أقلام فكرية
غالب المسعودي: أبولوجيا التدجين والسلطة.. من الإخضاع البيولوجي إلى الترويض الكينوني
من الإخضاع البيولوجي إلى الترويض الاجتماعي
مفهوم التدجين، الذي يتضمن العملية البيولوجية التي تزامن تاريخياً مع الثورة النيوليثية، نُقِل لاحقاً في الفكر النقدي والفلسفي ليصف آليات السيطرة الاجتماعية والسياسية. في هذا السياق، يُعرَّف التدجين بأنه عملية سياسية واجتماعية تهدف إلى تدجين الشعوب. يسعى هذا التدجين الاجتماعي والفكري إلى تركيع إرادة الشعوب وسلب حريتهم وقهر إرادتهم ضمن إطار الإذلال والاستضعاف، لخدمة مصالح الحاكم وحاشيته.
الهدف من هذا التحليل هو تتبع هذه السيرورة التاريخية والفلسفية، وكشف كيف تحوَّل التدجين من تقنية بيولوجية لاستخراج المنفعة المادية، إلى تقنية سلطوية لاستخراج المنفعة الإدارية والخضوع السياسي.
الأبولوجيا: الخطاب التبريري للسلطة
تعمل الأبولوجيا (أي الخطاب التبريري) كآلية فكرية تُشرعن الهيمنة وتُغلِّفها بقيم عليا، سواء كانت إنسانية، دينية، أو وطنية. جوهر هذه الآلية هو تحويل فعل الإخضاع القسري إلى "قيمة أخلاقية وضرورة إيديولوجية" في علاقة الإنسان بالنظام السياسي وبالسلطة.
في المجتمعات التي تتبنى هذا الخطاب، يتم تبجيل الطاعة واعتبارها الحالة المثالية والحل الصالح لنجاح هذه العلاقات، بينما يُنظر إلى الفكر النقدي على أنه "فكراً هدّاماً". يضمن هذا التشويه للمفاهيم أن أي مطلب تغييري يصبح موصوماً بـ "روح سلبية وأهداف مشبوهة". هذه الاستراتيجية التبريرية هي الركيزة المعرفية التي تقوم عليها السلطة التدجينية، حيث تتولى الأيديولوجيا صناعة، أو إعادة صناعة، الواقع المعاش لسلوكيات الجماعات الخاضعة.
أهمية الاشتباك النقدي
يعتمد هذا التحليل على المنهج النقدي، المستمد من مقاربات فلسفية مثل مدرسة فرانكفورت والفلسفة الفوكوية، لتفكيك بنية هذه الأبولوجيا وكشف خطاباتها المتسترة. إن تبجيل الطاعة وغياب الحرية النقدية يؤديان حتماً إلى ازدياد التشدد والتطرف والانحياز لشخص أو فكرة، نتيجة غياب الحرية النقدية والرقابة الاجتماعية.
يشير التحليل النقدي إلى أن بناء مجتمع سليم يستحيل إذا حارب هذا المجتمع الحرية والفكر النقدي وقدَّس الطاعة. فالحرية والديمقراطية شرطان أساسيان لبناء الإنسان السليم عقلاً وجسداً، ولا مجتمع أخلاقي بدون حرية. لقد تجاوزت المجتمعات الإنسانية المتحضرة مفهوم الطاعة بهذا الشكل المَرَضي منذ عقود طويلة، واعتمدت النقد كقيمة فكرية وإنسانية وحاجة للتقدم والارتقاء بالبشرية. لذلك، فإن الاشتباك النقدي ضروري ليس فقط لفهم آليات التدجين، بل لإعادة تأسيس القيم الإنسانية للتحرر.
الجذور التاريخية للتدجين والسلطة
إن فهم آليات التدجين الاجتماعي يبدأ بالثورة النيوليثية، التي لم تكن مجرد ثورة زراعية، بل تحولاً عميقاً في التنظيم البشري. فالتدجين البيولوجي تزامن مع تغييرات في التنظيم الاجتماعي. وقد تميزت عملية التدجين البيولوجي بدور الإنسان كعامل تشتيت وإدارة لتكاثر الكائنات، وعامل اختيار (واعٍ أو لاواعٍ) لصفات معينة، ومُعدِّل للنظام البيئي. أنتج هذا التحكم في الطبيعة نموذجاً للهيمنة، يقوم على اختيار الصفات التي ستؤدي إلى إنتاج أفضل.
في هذه الحقبة، بدأت تظهر أقدم أشكال التنظيم الاجتماعي والسلطة. المكتشفات تشير إلى أن القرى المبكرة، مثل مرمدة بني سلامة، عرفت تخطيطاً معيناً للمساكن، حيث التزمت صفوفاً شبه مستقيمة يفصل بينها طريق ضيق. يمثل هذا التخطيط المُنظَّم أقدم دليل على نشأة نوع من التفاهم الاجتماعي ووجود سلطة في القرية استلزمت التنظيم وعملت على تنفيذه.
هنا يتضح أن التدجين، في جوهره، هو تقنية لاستخراج المنفعة والسيطرة. تاريخياً، كانت المنفعة اقتصادية (غذاء، عمل)، ونشأة السلطة كانت في البداية ضرورة لوجستية وتنسيقية لخدمة هذه المنفعة. إلا أن هذا النموذج الأولي للتحكم في التكاثر والصفات سيتم استعارته لاحقاً وتطبيقه على الأفراد لإنتاج مجتمع منظم ومفيد.
السلطة الميكروفيزيائية والتدجين الانضباطي
يمثل ميشيل فوكو مرجعية أساسية في تحليل آليات التدجين الحديثة، مركزاً على تفكيك شبكة العلاقات الدقيقة للقوة التي تخترق الجسد والوعي. أكد فوكو على أن تاريخ المجتمعات الإنسانية يتأسس على علاقات القوة وإرادة الإخضاع. لكنه رفض اختزال مفهوم السلطة في جهاز الدولة. ويرى فوكو أن الفلسفات التقليدية وقعت في السؤال الماهوي "ما هي السلطة؟". ولذلك، قام بنقلة نوعية ليسأل: "كيف نُمارس السلطة"؟
يكشف هذا التحول أن السلطة ليست "ماهية" يمكن امتلاكها، بل هي "ممارسة" وعلاقات قوى متمددة. يصفها فوكو بالسلطة الميكروفيزيائية، وهي شبيهة بالذرات التي لا نراها إلا بالمجهر، وهي نتيجة لعلاقات قوى تأبى إلا أن تنفذ على الواقع الفعلي وتتستر وتختبئ في انثناءاته. يوضح هذا الفهم أن التدجين ليس عملية قمع كبرى، بل شبكة دقيقة من الإخضاع تتغلغل في الخطاب والمعرفة.
الطاعة كتقنية للسيطرة الأيديولوجية
في المجتمعات التي يتم تدجينها، يتم تبجيل الطاعة على أنها "قيمة أخلاقية وضرورة إيديولوجية". يعمل هذا التقديس للطاعة على تحويل الإخضاع السياسي إلى قناعة ذاتية، حيث يُعتبر الفكر النقدي في موضع الفكر الهدّام. هذه الاستراتيجية الأيديولوجية خطيرة لأنها تمنع أي تحول مجتمعي حقيقي، حيث يصبح أي مطلب تغييري موصوماً بالروح السلبية والأهداف المشبوهة.
هذا هو الجوهر الفلسفي للأبولوجيا: قلب الموازين الأخلاقية. إن المجتمعات التي تحارب الحرية والفكر النقدي وتقدس الطاعة لا يمكن أن تنجح في بناء إنسان سليم أو مجتمع أخلاقي. إن غياب الحرية النقدية والحرية الفكرية، والتي تُعتبر شرطاً للإنسانية، يؤدي إلى زيادة الرقابة الاجتماعية والسياسية والدينية، مما يزيد من التشدد.
التدجين في العصر الحديث والمجتمع أحادي البعد
شهد العصر الحديث تحولاً في آليات التدجين، حيث أصبحت أكثر تغلغلاً ونعومة، مستفيدة من التقنية المتقدمة وشمولية النظام الرأسمالي.
قدم هربرت ماركيوز نقداً جذرياً للهيمنة التقنية والعقل المنغلق، معتبراً أن هذا العقل يستلب الإنسان ويحوله إلى آلة إنتاجية، مما يؤدي إلى "التشيؤ". يُشكِّل التدجين في هذه المرحلة تدجيناً اقتصادياً يفقِد الإنسان كينونته ووجوده، وهي نزعة تشاؤمية نابعة من اغتراب الإنسان في المجتمع الصناعي الحديث الذي تغلب عليه التقنية، أو ما أسماه ماركيوز "المجتمع أحادي البعد".
يُعد هذا التشيؤ أبولوجيا اقتصادية قوية تبرر النظام بكونه فعالاً ومنتجاً. لقد سعى ماركيوز إلى نظرية اجتماعية جدلية مناقضة للعلم الاجتماعي الوضعي الذي كان يماثل بين دراسة المجتمع ودراسة الطبيعة. ومنظوره يؤكد أن التدجين ليس مجرد قمع سياسي، بل هو فقدان للذاتية في خضم الإغراءات التقنية والإنتاجية.
فلسفة المقاومة ونزع التدجين
إن مقاومة التدجين تتطلب رفض الانصهار في نظام اجتماعي واحد (التجانس القسري) والمساهمة في خلق فضاءات اجتماعية مستقلة وحرة. يجب أن يتجه هذا النضال نحو تحرير الحياة الروحية للبشر من كل الإكراهات والالزامات الأيديولوجية باسم "الهوية".
نزع التدجين هو عملية تفكيك معرفية (أركيولوجية/جينيالوجية) لخطاب السلطة. يجب كشف الخطاب الإيديولوجي الذي يحاول تدجين المواطنين ضمن إطار سياسي وفكري واحد، ورفض الأفكار التي تحول الإخضاع إلى جعل الطاعة كقيمة دوغمائية ورفض النقد.
إن المقاومة لا يجب أن تقتصر على معارضة السلطة السياسية المباشرة، بل يجب أن تمتد إلى تفكيك "السلطة المعنوية" أو غيرها من أشكال السلطة التي تمثل ارتداداً في الوعي الجمعي نحو انتماءات ما قبل الدولة، خاصة في حالة فراغ الدولة الوطنية. إن التدجين ليس مجرد ظاهرة سياسية عابرة، بل هو عملية تاريخية متطورة، تسعى فيها السلطة بشكل متزايد إلى تحقيق سيطرة أكثر عمقاً وشمولاً على الكينونة الإنسانية.
لقد تطور التدجين من الإخضاع المادي (النيوليث) إلى الإخضاع الاجتماعي والإداري (الدولة الحديثة)، ثم إلى الإخضاع الانضباطي (فوكو). وتكمن الأبولوجيا في تحويل هذه الممارسات إلى مبررات عقلانية وأخلاقية، مثل تقديس الطاعة أو تبرير السيطرة باسم التنمية. تستثمر هذه الأبولوجيا في "التدجين النفسي" عبر بث الخوف والأزمات لانتزاع التنازلات الطوعية عن الحريات.
إن الصراع النقدي ضد هذه الأبولوجيا المتجددة هو صراع من أجل استعادة جوهر الأنسنة. فالحرية هي شرط للإنسانية، و"لا يوجد خَلْق حيث لا توجد حرية". تتطلب مقاومة التدجين نزع الشرعية عن الخطابات التبريرية، وتفكيك الأجهزة الناعمة للسلطة، والنضال من أجل بناء فضاءات حرة ومستقلة تتجاوز حدود النظام السائد. إن مستقبل الكينونة البشرية مرهون بقدرتها على التحرر من أغلال التدجين، بجميع أشكاله، عبر استعادة الفكر النقدي كمبدأ مرشد للعمل والتحرر.
***
غالب المسعودي
...................
المراجع
PMC.ncbi.nlm.nih.gov. (Current perspectives and the future of domestication studies - PMC - PubMed Central - NIH).
ronahi.net. (سياسة تدجين الشعوب وأثرها بين تعزيز السلام والتعايش السلمي - صحيفة روناهي).
elaph.com. (سياسة التدجين في المجتمعات الشرقية - Elaph).
meijournals.com. (الانثروبولوجيا السياسية للجماعات الدينية العراقية – صناعة الأيديولوجيا).
mail.arab-ency.com.sy.






