذا هو خلق عالَم موازٍ بمثابة محيط مصغّر داخل المحيط الاجتماعي الأساسي؛ بهدف توفير العناصر اللازمة التي تضمن استمرارية العادات، يعني ذلك - فيما يعنيه - اختيار دوائر الاحتكاك من الناس، والتعرّض لوسائط إعلامية محددة، مثل بودكاستات مختارة بعناية، وحسابات ذات محتوى حقيقي على مواقع التواصل الاجتماعي، تخدم الإطار العام للعادات، وتضييق إشعارات الهاتف غير المهمة قدر المستطاع، وتحييد البيئات السامة أو الملهية، إلى آخر تلك الخطوات الإجرائية التي تهدف إلى بناء حاضنة خارجية تترعرع فيها العادة بأمان، فعادةٌ بغير بيئة حاضنة مناسبة، أشبه بمن يُلقى في الماء ويرجو مع ذلك ألّا يبتلّ، كما يمثّله قول الحلّاج:
ألقاه في اليَمّ مكتوفًا وقال له: إيّاك إيّاك أنْ تبتلّ بالماءِ
وفي تصوّري، كلّما كان المحيط مبنيا على الاعتراف بضرورة (Requisite Variety) التنوّع الواجب، أمكن الأفراد من ممارسة اختياراتهم في العادات بكل أريحية، وأشعرهم ذلك بانتماء لهذا المحيط الذي اعترف بعاداتهم في الحياة، وضمن لهم حق ممارستها، بدون الاضطرار لشنّ هجمات الإقصاء أو لتبريرها.
وفي سياق بناء العادات، فهي ليست وحدها مَن تتأثّر بالمحيط، وإنما أدمغتنا كذلك، خصوصا تلك التي رزَحتْ رَدْحًا طويلا من الزمن تحت ضغط المحيط؛ ولذلك تتشابه عادات الأفراد المنتمين إلى محيط ما، في المجمل، ولكن لحسن الحظ أنّ أدمغتنا وبفضل خاصية (Neuroplasticity) المرونة العصبية، قادرة على إعادة تشكيل ممرّات عصبية للعادات الجديدة، شريطة الاستمرارية، وليس مثل الخطوات الصغيرة في القدرة على الديمومة رغم تقلّب الظروف، في خطوات صغيرة مستدامة، في اختراق ناعم لنسيج الدماغ، وكما يقول مارك توين في روايته (نيلسون المغفّل): "العادة، وما أدراك ما العادة؟ هي ألّا تقفز من الشبّاك مرة واحدة، بل تهبط السلّم درجة درجة"(2) إنّ المرونة العصبية (Neuroplasticity) تروّض الدماغ لقبول هذا المستجد ليكون جزءا لا يتجزأ منه، فتتضاءل الممرات العصبية المتعلقة بالعادة القديمة، لتحلّ محلها كثافة عالية في الاتصال الكهروكيميائي بين الخلايا العصبية بالدماغ، تلك المتصلة بالعادة الجديدة، والتي احتضنها المحيط الموازي - إن صحّ التعبير - الذي قام صاحبه بتشييده؛ كَرْمى العادة الجديدة، فمن ينشأ في محيط يعير هوَسًا بالغا بالمأدبات الاجتماعية بما هي ركن ركين من الوجاهة والتواصل، والتي لا تأبَه بالعادات الغذائية الصحية، بإمكانه وبدون صدام أن يبني محيطا موازيا بأن يضع حدودا تدريجية تمكّنه من الحدّ من إكراهات محيطه وإملاءاته في هذا الجانب، وبمثل هذه الإجراءات الصغيرة مع الاستمرار يأتي دور (Neuroplasticity) المرونة العصبية لتعززّ البيت الداخلي الدماغي فيتعوّد المرء على هذه العادة التي ما كانت لتنشأ لولا ذلك في مثل هذا المحيط المنفّر لأي اعتياد صحي، وحين يألفها الدماغ وتتغوّل فيه، فإنه تتولد طبقة حماية سميكة تقي العادة - على نحو كبير - سطوة المحيط المناهض لهذه العادة، فذلك المحيط الموازي كان بمثابة الشرنقة الضامنة لولادة جديدة، ولا أعني أنها مرحلية قابلة للاستغناء عنها لاحقا، فالمحيط الحاضن للعادة ضرورة لازمة لها طيلة حياتها، ولكنها تبلغ أوْج ضرورتها عند البدايات وتكسبها مناعة مضاعفة عند التعرض للضغوط، حتى تتماسك العادة وتقف على قدميها، من خلال بناء شبكة عصبية خاصة بها في أدمغتنا، وإلا فما جدوى قدمين ثابتتين وسط أرضية ترتجّ!
وإجابةً لسؤالٍ طرحناه في ديباجة المقال عمّا إذا كانت العلاقة بين المحيط وبين العادات خطية بمعنى أن يقف المحيط على طرف المؤثّر، بينما تقف العادات على الطرف المتأثّر، فإنه بحكم العدوى الاجتماعية (Social Contagion) فإن تبنّي العادات من قِبَل بعض الأفراد من شأنه أن يعدي الآخرين ويغريهم لتبنّيها أيضًا خصوصا ممن يشتركون في القناعات والمبادئ نفسها، فتغدو العادات متأثرة بمحيطها باعتبار، ومؤثرة في محيطها باعتبار آخر، ففي الاعتبار الأول نتبنّى العادات بحكم المتاح والإملاءات وحمولة الموروث، وفي الاعتبار الآخر تخترق العادات الغريبة على محيط ما بقوة ناعمة وهادئة ما تسالم عليه ذلك المحيط، فتعمد إلى تغيير ملامحه شيئا فشيئا، بحسب حجم العادة وعدد متبنّيها، وما تتضافر من عوامل مساعدة، إذن العلاقة بين المحيط والعادات ليست خطية بل دائرية، ويتوسطهما الدماغ عبر مرونته العصبية.
وأودّ أن أختم بلفتة أراها غايةً في الأهمية، وهي أن تأثير العادة الارتدادي لا يقتصر على المحيط الخارجي، بل وكذلك على الأروقة الداخلية للفرد، عبر ظاهرة (Ripple Effect) الأثر المتتابع، وفحواها أنّ النجاح في تكوين عادة صحية واحدة يُفضي إلى جُملة من الظلال الممتدة على نسقها، والتي تلقيها هنا وهناك، فمن ينجع في عادة الانضباط الغذائي مثلا تتحسن صحته وثقته بنفسه، ومستوى انضباطه العام، مع رفع احتمالية تحسين وضعه المهني، والتغلب على معوقات دراسية بسبب آثار السمنة، إلى آخر تلك التأثيرات الرئيسة وليست الجانبية فحسب، وإلى ذلك يلفت Darren Hardy في كتابه (The Compound Effect) الأثر المركّب، قائلا:
"The reality is that even one small change can have a significant impact that causes an unexpected and unintended ripple effect"(3)
أي: في الواقع حتى التغيير الضئيل قد يُحدِث تأثيرا هائلا مسببا أثرا متتابعا غير متوقع ولا مقصود!
***
محمـــد سيـــف
......................
الهوامـــش:
(1) القهر والسلطة - القدرة الإلهية والقوة المستمدّة منها الدين والعالم في الإسلام، يوهان كريستوف بيرغل، ترجمة محمود كبيبو، ص 107، دار الورّاق للنشر، الطبعة الأولى، 2016.
(2) نيلسون المغفّل، (رواية) مارك توين، ترجمة نهى الشاذلي، ص67، منشورات حياة، الطبعة الأولى، 2022.
(3) The Compound Effect, Darren Hardy, P 10, Hachette Books, 2022.






