قراءة في كتاب
عدنان حسين أحمد: الجندرية والمثلية والبِغاء وإشكاليات السياسة والدين في العراق (1- 2)

صدر عن دار لندن للطباعة والنشر في المملكة المتحدة كتاب جديد للدكتور قاسم حسين صالح يحمل عنوان "الجندرية والمِثلية والبِغاء.. وإشكاليات السياسة والدين في العراق" وهو الكتاب الثامن والخمسين ضمن رصيده الفكري والإبداعي بشكلٍ عام. يتألف الكتاب الذي يقع في 242 من القطع الكبير من مقدمة وستة فصول متنوعة توزعت كالآتي:"مجتمع، فكر وتعبير عن الرأي، العراقيون.. شعب استثنائي، دين، الشخصية العراقية وكوميدية عراقية" كما أنها جمعت بين علوم وأجناس أدبية متعددة كعِلم النفس والاجتماع والأدب والفن والحوار الصحفي العميق والدراسات الميدانية والاستبيانات وما إلى ذلك.
المحظور والممنوع والمحرّم
لا بدّ من الإشارة إلى التقديم الذي دبّجته أنامل الدكتور فجر جودة، أستاذ علم الاجتماع والانثروبولوجيا الثقافية في جامعة بغداد الذي وصف هذا الكتاب القيِّم بالزلزال الذي "لم يعرف درجته على مقياس رختر" لأنّ الدكتور قاسم "أدخلنا في المحظور والممنوع والمحرّم" وأكثر من ذلك فقد خَرَقَ المستور، وفضح المسكوت عنه، ولامَس بجرأة كبيرة العديد من الموضوعات الحساسة اللامُفكَّر فيها كالبغايا والسمسارات والمثليين والسُحاقيات والمُخنثين وما سواهم من شخصيات يعتبرها المجتمع العراقي إشكالية "شاذة" خرجت عن الصِّراط المستقيم. ومَن يقرأ هذا التقديم المُعمّق سيكتشف من دون لأيْ أنّ الدكتورة جودة قد قرأ فصول الكتاب برمتها ولامسَ ثيماتها الرئيسة، وأشادَ بأسلوب كاتبها الأدبي الذي يجمع بين حلاوة الكلمة المُنتقاة، وطلاوة الجُملة الرشيقة المُنمّقة، وخفة الظل التي تخفف من وطأة الأبحاث والدراسات الأكاديمية التي تخلو من الطُرَف والنُكت والكلام المُستملح.
يعتقد الدكتور جودة أنّ الجندر والجنس هو موضوع الكتاب المركزي وهو يستحق أن يتوقف عنده قليلًا، فالأول ثقافي والثاني بيولوجي كما يقول علماء الاجتماع. فالجنس يعني الاختلافات البيولوجية بين الذكور والإناث، والجندر يضع في الاعتبار الاختلافات النفسية والاجتماعية والثقافية بين الجنسين. ولو توخينا الدقة لقلنا أن الجندر يعني "النوع الاجتماعي" أو "الهُوية الجنسية" للكائن البشري الذي يقبل بالخصائص الجينية التي يتوفر عليها ويقتنع بها من دون تأفف أو تذمّر أو استياء. فالجندر مصطلح سيكولوجي وليس وصفًا بيولوجيًا. أمّا اضطراب الهُوية الجندرية فيعود إلى أسباب بيولوجية وخلل في ثلاثة هرمونات وهي الأندروجين (ذَكَري) والبروجستيرون والأستروجين (أنثويان) والهرمونات الثلاثة موجودة عند الذكر والأنثى والمشكلة في كميات إنتاجها المختلفة حيث يُصبح بعض الرجال أشدُّ ذكورة من غيرهم وهذا الأمر ينطبق على النساء أيضًا الأمر الذي يفضي إلى تخنّث بعض الذكور أو اضطراب الهوية الجندرية عند كلا الجنسين.
أجاز القانون الأمريكي عام 2015 زواج الرجل بالرجل في كل الولايات الخمسين بعد أن كان مسموحًا في ثلاث ولايات فقط بينما تنص القوانين في بعض البلدان العربية على الإعدام أو السجن أو الغرامة المادية أو بكليهما معًا وهذا يعني أنَّ العالَمين العربي والإسلامي يتعاملان مع "المِثليين الجنسيين" كمجرمين وليس كمرضى يعانون من خلل أو اضطراب هرموني. لعل الأوروپيين والأمريكيين أو العالم المتحضر برمته أشجع منا في مناصرة العِلم والاصطفاف إلى جانبه ويكفي أن نشير هنا إلى أنَّ وزيرة داخلية ألمانيا نانسي فيزر التي حضرت مباراة بلدها مع اليابان ضمن بطولة كأس العالم لكرة القدم في قطر كانت ترتدي شعار دعم المثليين (حُب واحد) في منصة المتفرجين الخاصة بالمسؤولين ووُصف هذا التصرف بأنه تحدٍ سافر لقوانين قطر وخرق لمنظومة قيمها التي دأبت عليها منذ سنواتٍ طوالا. ومَن يتأمل تصرّف الوزيرة الألمانية من وجهة نظر أوروپية سيجدها طبيعية جدًا لأنّ معظم الساسة الأوروپيين يؤيدون هذا الحق في برامجهم الانتخابية ويضعونه في أعلى سُلّم أولوياتهم لأنهم ينظرون إليه من جانب علمي لا يأبه، في الأعم الأغلب، بمنظومة القيم التي تجترحها مجتمعاتهم لأنهم يعتقدون أنها قائمة على خرافات وأباطيل تنسجها الذاكرة الشعبية التي لا تستند في كثير من الأحوال على الحقائق العلمية الدامغة.
لا يمكننا الإحاطة بكل الموضوعات المهمة التي احتواها الفصل الأول لذلك أحيل المتلهفين لقراءة هذا الكتاب إلى الحوار العِلمي الدقيق الذي أجراه المؤلف مع فرويد وغطّى فيه على مدى 16 صفحة موضوعات شديدة الأهمية وردت في سياق الأسئلة أو الأجوبة معًا من بينها أنَّ الشاعر والكاتب المسرحي شكسبير قد سبق فرويد في اكتشاف اللاشعور وضمّن تأثير العقل اللاواعي في العديد من مسرحياته. كما توقف عند إبداعات دا ڤنشي ومثليته، ونتاجات دستويَفسكي وعُقدة أوديب وما سواها من موضوعات مثيرة للجدل جمعها الكاتب بحِرَفية عالية في هذا الحوار العلمي الشائق الذي يلامس النسغ الصاعد لشجرة فرويد السامقة.
الحفاظ على القيم الدينية
يولي الدكتور قاسم حسين أهمية كبيرة للقانون الذي أقرّه مجلس النواب العراقي في 27 - 4 - 2024م الذي يُجرِّم العلاقات المثلية بحجة "الحِفاظ على القيم الدينية" تارة أو "الحِفاظ على كيان المجتمع العراقي من الانحلال الخُلقي" تارة أخرى، ويعاقب مرتكبيها بالسجن لمدد قد تصل إلى 15 سنة والحبس لسبع سنوات لأي شخص يروِّج "للبِغاء والشذوذ الجنسي" غير أنَّ الباحث يدعوهم إلى الاستعانة بالأطباء المختصين والاستشاريين النفسيين في التعامل مع مِنْ سيُقبَضُ عليهم ودراستهم قبل إحالتهم إلى المحاكم المُختصة.
تكمن أهمية هذا الكتاب في الأبحاث واللقاءات المباشرة التي أجراها الدكتور قاسم حسين مع البغايا والسمسارات حيث التقى بـ 77 مومس وقوّادة تتراوح أعمارهنَّ بين 17 و 55 بَغية تحليل شخصياتهنَّ والأسباب التي دفعتهنّ إلى ممارسة الدعارة وتبيّن أنَّ نسبة المتزوجات في هذه العيّنة قد بلغت 58% مقابل 42% بين مُطلّقة وأرملة وعزباء. ومن المواقف الطريفة في هذه الدراسة الميدانية أنَّ فتاة "جميلة أنيقة لَبِقة"، ذات شخصية مُعتَبرة ادّعت بأنه قد جيء بها بالخطأ وسوف يُخلى سبيلها في اليوم الثاني، وهذا ما حصل بالفعل بعد أن جاء أحد أفراد حماية "الرئيس" وأخذها معه، وحينما أعادها سمير الشيخلي، وزير الداخلية آنذاك للحجز ذاته تمت إقالته من منصبه بعد عدة أشهر، ويظن الباحث أنّ إقالة الوزير كانت بسبب (بائعة هوى)!
أمّا قصة "الحاجة مبروكة" فهي قصة أقرب إلى الخيال المُجنّح منها إلى الواقع الأسيان حيث تعرّفت في سن الثالثة عشرة إلى شاب أطلق عليه الباحث اسم "ربيع" الذي استسلمت له ومارسا "الخطيئة" وذهب إلى حال سبيله لكنها استطاعت أن تتصل به ثانية وتخبره بأنها ستبوح بالأمر إلى اخوانها الذين سيقتلونه مهما كلّف الأمر فيوافق على الزواج منها مُرغمًا وسوف يطلّقها لاحقًا. ثم تقترن بسمسار، وشيخ غجري، وسمسار ثانٍ وظلت تمارس الدعارة حتى عام 1982م. ثم عادت إلى مدينتها والتقت بوالدها الذي أُوشك أن يُغمى عليه لكنها أخبرته بأنها متزوجة و مستورة الحال، وقد اشترت منزلًا فخمًا كتبت على واجهته "بيت الحاجة مبروكة"، وزكّت أموالها، وأخذت تتصدّق على الناس لتكفِّر عن خطيئة قتل أمها حينما اتهمتها زورًا بأنها كانت تحرّضها على الزنا ودفعت أصغر أشقائها لقتلها ظلمًا وبهتانا. ونظرًا لمساعدتها للفقراء والمحتاجين في الحي الذي تسكنهُ، ومواقفها الطيبة، وكرمها اللامحدود فقد أطلقوا عليها لقب "الحاجة مبروكة" وصار اسمها يتردد على الألسن تردد الحِكم والأمثال.
الشخصية المحمدية
يتمحور الفصل الثاني من الكتاب على أربع شخصيات رئيسة تختلف في نوع الإشكاليات التي خلّفتها للمُثقفين والقرّاء في آنٍ معًا إضافة إلى موضوع خامس يتناول انتحار الأدباء والأسباب التي تدفعهم إلى هذه النهاية المُروعة سواء أكانت أزمة حياة أم أزمة دين أم خلل عقلي، وهو أجرأ الفصول قاطبة، من حيث الموضوع الحسّاس الذي يناقشه الدكتور قاسم حسين بموضوعية كبيرة من دون أن ينحاز إلى هذا الطرف أو ذاك. فكتاب "الشخصية المحمدية أو حلّ اللغز المقدّس" للشاعر معروف الرصافي الذي يتألف من 768 صفحة يتضمن الكثير من الموضوعات والقضايا الإشكالية التي يتفاداها الكُتّاب والباحثون والنقّاد خشية من التكفير أو الاتهام بالإلحاد والزندقة وما إلى ذلك من تُهم جاهزة قد تُفضي إلى القتل في بعض البلدان العربية والإسلامية. يستعرض الدكتور قاسم حسين خمسة آراء أثارت مواقف متضادة؛ إذ يرى فريق من العلماء أنّ الرصافي في كتابه هذا يرفض الدين والنبوّة ويُعلن عن إلحاده فلا غرابة أن يكفّروه. ويرى فريق آخر أنّ الرصافي قد استعمل المنهج الشكّي في دراسة المعتقدات ليمنح العقل الإنساني مناقشة ما هو محرّم أو مقدّس. وأرجع فريق ثالث سبب كتابة هذا السِفر إلى إيمان الرصافي بعقيدة وحدة الوجود الصوفية. وأعجب آخرون في أنّ الرصافي صدم الإيمان التقليدي ويقينهم بأنّ القرآن هو كتاب الله المنزّل. فيما اقترح فريق خامس بأن يُقرأ "كتاب الشخصية المحمدية" قراءة علمية نقدية وليس قراءة دينية تضع القارئ بين خيارين لا ثالث لهما وهما الإيمان أو الإلحاد.
يؤكد الرصافي بأنّ محمدًا لم يُعرَف قبل النبوّة ولم يُذَع صيته وإنما اشتهر بعد النبوة. ويرى الباحث أن ننزّه حياة النبي مما لا يقبله العقل والمنطق ونُبعدهُ عن الخرافات والأساطير المُختلَقة وأن نقدّمه إلى العالم بوصفه إنسانًا مثل أبناء عصره وزمانه باستثناء ميزة الذكاء التي انفرد بها، وأنّ أسفاره ولّدت لديه الفضول المعرفي الذي سوف يتعمّق بعد إطلاعه على الثقافتين اليهودية والمسيحية.
يعتقد الباحث أن أعظم عبقريات محمد أنه قَرَن اسمه باسم الله (ولم يجعل الإيمان شهادة واحدة بل شهادتين " لا إله إلّا الله، محمد رسول الله" فجعل اسمه رديفًا لاسم الله ليكون مُقدسًا مُطاعًا)(ص28). كما أمرَ المسلمين والمؤذنين أن يذكروه عند كل تشهّد في صلاتهم اليومية مع أنّ القرآن قد خصّ بالله "وأقم الصلاة لذكري"(سورة طه، آية 14). فما أراده النبي محمد هو الذِكر المقدس الخالد نفسه. ويرى الباحث أنّ دعوة محمد لم تكن دعوة محلية تخص العرب حسب، ولا دعوة إسلامية خالصة، بل كانت دعوة سياسية وعالمية.
ثمة شيئان مهمان يبنغي الإشارة إليهما في متن كتاب "الشخصية المحمدية" وهما "أنَّ القرآن بفكرته وصياغته هو من صنع محمد وإبداعه الشخصي وعبقريته الاستثنائية!" وأنَّ الجنة هي من مبتكرات النبي الذي لم يسبقه إليها أحد بما فيها ذلك الكتب السماوية التي سبقت القرآن". علمًا بأنّ كلمة الجنة وردت في القرآن 66 مرة فيما وردت الجنات 69 مرة.
الخرافات التي تسيء للإسلام
يرى الباحث بأنّ كُتابًا ومستشرقين أجانب تعمّدوا الإساءة إلى النبي محمد وأتهموه بأنه مُصاب بالشيزوفرينيا ودليلهم في ذلك حالات الإغماء التي كان تعتريه وحجته في ذلك أنه كان يسمع أصواتًا تأتيه من الله فيما يعزوها الأجانب إلى درجة حرارة الصحراء المرتفعة بينما يذهب الدكتور قاسم حسين المتخصص بالأمراض النفسية والعقلية إلى أنّ المُصاب بالشيزوفرينيا ينفصل عن الواقع الذي يعيش فيه ويعيش في عالم الخيال الذي يخلقه لنفسه كأن يدخل مسجدًا ويغني بين المصلين ولا يعود إلى الواقع إلّا بحجزه في مستشفى الأمراض العقلية ليتلقى العلاج بما في ذلك الصدمات الكهربائية. تُرى، كيف استطاع النبي محمد أن يغيّر ربع العالم تقريبًا إذا كان مُصابًا بالشيزوفرينيا؟ ويخلص الدكتور قاسم إلى القول بأنه لا يتفق مع بعض تحليلات وتفسيرات الرصافي لكنه يرى كتاب "الشخصية المحمدية" يحقق هدفين أولهما أنه أحدث تغييرًا كبيرًا في طريقة فهمنا للرسالة السماوية، وثانيهما أنه نظّف العقل الديني الإسلامي وعقول خطباء الجوامع التقليديين من خرافات تسيء للإسلام كدين وإلى محمد كنبي وأنّ الرصافي مؤمن بالله وما كان كافرًا. وعلى الرغم من هذا الاستنتاج إلّا أنّ كتاب "الشخصية المحمدية" ينطوي على إشكالات كثيرة لا يتسع المجال لشرحها أو الوقوف عند في هذه المساحة الضيّقة.
يمكن إيجاز الموضوعين المتعلقين بالمفكر والروائي عزيز السيد جاسم والكاتب والمشتغِل بحقل الفسلفة كامل شياع بأنهما كاتبان تنويريان؛ فعلاقة الكاتب التنويري عزيز السيد جاسم بالحاكم الدكتاتوري صدام حسين كانت إشكالية تمامًا ومُعرّضة للتقوّض والانهيار في أية لحظة. كما أنّ علاقة المثقف والكاتب التنويري كامل شياع مع النظام "الديمقراطي" كانت أكثر إشكالية وقد تمّ تصفيته بطريقة فظيعة ومرعبة. وستظل هذه الإشكالية قائمة إلى أن تتخلص الجماهير من ثقافة "القطيع" وتأتي بحكّام جدد يؤمنون بالتداول السلمي للسلطة. فقد أُعدم الأول ولم تُسلّم جثته إلى أهله وذويه، كما أُغتيل الثاني وسُجلت القضية ضدّ مجهول. أما معرفة الدكتور قاسم بالكاتب وعالِم الاجتماع علي الوردي فتعود إلى عام 1989م الذي حاوره لمجلة "الجامعة" الرصينة ونشر قسمًا من الحوار ولو جازف بنشر القسم الثاني لوجدا نفسيهما في سجن أبي غريب. ثم تطورت العلاقة حينما بدأ الدكتور قاسم بدراساته الميدانية عن البِغاء وأسبابه. ولا حاجة لنا بالإشارة إلى تهكم علي الوردي وسخريته التي يعرفها القرّاء جيدًا. أما مكانته العالمية فيكفي أن نستشهد بمقولة البرفيسور جاك بيرك الذي قال عن علي الوردي بأنه "كاتب يحلّق إلى العالمية بأسلوبه الذي يضرب في المناطق الحساسة في المجتمع كفولتير"(ص83). ينصح الدكتور قاسم حسين بقراءة كتابين مهمين لعلي الوردي وهما "تحليل سوسيولوجي لنظرية ابن خلدون" و "منطق ابن خلدون" ومنْ لم يقرأ هذين الكتابين من وجهة نظر الباحث لن يقف على حقيقة إبداع ابن خلدون ولن يُدرك ما يمتاز به الوردي من قدرة استثنائية على التحليل العلمي.
يناقش الباحث موضوع "انتحار الأدباء" ويتساءل في عنوان المقال إن كان الانتحار أزمة حياة أم دين أم خلل عقلي؟ يُورد الباحث أسماء العديد من الأدباء العرب والأجانب الذين انتحروا لأسباب مختلفة وبطرق متنوعة؛ فهناك من انتحر بالسُم أو بالشنق أو برصاصة أو بالكوكايين أو بالحبوب المُنومة أو الطعن بخنجر أو سكّين. يُحدد عالم الاجتماع الفرنسي دوركهايم ثلاثة أنواع من الانتحار وهي: الانتحار الأناني، والإيثاري، واللا معياري. ويُورد النتائج التي توصل إليها إريك فروم في كتابه "المجتمع السوي" إلى أن نسبة الانتحار قد تزايدت في المجتمع الغربي الحديث.
لا وجود لشخصية عراقية نموذجية
يتناول الباحث في الفصل الثالث المعنون "العراقيون: شعب استثنائي" خمسة عشر موضوعًا تبدأ بـ "القبيح والجميل في الشعب العراقي" وتنتهي بـ "الحوَل العقلي.. مرض جديد أصاب العراقيين" وسنحاول تغطية هذه الموضوعات قدر المُستطاع. فالباحث لا يؤمن بوجود شخصية عراقية نموذجية تمثّل المجتمع العراقي. ويعتقد بوجود شخصيتين في المجتمع العراقي في ألفيته الثالثة؛ الأولى تمثل جيل الكبار 35 سنة فما فوق، والثانية تمثّل جيل الشباب 35 سنة فما دون مع وجود صفات إيجابية وسلبية مشتركة لدى الشعب العراقي بشكل عام. ثمة دراسة استطلاعية يطلب فيها الباحث من المُستطلَعين أن يحدِّدوا ثلاث صفات إيجابية وثلاث صفات سلبية في الشعب العراقي. يناقش الباحث موضوع "شعوب ما تحت البطن وما فوقها" حيث ردّ على تساؤل الإعلامي زيد الحلي الذي طرحه على الفيسبوك وعلّق عليه الآخرون. أمّا رد الدكتور قاسم حسين فقد أوجزه بنظرية "الدوافع والحاجات". واستشهد بفرويد الذي يرى أنّ الدافع الجنسي هو الذي يحرّك السلوك وأيّده رايش الذي عزا سبب الحرب العالمية الثانية إلى الحياة الجنسية غير المُشبعة للقيصر وللارستقراطية. وأنّ الإنسان عند فرويد هو كائن بيولوجي أكثر منه كائن اجتماعي. وكانت مغالاته في الجنس هي العامل الرئيس الذي انفرط بسببه عقد ثلاثي التحليل النفسي الشهير "فرويد، يونغ، أدلر". وبعكسه اعتبر إريك فروم أنّ الدوافع التي تُحدد الاختلافات بين سلوك وشخصيات الأفراد كالحُب والكره والجنس والخوف هي جميعها مُنتجات اجتماعية. فيما اعتبر أبراهام ماسلو الحاجات الفسيولوجية "ما تحت البطن" في قاعدة هرم الحاجات. واعتبر الحاجة إلى الطعام والشراب والنوم والجنس هي أكثر الحاجات أساسية وقوة وأنها يمكن أن تقف في طريق الحاجات المعرفية "ما فوق البطن". كما أكدّ ماركس أنّ قيمة الإنسان تكمن في تحقيق حاجات "ما فوق البطن". ثمة تُهمة تصف العراقيين والعرب بأنهم منشغلون بالأكل والجنس. تُرى، هل هذه التُهمة صحيحة أم لا؟ يؤكد الدكتور قاسم حسين بأنّ أفضل نظام عاشه العرب هو "الخلافة الراشدية" التي كان فيها الحاكم يتقاضى راتبًا محددًا ولا يستطيع التلاعب بأموال الشعب. ثم جاءت الخلافة الأموية التي تفردت بالثروة، وأشاعت الترف بين الحكّام واللاعدالة بين الناس، ثم ضاعفت الخلافة العباسية أجواء الترف والمجنون، وبالغت الدولة العثمانية في الاستحواذ على كل شيء تقريبًا ولعل "حريم السلطان وقصورهم" خير شاهد على المبالغة في الإسراف والتبذير.
البحث عن مُخلِّص
يعتقد الباحث أنّ السلطة تحتكر الثروة منذ 1450 سنة وحتى الآن وأنّ الشعب يعاني من الحرمان والبؤس والاضطهاد وهو ما يتكرر الآن بمفارقة غريبة جدًا. ومن الناحية النفسية يرى الباحث أنّ الشعب الذي ينشغل بتأمين حاجات الطعام والشراب والجنس يكون عُصابيًا "أي مريض نفسيًا" بل أنه دُجِّن ليكون مازوشيًا. كما أنّ الشعب المقهور يعمد إلى العنف والعدوانية تنفيسًا عن حالة العجز والمهانة وانعدام الشعور بالطمأنينة وهذا هو حال العراقيين الآن. فلا غرابة أن تتعطل عند هذا الشعب حاجات "ما فوق البطن". وليس من المُستغرب أن يغرق هذا الشعب في التمنيات ويبحث عن مُخلّص كما حصل مع "السيد مقتدى الصدر" الذي لم يفشل في الإنقاذ حسب وإنما أخفق في تحقيق الإصلاح الذي وعد به مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ حكومات ما بعد التغيير هي الأفشل والأفسد في تاريخ العراق والمنطقة.
يكتظ هذا الفصل بالمفارقات والموضوعات الطريفة ولعل أبرزها مقال "شيوعيون قادة.. أبناء رجال دين" الذي رصد فيه الباحث أنّ 32% من أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي للمدة من 1955- 1963 هم عائلات من السادة. أمّا سبب تحوّل أبناء رجال الدين إلى شيوعيين مع أنّ المفهوم العام للدين هو الإيمان المُطلق والشيوعية كفر وإلحاد. ويرى حنّا بطاطو أن نسبة التعليم لدى شريحة رجال الدين أكبر منها لدى شرائح الشعب المتواضعة. ومن بين الشيوعيين السادة الكاتب والروائي عزيز السيد جاسم الذي استقطبهُ صدام حسين في صحيفة "الثورة" ثم في مجلة "وعي العمّال" ثم غيّبهُ بعد أن صار مفكرًا كبيرًا. ورغم أنه علوي ومؤلف كتاب "علي سلطة الحق" الذي كان أحد أسباب اعتقاله إلّا أنه أصبح نسيًا منسيًا في زمن حُكّام يدّعون أنهم أحفاد علي وأخلص شيعته لكنهم قلبوا له ظهر المجّن.
التشبث بالأحزان
كثيرة هي المواقف والأسباب التي تدعو العراقيين إلى التشبث بأحزانهم حيث يُورد الباحث قضايا وعلامات فارقة في التاريخ مثل طرد آدم وحوّاء من الجنة والحزن الذي ألمّ بهما، وحزن گلگامش على موت صديقه أنكيدو، وحزن النبي يعقوب على ولده يوسف، وحزن الخنساء على أخوتها وما سواها من الشخصيات الحزينة في التاريخ العراقي. ثم ينتقل الباحث إلى الحزن الناجم عن فقدان الفرد لأهله وذويه وأحبائه فقد تعرّض الشعب العراقي إلى ثلاثة حروب متتالية وحصار ظالم استمر لثلاث عشرة سنة وأعقبها احتراب طائفي وإرهاب ومقاومة احتلال وتهجير قسري فمن الطبيعي أن يتحول الحزن إلى حالة مرضية ولا يبقى ضمن دائرة العاطفة الإنسانية الطبيعية. وقد قام الباحث بالتعاون مع الدكتور هيثم الزبيدي بتصميم "مقياس نفسي" يقيس به درجة الحزن فتبيّن أنّ العيّنة المُنتقاة جميعها تعاني من "الحزن المرضي".
يلتفت الباحث إلى موضوع شديد الأهمية وهو تباهي العراقيين بالحزن ويُرجع ذلك إلى أنّ العراق هو البلد الأكثر تعرضًا للكوارث والحروب والفواجع والمحن مثل الطوفان وواقعة كربلاء وتأثير الأنظمة الأربعة التي توالت على حكم العراق كالأمويين والعباسيين والعثمانيين والبعثيين وكانوا قساة إلى درجة لا تصدّق الأمر الذين خلّف أحزانًا متواصلة لم تنقطع على مرّ التاريخ. وعلى الرغم من هذه الإحن والمِحن إلّا أنّ العراقيين كانوا يسيطرون على الفواجع بالنذور التي حددها الدكتور قاسم حسين بسبعة نذور تجلب التفاؤل وتخفف من حدة القلق وهي:"خُبز العباس، حلّال المشاكل، النقود، نذر الكاروك، نذر الحيوانات، صواني زكريا وشموع العذراء وقراءة الأبراج".
الشعب الأسطوري
ومع أنّ أول قيثارة وأول عود وأول نص غنائي كان من اجتراح السومريين إلّا أنّ الأحزان المكثفة كانت من نصيب العراقيين ومع ذلك فإنهم يحتفلون بالأعياد المحلية والعالمية مثل "عيد الحُب". ويرى الباحث أن سبب الحُب هو حاجة الإنسان إلى "التعلّق" بشخص أو جماعة أو وطن فالحُب يقضي على شرور النفس وأمراضها ويفتح لنا كوّة للأمل والاسترخاء والراحة النفسية. ربما يعتقد البعض أنّ الدكتور قاسم حسين يبالغ حينما يصف العراقيين بـ"الشعب الأسطوري"، فالكورد العراقيون فقدوا في حملة "الأنفال" سيئة الصيت والسمعة 182000 مواطن، وهاجر من العراقيين أكثر من 5 ملايين مواطن، وقُتل وجُرح منهم ألوفًا مؤلفة ومع ذلك فهم يرقصون ويغنّون ويحتفلون في كل مناسبة وطنية أو قومية أو دينية والسبب بحسب الباحث أنهم اكتسبوا قدرة على التكيّف مع الوقائع والأحداث جعلت منهم حالة استثنائية بحق.
يعتقد الدكتور قاسم حسين أنّ المس بيل هي أول من درست شخصية رؤساء العشائر العراقية. ويرى بأنّ الإنگليز هم الذين أدخلوا شيوخ العشائر في ميدان السياسة. وأكدت بيل بأنّ أصلح طبقة لحكم العراق هم شيوخ العشائر لذلك أشركوهم في المجالس النيابية المتعاقبة. وبحسب بيل تتحكم المرجعية الدينية بعشائر وسط وجنوب العراق بينما تتحكم القيم البدوية بعشائر الغربية بينما تجمع الطرفين العصبية القبلية. ويخلص الباحث إلى نتيجة مفادها "أنّ المس بيل كانت تفهم العشائر العراقية أفضل من أي كاتب أو مفكر عراقي"(ص 144) والأهم من ذلك "أن بعض شيوخ العشائر كانوا متعاونين مع الإنگليز ويحصلون منهم على الرشوات بعد أن رضخوا للإغراءات المادية والمعنوية وباعوا ضمائرهم مقابل الأموال والمناصب. وثمة مقارنة مشابهة لما قام به صدّام والمالكي مع العشائر العراقية.
يتوقف الباحث عند موضوع "الحوَل العقلي" الذي اجترحه مؤخرًا والمُصاب بهذا المرض يرى الإيجابيات في جماعته ويغمض عينيه عن سلبياتها، ويضخم سلبيات الجماعة الأخرى ويغمض عينيه عن إيجابياتها. والمُصاب بهذا المرض يرى جماعته على حق دائمًا بينما يرى الأخرى على باطل. وأنّ هذه الأخرى هي سبب الأزمات مع أنّ جماعته شريكة فيها. يقتصر الحوَل العقلي على الغالبية العظمى من الحُكّام الذين استلموا السلطة بعد 2003 لدرجة أنهم يرون العراق من حقهم ولا حق للآخرين فيه. يستثني الباحث ثلاثة مكوّنات اجتماعية لم يُصبها الحوَل العقلي وهي المرجعية الدينية والتقدميون والمُحبّون للعراق كوطنٍ للجميع، أما غالبية العراقيين فهم مصابون بالحوَل العقلي وعلاجهم غير ممكن حتى الآن.
***
عدنان حسين أحمد - لندن