قضايا
مارييل جودو: قدرة البشر على التحكم بالعالم

مشبَّع بالسببية
بقلم: مارييل جودو
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***
لدى البشر قوة خارقة تجعلنا قادرين بشكل فريد على التحكم في العالم: وهي قدرتنا على فهم العلاقة بين السبب والنتيجة.
***
الفهم السببي هو القدرة الإدراكية التي تمكّنك من التفكير في كيفية تأثير الأشياء على بعضها البعض وتأثرها ببعضها. إنه مفهومك عن الصنع، والفعل، والتوليد، والإنتاج — أي التسبب — الذي يتيح لك إدراك كيف أن القمر يسبب المد والجزر، وكيف يُمرضك الفيروس، ولماذا تؤثر التعريفات الجمركية على التجارة الدولية، وما هي العواقب الاجتماعية لزلة لسان، وكيف يقود كل حدث في قصة إلى ما يحدث بعده.
الفهم السببي هو أساس كل الأفكار التي تبدأ بـ "لماذا"، و"كيف"، و"لأن"، و"ماذا لو".
عندما تخطط للغد، أو تتساءل كيف كان من الممكن أن تسير الأمور بشكل مختلف، أو تتخيل شيئًا مستحيلًا (مثل: كيف سيكون الشعور بالطيران؟)، فإن فهمك السببي يكون في حالة عمل.
في الحياة اليومية، يضفي الفهم السببي على ملاحظاتك للتغيرات في العالم نوعًا من التوليد والضرورة. إذا سمعت صوتًا، تفترض أن شيئًا ما قد أحدثه. إذا وجدت انبعاجًا في السيارة، تعلم أن شيئًا — أو شخصًا — لا بد أنه تسبب فيه. أنت تعرف أن هطول المطر سيبللك، لذا تضغط على مقبض المظلة لتفتحها وتتجنب البلل. تراقب بلوطة تسقط من شجرة وتحدث تموجات في بركة ماء.
إن قدرة البشر على رؤية العلاقة بين السبب والنتيجة كجزء من "الواقع الموضوعي" (فكرة مثقلة بالإشكالات الفلسفية، لكن لنقل مؤقتًا: العالم الخارجي المستقل عن الذهن) هي قدرة أساسية وتلقائية لدرجة يصعب معها تخيل تجربتنا من دونها. تمامًا كما أنه من شبه المستحيل رؤية الحروف والكلمات كأشكال مجردة على صفحة أو شاشة (جرّب ذلك!)، فإنه من الصعب للغاية ملاحظة التغيرات في العالم دون أن ننسبها إلى أسباب. نحن لا نرى مفتاحًا يختفي في ثقب المفتاح، أو يدًا تتحرك، أو بابًا يتأرجح ليفتح. بل نرى شخصًا يفتح الباب. لا نرى البركة، ثم البركة مع تموجات وبلوطة؛ بل نرى البلوطة تُحدث رشقة ماء.
معظم الناس لا يدركون أن كل هذا إنجاز إدراكي. لكنه في الواقع أمر غير اعتيادي على الإطلاق. لا يوجد أي حيوان آخر يفكر في السببية بذلك الشكل فائق الموضوعية والتعميم كما نفعل نحن. وحدنا — نحن البشر البالغون — من يرى العالم مشبّعًا بالسببية. ونتيجة لذلك، لدينا قدرة لا مثيل لها على تغييره والتحكم فيه.ومن ثم فإن فهمنا السببي بمثابة قوة خارقة.
القصة العلمية لكيفية تطوّر عقولنا السببية تكشف عن قوة خارقة أخرى: الطبيعة الاجتماعية للبشر. فحساسيتنا الفريدة تجاه الآخرين هي ما يسمح لنا باكتساب هذا الفهم السببي المميز. وهذه القصة تطرح أيضًا أسئلة عن "العقول الأخرى": إذا كان فهمنا السببي هو الاستثناء وليس القاعدة، فكيف يبدو العالم للكائنات الأخرى؟ وإذا حاولنا تعليق الضرورة السببية التي تنظّم جزءًا كبيرًا من تجربتنا، فماذا يتبقى؟
سأقترح أن ما يتبقى هو تجربتنا في الفعل — منظور شخصي، تقييمي، وتفاعلي بطبيعته.ففي هذا "موضع الفعل" المنخرط والمشارك — في مقابل وجهة النظر الموضوعية المنفصلة — تبدأ بذور الإدراك الأعلى في التكوّن. إن تقدير أن منظورنا الأصلي موجّه نحو الفعل والهدف يمكن أن يساعدنا أيضًا في فهم أوجه القصور فينا — وكيف يمكننا تغييرها.
يُوجَّه البحث النفسي في الفهم السببي إلى حدٍّ كبير من خلال إطار يُعرف باسم "التدخّلية" (Interventionism). فكّر في حالتين تحدثان معًا: تشرق الشمس، ويصيح الديك.هل تسبّب شروق الشمس في صياح الديك؟ أم أن الديك هو من تسبّب في شروق الشمس؟
ليس من الصعب اتخاذ قرار في هذه المسألة.
لكن، كما هو الحال في كثير من المساعي الفلسفية، فإن الحقيقة التي تبدو بسيطة للوهلة الأولى تصبح صعبة التعبير عندما نحاول شرحها بدقة.
(ماذا تقصد حين تقول إن شروق الشمس "يُسبّب" صياح الديك؟ "أعتقد أن ضوء الشمس ينشّط الساعة البيولوجية للديك، أو شيء من هذا القبيل."
ماذا تقصد بـ"ينشّط"؟ "أم… لا أعلم بالضبط… ربما يؤثّر على الهرمونات؟"
ماذا تعني بـ"يؤثّر على"؟ "آه… يطلق؟ يُحفّز؟ يُولّد؟"
لكن ما المقصود بـ"إطلاق"، أو "تحفيز"، أو "توليد"؟…)
تقدم التدخّلية طريقة أنيقة لتعريف "السبب" تُسهم في تنظيم المفهوم. هناك خطوتان:
أولًا، يُنظر إلى الأسباب والنتائج على أنها متغيّرات ذات قيم يمكن أن تتغير.فموقع الشمس يمكن أن يكون "طالعة" أو "غير طالعة"، وصوت الديك يمكن أن يكون "صياح" أو "لا صياح".
ثانيًا، تُعرَّف العلاقة السببية من خلال التدخلات — أي التغييرات المُوجَّهة. تخيّل أننا نبقي كل شيء كما هو، ونغيّر فقط ما إذا كانت الشمس ستشرق أم لا. إذا لم تشرق الشمس، فهل سيصيح الديك؟ والآن جرّب العكس: إذا بقي الديك صامتًا، فهل ستشرق الشمس؟
إذا كان تغيير حالة الشمس يؤدي إلى تغيير في سلوك الديك، لكن تغيير سلوك الديك لا يؤثر في شروق الشمس، فهذا يعني أن الشمس هي السبب، وأن الصياح هو النتيجة.
تُعرف هذه الطريقة التدخّلية في تعريف السببية غالبًا باسم "إحداث الفرق" (difference-making). وذلك لأن "السبب" هو شيء يُحدِث فرقًا في شيء آخر: إذا حركت السبب، فإن النتيجة تتحرك أيضًا.هذا التعريف لا يُرضي المتشككين تمامًا — (ماذا تعني بـ"إحداث الفرق"؟) — لكنه يقدّم لنا طريقة أكثر دقة للحديث عن العلاقات السببية. كما يوضح مثال الشمس والديك، فإن التدخلات لا يجب أن تكون ممكنة فعليًا. الفكرة الأساسية هي ببساطة: إذا غيّرنا السبب، فإن ذلك سيُحدث فرقًا في النتيجة.
التعلم التدخلي هو التعلم بالممارسة. ينتج عنه معرفة سببية، ويمنحنا القدرة على التحكم.
طريقة أخرى للتفكير في الفهم السببي هي تقدير الفرق بين التنبؤ والسيطرة — أو الفرق بين التعلُّم الإحصائي والتعلُّم التدخلي.
فكّر في التسلسل التالي:
#@mb!#@mb!#@mb!#@mb!…
ما الذي يأتي بعده؟
وماذا عن هذا:
أحمر أحمر، أخضر أخضر، بنفسجي بنفسجي، أزرق…
ما هي الكلمة التالية؟
إن البشر والحيوانات الأخرى بارعون في التقاط الأنماط. هذا يُسمى التعلُّم الإحصائي (أو الترابطي)، وهو يؤدي إلى معرفة إحصائية — أي معرفة بالارتباطات. نحن نمارس هذا النوع من التعلُّم بشكل سلبي وتلقائي، وهو يمنحنا القدرة على التنبؤ. فكّر في المعرفة الإحصائية كما لو كنت تستمع إلى أغنية مألوفة على الراديو: أنت تعرف ما المقطع التالي دون أن تبذل جهدًا.أما التعلُّم التدخلي، فعلى العكس، هو تعلُّم نشط — تعلُّم من خلال الفعل.وهو يؤدي إلى معرفة سببية، ويمنحنا القدرة على التحكم.
إليك السيناريو التالي لتوضيح الفكرة:
تخيّل أنك واقف عند مدخل متجر للأدوات، تتكئ على الباب بينما تنتظرني لأدفع. (للمساعدة في التصور: أنا امرأة بيضاء في منتصف الثلاثينيات من عمري، بشعر وردي).
تشاهد السيارات تمر في الشارع. خلفك، يتحدث الناس مع بعضهم البعض أثناء وقوفهم في الطابور. بين الحين والآخر، يرنّ جرس.
تتراجع قليلًا بينما يمرّ أحدهم مسرعًا ومعه منصة مليئة بالنباتات.
ثم أقول وأنا آتي إليك:
" مهلًا، لماذا تدق هذا الجرس؟"
فترد: "ماذا تقصدين؟ أنا فقط واقف هنا."
أقول وأنا أشير إلى أعلى رأسك.
"ذلك الجرس!"
وبالفعل، هناك جرس صغير مثبت على الباب الذي كنت تتكئ عليه.
فتقول: "لم أكن أعلم أنني أُرنّ الجرس!"
لكنّك تحاول تحريك الباب ذهابًا وإيابًا، ويتضح أن الأمر صحيح: تحريك الباب يجعل الجرس يرنّ، وكان الباب يتحرك قليلًا أثناء اتكائك عليه.
المشهد الذي تخيّلناه للتو مأخوذ من مشهد قصير في كتاب "النية" (Intention، 1957) للفيلسوفة جي. إي. إم. آنسكومب.في تحليلها، تُعدّ "الأفعال" من نوع الأشياء التي ينطبق عليها معنى خاص لسؤال "لماذا؟" — وبالتحديد، ذلك النوع من "لماذا؟" الذي نوجّهه للناس عندما نسأل عن غايتهم أو هدفهم أو نيتهم (مثل: "لماذا تُرنّ هذا الجرس؟").
عندما رننت الجرس من دون أن تدري، تقول آنسكومب، لم يكن ذلك فعلًا.
أما عندما حرّكت الباب عمداً لتُصدر رنين الجرس — عندما كنت تعرف ما الذي تفعله — فحينها أصبح فعلاً.
يعتمد تطوّر الفهم السببي على هذا "المنظور الداخلي" لأفعالك — أي معرفتك لهدفك، ولما تسعى إلى تحقيقه من خلال الفعل.
سأسمي هذا المنظور: موضع الفعل (your point of do).
كثير من الحيوانات تمتلك موضع فعل (point of do). فهي تتعلّم بسهولة العلاقات السببية بين الأفعال (مثل ضغط رافعة) والنتائج المرغوبة (مثل الحصول على طعام).لكن تعلّمها السببي غالبًا ما يكون محدودًا بسياقات معينة وبفترات زمنية قصيرة. فإذا تعلّمت حمامة أن نقر الرافعة يُنتج طعامًا من الموزّع، فعلى الأرجح أنها ستحتاج إلى إعادة التعلّم في بيئة جديدة. وإذا تم إدخال تأخير زمني بين النقر والحصول على الطعام، فلن تدرك العلاقة كذلك.
الفهم السببي لدى الحيوانات غير البشرية هو في الغالب أناني التمركز (egocentric).
إنه سببية من نوع "أنا" أو "لي" — أي مقتصر على التغيرات التي تُنتجها أفعالها الخاصة، ويعتمد على أهداف تُركّز الانتباه على متغيرات بعينها.حتى الحيوانات الذكية غير البشرية، مثل القِرَدة والجرذان والغربان، لا تتعلّم العلاقات السببية عادةً إلا إذا كانت تسعى بنشاط للحصول على مكافأة (مثل الطعام) أو تجنّب عقوبة (مثل صدمة كهربائية).وعندما يكون السبب شيئًا جامدًا، أو نشاط حيوان آخر، أو حتى حركة غير مقصودة من الحيوان نفسه، فإنها غالبًا لا تتعلّم العلاقة السببية.
ومع ذلك، هناك بعض الأدلة على أن القِرَدة يمكنها تعلُّم بعض العلاقات السببية من خلال مشاهدة الآخرين. لكن البشر يُشكّلون حالة استثنائية تمامًا. ففي عمر ثلاثة أشهر فقط، يبدو أن الرُضَّع لا يمتلكون فهمًا سببيًا من منظور شخصي ("أنا أُسبّب") فحسب،
بل أيضًا فهمًا سببيًا من منظور الغير ("هم يُسبّبون").
ولأننا نفسّر باستمرار حركات الآخرين على أنها أفعال موجهة بهدف، فإننا نرى الأسباب التي يتحكم بها الآخرون، والنتائج التي يسعون لإنتاجها، على أنها قابلة للتحكم والإنتاج بالنسبة لنا أيضًا.في الأسابيع الثمانية إلى الاثني عشر الأولى من الحياة، يسمح الفهم السببي "الذاتي" للرضيع بأن:
- يبكي بطريقة موجهة لجذب الانتباه،
- ويتعلم تحريك الألعاب المعلّقة عن طريق الركل برجليه.
كما يتعلم أن الهمهمة وإصدار تعابير الوجه تُولّد استجابات من مقدّمي الرعاية — وهو شيء لا يبدو أن الرئيسيات الأخرى تفعله.
وبحلول عمر تسعة أشهر، يظهر الفهم السببي "الغيري" بقوة:
- يمكن للرضع تقليد أفعال الآخرين على لعبة، مثل الضغط على زر لإصدار صوت.
- وعند بلوغهم أربعة عشر شهرًا، يستطيعون تكرار أفعال غير مألوفة لم يسبق لهم القيام بها، مثل استخدام رؤوسهم لتشغيل ضوء.
يؤدي التفاعل والملاحظة والتصنيف باستمرار إلى جلب متغيرات وعلاقات سببية جديدة إلى وعي الأطفال.
عند الوصول إلى سن الطفولة المبكرة، يبدأ الأطفال بتعميم العلاقات السببية انطلاقًا من أفعال الآخرين. فإذا رأوا شخصًا يضع مكعبًا أحمر مثلث الشكل على آلة ما فيؤدي ذلك إلى تشغيل الموسيقى، بينما لا يؤدي وضع مكعب أزرق مثلث إلى نفس النتيجة، فإنهم سيختارون بأنفسهم مكعبًا أحمر مربعًا (جديدًا) لتفعيل الآلة.
كما أنهم يلتقطون كلمات سببية تُستخدم في مواقف متعددة. فقد يستخدم الطفل الصغير كلمة "خلاص" (allgone) للإشارة إلى آثار أفعال مختلفة — مثل فرقعة فقاعة، أو الانتهاء من زجاجة الحليب، أو البحث عن لعبة غير موجودة.
هذه الأنشطة الاجتماعية — التفاعل، الملاحظة، والتسمية — تُدخل باستمرار متغيرات وعلاقات سببية جديدة إلى وعي الطفل. والنتيجة هي نوع من التنشيط المستمر للانتباه — كما لو أن أحدهم يشير إلى الجرس على الباب: ("هل ترى هذا الشيء هناك؟ انظر، يمكنك التحكّم به!").
وفي بعض الثقافات، يقدم البالغون أيضًا تفسيرات سببية عفوية، مثل:
- "أكل البروكلي يجعلك كبيرًا وقويًا."
- "دعنا نضع الكعكة في الفرن كي تصبح منفوشة!"
- "هل تذكر لماذا لا نركض على الزلاقة؟ ماذا حدث في المرة السابقة؟"
هذا التنوع والعمومية والعدد الهائل من العلاقات السببية التي يستطيع حتى الطفل بعمر السنتين أن يفهمها يفوق بكثير ما يمكن للحيوانات غير البشرية تعلّمه — سواء من حيث عدد المجالات أو امتداد الزمن. والتفاعل مع الأدوات — من الخشخيشات إلى مفاتيح الإضاءة إلى أجهزة الآيباد — يساهم على الأرجح في بناء إحساس بأن هناك "أسبابًا محتملة في كل مكان"، وبأن العالم مفتوح للإنتاج والتحكّم. وكأن البيئة الاجتماعية تبرمج الطفل على أن يفكر باستمرار: ماذا يمكنني أن أفعل؟ ماذا يمكنني أن أفعل؟ ماذا يمكنني أن أفعل؟
لكن هناك قيدًا مثيرًا للاهتمام: فحتى سن الرابعة تقريبًا، يظل الفهم السببي لدى الأطفال مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالأفعال الموجهة نحو هدف، سواء أفعالهم أو أفعال الآخرين. في إحدى الدراسات، شاهد أطفال في عمر سنتين وثلاث وأربع سنوات لعبة سيارة تتحرك نحو جدار، وعندما تصل إليه، تبدأ دوّارة (مروحة صغيرة) بالدوران على مسافة منها. أظهر الأطفال من جميع الأعمار نوعًا من التعلّم الإحصائي (التنبؤي): فبعد فترة من المشاهدة، أصبحوا ينظرون نحو الدوّارة عندما تقترب السيارة.
ظهر الاكتشاف اللافت عندما قام الباحثون بتغيير عاملين: أولًا، كيف تحركت السيارة، وثانيًا، كيف تصرف الأطفال عندما طُلب منهم إحداث نفس التأثير بأنفسهم.
رأى بعض الأطفال شخصًا يدفع السيارة نحو الحائط. في هذه الحالة، عندما قيل لهم إن "دورهم" قد حان لجعل المروحة تدور، قام الأطفال من جميع الأعمار بتكرار الفعل. ولكن كانت الأمور مختلفة إذا رأوا السيارة تتحرك من تلقاء نفسها. في هذه الحالة، فقط الأطفال الذين يبلغون أربع سنوات قاموا بشكل منتظم بأخذ السيارة ولمس الحائط لجعل المروحة تدور.
ليس من الواضح تمامًا ما الذي يدفع تطوير الفهم غير الشخصي و"السببي" - التحول من فهم سببي قائم على الأفعال إلى فهم موضوعي حيث يُنظر إلى السببية كجزء من العالم نفسه. (هذا هو الفهم السببي الذي يجعلك تنظر إلى الشجرة فوق سيارتك للتحقق مما إذا كان بإمكان البلوط أن يسبب الانبعاج). ومع ذلك، في سن الرابعة تقريبًا، يطور الأطفال أيضًا "نظرية العقل" (تقدير أن معتقدات الناس قد تفشل في مطابقة الواقع)، واتخاذ المنظور البصري (فهم أن شيئًا أزرق بالنسبة لي سيبدو أخضر لك وأنت ترتدي نظارات صفراء)، ويتسامحون مع "التسمية المزدوجة" (أنت تقول شجرة، أقول شجيرة؛ يمكن أن نكون على حق كلانا). والجدير بالذكر أن كل هذا يتضمن الاحتفاظ بفكرتين حول نفس الشيء في الاعتبار في وقت واحد. ربما تتطلب فكرة "الإمكانات السببية" التي تستمر حتى عندما لا يغير أحد الأشياء "تمثيلًا مزدوجًا" أيضًا.
مهما كان السبب النهائي وراء الفهم السببي البشري الفريد من نوعه في عموميته ولا شخصانيته، فمن الواضح أن الحيوانات الأخرى تعيش باستمرار ضمن منظور "أنا-السببي" — نقطة الفعل (point of do). إنها لا تصل أبدًا إلى وجهة النظر الموضوعية التي تُعد فيها السببية جزءًا من كل شيء.
كيف يبدو العالم لهم؟ هكذا أفكر فيه. عندما تشاهد فيلمًا ثلاثي الأبعاد، فإن ارتداء نظارات ثلاثية الأبعاد يجعل الأشياء "تبرز". من خلال عدسة "السببية الذاتية"، أتخيل نوعًا من لوحة تحكم ريفية - ما يعادل في البرية الرافعات والمفاتيح والأقراص. قد تبرز عصا كوسيلة لاستعادة فاكهة بعيدة المنال. قد تبرز شفرة عشب طويلة كأداة لاستخراج وجبة من كومة نمل أبيض.
لكن هذه الدعائم "القابلة للتدخل" من أجل الفعل ستكون قليلة. وستظهر بشكل رئيسي في مواقف تشبه إلى حد كبير مواقف أخرى سبق أن تصرفت فيها. كل شيء آخر سيكون مجرد تباين – مثل الأشكال المتغيرة في شاشة توقف الكمبيوتر المحمول. بعض التغييرات ستكون غير ضارة (مثل العشب المتمايل في حقل عاصف). وقد يرتبط البعض الآخر بدلالات عاطفية – مثل حفيف مفاجئ في الأدغال ("أوه!")، أو نداءات أفراد من نفس النوع من بعيد ("أصدقاء!")، أو رائحة شريك محتمل ("واو!"). لكن هذه الإدراكات والأنماط والإيقاعات ستكون نوعًا من الموسيقى الهيومية: مألوفة، متوقعة، وموثوقة، ولكنها ليست مسببة أو قابلة للتحكم أو قابلة للتفسير.
إليك طريقة أخرى للتفكير في الأمر. كوليد جديد، قبل أن يتحول عقلك من خلال التعلم الاجتماعي واللغة، كنت محاطًا ببيئات ذات معنى، لكل منها ميولها الخاصة ذات الدلالة. في سريرك، كانت الهزازة (الجذابة) فوقك تميل إلى التمايل. في حوض الاستحمام، كان الصنبور يميل إلى إصدار صوت "ششش". كان هناك رطوبة سميكة حولك ونعومة أسفلك. الوالدان – اللذان كانا غير واضحين بسبب عينيك غير المكتملتين – كانا يميلان إلى التحرك في اتجاهات عديدة، ووضع أشياء جيدة في فمك، والهمس، وهزك، واحتضانك عن قرب.
يتّسم الفعل لدى غير البشر بقدر أقل من السيطرة، وبقدر أكبر بشيء أشبه بالتعاون.
في الوقت نفسه – وبإرشاد من الأحداث التي أوليتها قيمة – اكتشفتَ قدرتك على الفعل. فالابتسامات تحدث أكثر عندما أبتسم أنا أيضًا (مذهل!). الإمساك بالبطانية وتحريك ذراعي يجعلني أشعر بالبرد (فظيع!). سحق البازلاء يغيّر شكلها (رائع! دعونا نعيد التجربة). من خلال التفاعل، انفتح لك العالم، وبدأ يتّضح كحقل من الإمكانيات للفعل.
وهناك أمر آخر جدير بالانتباه: البيئات البشرية مُصمّمة – بأيدينا – لتدعم التلاعب والسيطرة بسلاسة. فأنت تعيش في عالم من الأسطح المستوية، ومقابض الأبواب، وغيرها من "المعدّات" (لنستخدم هنا مصطلح مارتن هايدغر). أما الحيوانات الأخرى، فليست لها هذه الرفاهية. تقضي إناث إنسان الغاب معظم وقتها في الغابات الكثيفة، تفاوض الأغصان؛ بعضها يمكن دفعه جانبًا، وبعضها يرتدّ، وبعضها الآخر لا يتحرّك إطلاقًا – لا بدّ من الالتفاف حوله. فقمة القطب الشمالي تكابد بأسنانها ومخالبها لصنع ثقوب في الجليد القاسي الذي لا يرحم. وطائر القطرس يضبط جسمه بمهارة مع تيارات الرياح التي تسرّع انزلاقه، لكنه لا يستطيع التحكم بها.
إن الفعل لدى غير البشر يتّسم بقدر أقل من السيطرة، وبقدر أكبر بما يشبه التعاون. إنه نمط من الوجود يكون فيه "الفعل" مرادفًا للعمل مع البيئة، لا السيطرة عليها. الفعل أشبه بدعاء السكينة: امنحني السكينة لتقبّل ما لا يمكن تغييره؛ والشجاعة لتغيير ما يمكن تغييره؛ والحكمة لتمييز الفرق بينهما. تخيّل نفسك تسبح في المحيط حين تقترب منك موجة كبيرة؛ يمكنك أن تختار أن تعبر من فوقها أو أن تغوص تحتها، لكنك لا تستطيع أن توقفها – عليك أن تسير مع التيار.
لقد كان هذا التصوّر للعالم يومًا ما تصوّرنا نحن أيضًا. قبل أن يظهر لنا العالم كشيء قابل للتلاعب والسيطرة، مهيّأ ليُطوّع لإرادتنا، كان حاضرًا بطريقة ديناميكية. كان هناك كدَفعة – أحيانًا تساند، وأحيانًا تعارض. كان قوة لا بد من أخذها بالحسبان، تفرض نفسها على أفعالنا وتستدعي انتباهنا.
وهذا ما تُمكننا "قوّتنا الخارقة" من تجاوزه – ومن نسيانه.
عندما أفكّر في الفهم السببي لدى البشر، كثيرًا ما أتذكّر فيلم "تلميذ الساحر" (The Sorcerer’s Apprentice). إنه فيلم قصير من إنتاج ديزني، ضمن الأنطولوجيا الموسيقية "فانتازيا" (1940)، ويستند إلى قصيدة تحمل الاسم نفسه من تأليف غوته. في هذا الفيلم، يظهر ميكي ماوس – مرتديًا قبعة الساحر الزرقاء ورداءً أحمر – كتلميذ مشاغب في مدرسة السحر. يسرق كتاب التعويذات الخاص بمعلمه، ويسحر مكنسة لتؤدي عمله: ملء قدر كبير بالماء. تنبت للمكنسة ذراعان، وتحمل دلاء ميكي، وتبدأ في التحرك جيئة وذهابًا. تجلب الماء وتسكبه في القدر. ثم تعيد الكرّة… مرة بعد مرة بعد مرة. يمتلئ القدر ويفيض، ويبدأ ميكي في الذعر. فيقطع المكنسة بفأس – لكن كل شظية سحرية تتحوّل إلى مكنسة جديدة! وسرعان ما يظهر جيش كامل من المكانس، يواصل ملء القدر دون توقف. وعندما يأتي الساحر أخيرًا لإنقاذه، يكون ميكي متشبثًا بكتاب التعويذات، يطفو على طوف وسط فيضان عارم.
إن فهمنا السببي هو الأساس الذي قامت عليه العلوم والهندسة. لقد منحنا أنظمة الصرف الصحي، والكهرباء، والتعقيم؛ والدراجات، والأنفاق، والصواريخ؛ واللقاحات والعلاج الكيميائي. وهو أيضًا الأساس للتقنيات الاجتماعية مثل المساءلة الأخلاقية، والاتفاقيات التجارية، وقوانين المرور. إنه ما يتيح لنا التخطيط، وسرد القصص، وتخيّل إمكانيات جديدة. لكن هذا الفهم يمكن أن يكون سحرًا مظلمًا أيضًا. فقوّتنا الهائلة في التلاعب ببيئاتنا المادية والاجتماعية أنتجت ملوّثات صناعية تغيّر المناخ؛ وميكروبلاستيك يتسرّب إلى أدمغتنا، وخصانا، وحليب ثدى الأم؛ والمزارع الصناعية والمبيدات السامة؛ وأطعمة معالجة مُسببة للإدمان؛ ومخدّرات مُدمّرة؛ وأسلحة دمار شامل؛ وخوارزميات صُمِّمت عمدًا لتوجيه قراراتنا وسرقة انتباهنا.
بوسعنا أن نوظّف فهمنا للسببية للتأثير الواعي في سلوكنا وتوجيهه وفق ما نريد.
قدرتنا الجماعية على اتخاذ قرارات جديدة بشأن كيفية استخدام هذه القوة الهائلة التي نملكها هي ما سيُحدّد مصير نوعنا البشري. وما يجعل الأمر مخيفًا ومحبطًا وصعبًا هو أنه يبدو خارج نطاق سيطرتنا؛ إنه أكبر من أي فردٍ منا، وأبعد من المدى الذي تطوّرنا عليه لتوجيه أفعالنا نحو أهداف محددة.
لكن إليك ما يجعلني متفائلًا: أعتقد أننا نستطيع استخدام فهمنا للسببية للتدخّل في سلوكنا وتغييره. أولًا، نحن نعلم أن هذا الفهم يتميّز بمرونة عالية. فحتى الأطفال في المرحلة الابتدائية يمكنهم أن يتعلّموا العلاقات السببية المعقّدة في النظم البيئية، وسلاسل الغذاء، وعدم المساواة البنيوية – وهذا يفتح المجال لتوظيفه في التعليم، وكتب القصص، ووسائل الإعلام الموجّهة للأطفال.
كما نعرف قوة الجانب الاجتماعي – قوة لفت الانتباه إلى المتغيرات لبعضنا البعض. فالأصدقاء والعائلة يشكّلون مصدرًا مؤثرًا في ترسيخ العادات المتعلّقة بالعوامل السببية التي تؤثّر في صحتنا (مثل التمارين، والنظام الغذائي، والملوّثات الدقيقة)، وفي صحة كوكبنا (مثل تناول اللحوم، والتسميد، والممارسات الاستهلاكية المستدامة). وكلما زاد الحديث بيننا عن هذه العوامل الفارقة، زادت فرص تكرار هذه الأفعال وانتشارها على نطاق النوع البشري بأكمله.
وأخيرًا، فإن فهمنا للسببية متجذّر – في الأصل – في القيم التي نؤمن بها، وفي الأشياء التي نرغب بتحقيقها. فالتعلّم السببي الأكثر بدائية يحدث عندما نسعى وراء ما نريد حدوثه. وهذا يعني أن الاقتراحات المتفائلة والموجّهة نحو الفعل من المحتمل أن تكون أكثر تأثيرًا من الخطاب المتشائم واليائس.
من الأمثلة المفضّلة لديّ في خيالنا السببي الإنساني كتاب ماذا لو نجحنا؟ (2024) لعالمة الأحياء البحرية والناشطة المناخية أيانا إليزابيث جونسون. تدعونا جونسون في هذا الكتاب إلى تخيّل المستقبل الذي نريد أن نعيش فيه، والسعي نحوه – كلٌ منا بطريقته، وفي مجتمعه الخاص. تقول: لدينا بالفعل الكثير من الحلول، وما نحتاجه هو التوسيع والانتشار والتطبيق. بهذا المنظور، أعتقد أن هناك أملًا. فبين "ماذا لو نجحنا؟" و"ماذا يمكنني أن أفعل؟" مجرد خطوة صغيرة.
هيا بنا نبدأ في العمل!
(انتهت)
***
........................
الكاتبة: مارييل جودو/ Mariel Goddu: طالبة دكتوراه في الفلسفة بجامعة ستانفورد، كاليفورنيا. عملت كعالمة معرفية ممارسة بين عامي ٢٠١٢ و٢٠٢٢، حيث تركز أبحاثها على التفكير السببي في مرحلة الطفولة المبكرة. حصلت على أول درجة دكتوراه لها في علم النفس التنموي من جامعة كاليفورنيا، بيركلي، عام ٢٠٢٠. يتقاطع عملها الفلسفي مع فلسفة الفعل، وعلم الأحياء، والعقل.