أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: الفلسفة السياسية بعد الميتافيزيقا.. هابرماس ويوتار

مفكرو التنوير كانوا متفائلين. هم اعتقدوا ان تطبيق الطريقة العلمية على مظاهر الحياة سوف لن تحرر الإنسانية فقط من عبودية الطبيعة، وانما أيضا افتتحت عصرا جديدا من السعادة والعدالة والانعتاق. صرح جين دي كوندرسيه، "في يوم ما، ستشرق الشمس على البشر الذين يعترفون بعدم وجود سّيد سوى عقلهم الخاص بهم".

وبعد اكثر من قرنين من ذلك التصريح لكوندرسيه لازال الفلاسفة يتأملون بقيمة مشروع التنوير، او ما سمي بـ "مشروع الحداثة" – في جعل كل شيء خاضع للعقل البشري. من الواضح، ان المعرفة العلمية جلبت الكثير من المنافع مثل التطور الصناعي والاقتصادي، وتحسين التعليم، الصحة، الاتصالات وغيرها. لكن من المفارقة، طبقا لنقاد الحداثة، ان التعاسة التي يُفترض ان يضع التنوير حدا لها لم تستمر فقط وانما تكثفت بطرق عديدة: بدلا من الحرية، انتج التنوير الاغتراب، والعجز وإخضاع كل مظاهر الحياة للمتطلبات الاقتصادية والبيروقراطية للتحكم والفاعلية. الانسان الحديث لا يبدو لديه أي مرشد ثابت وقوي حول كيفية التصرف نحو الآخرين. هو يشعر منفصلا عن العالم الذي يعيش به، ولديه انطباع بان حياته تُدار بقوى غير شخصية لا يستطيع التحكم فيها. بالنسبة لنقاد الحداثة، بدا كأن محاولة تطبيق مشروع التنوير أدت الى كابوس.

هل ان المشاكل متأصلة في الحداثة ذاتها، بحيث ان مشروع التنوير يجب التخلي عنه، ام انها فقط حالات شاذة وان المشروع يستحق الاستمرار فيه؟ هذا هو السؤال الذي في اول وهلة يعارضه هابرمس وريث مدرسة فرانكفورت للنظرية النقدية، و جين يوتار Jean Francois Lyotard، احد الممثلين الكبار لمابعد الحداثة. اذا كان يوتار (1924-1998) يؤكد ان مشروع الحداثة والفلسفة التي تؤطره معيبان في الأساس ويجب رفضهما، فان هابرمس (1929) يؤكد ان "امراض الحداثة" ليست بسبب مشروع الحداثة ذاته وانما بسبب انه لم يُنفذ بالشكل الصحيح. بالنسبة له، الحداثة لم تفشل وانما فقط لم تنته ولم تبلغ بعد طاقتها التحررية. هابرمس ويوتار لديهما ما يتفقان عليه أيضا. هما كلاهما حزنا على حقيقة ان الهياكل التجارية والإدارية استحوذت على كل مظاهر الحياة. هما أيضا يتفقان على ان الفلسفات التأسيسية – فلسفات بُنيت على مبادئ ميتافيزيقية عالمية مطلقة ومتجاوزة ولازمنية – فقدت مصداقيتها. وأخيرا، هما كلاهما اهتما بالعدالة وكلاهما أرادا إعطاء صوت لكل شخص.

الغرض من هذه المقالة هو وصف فلسفتي هابرمس ويوتار وتقييم قابليتهما لتوليد تصورات وتطبيقات للسياسة تكون تقدمية ومنسجمة مع رفضهما للفلسفات التأسيسية. بعد طرح افكارهما، والتركيز على رؤاهما حول ازمة الحداثة وكيف افترضا علاجا لها، سوف نفحص هنا الى أي مدى نجحا في هذا الهدف. سوف نجادل بانه بينما فلسفة يوتار كانت ملائمة لإعطاء صوت للجماعات المهمشة والافراد، ومنسجمة مع رفضه للتفكير التأسيسي، فان فلسفة هابرمس ناقضت هدفها في تجنب التأسيسية و فشلت في تحرير المهمشين .

العالم الحي Lifeworld والنظام (1)

لكي يبيّن كيف اصبح المجتمع الحديث على ما هو عليه، يعتمد هابرمس على فلسفة المفكرين الأوائل في مدرسة فرانكفورت ثيودور ادرنو وماكس هوركهايمر. مثلهما، هابرمس يوضح الوضع الحالي للعالم بالنسبة لمحاولة توسيع العقلانية العلمية والتقنية لكل مظاهر الحياة.

لكن هابرمس يجادل ان تصوراتهما للعقلانية هي أحادية الجانب ومتشائمة. التوجّه الرئيسي لفلسفته هو الايمان بانه بالإضافة الى العقل الأداتي instrumental reason، الذي يتألف من إيجاد وسائل لغايات، والعقل الاستراتيجي الذي يسعى الى نجاحات تطبيقية، هناك أيضا عقل تواصلي communicative reason (2) يسعى للوصول الى اتفاق من خلال عرض حجج صالحة. بالنسبة لهابرمس، حالما يُفهم ان العقل التواصلي لازال يعمل في التاريخ، سيصبح واضحا ان امراض العالم المعاصر ليست ضرورية، وان التشويه الحاصل في الحداثة لا يمثل التطور الطبيعي لها.

لكي يوضح كيف منع تطور العقل الاداتي بلوغ العقل لطاقته التحررية، يبني هابرمس نظرية اجتماعية بمستويين: المستوى الأول، المجتمع يشترك بمجموعة من العقائد المشتركة والأفكار والتوقعات المسلّم بها والتي على أساسها يفهم الافراد العالم، وينسقون افعالهم ويحددون هوياتهم. وعلى المستوى الثاني، المجتمع أيضا مؤلف من منظمات غير شخصية مثل الحكومة والاقتصاد. هذه لها ديناميكية ومنطق خاص بها وتسترشد باعتبارات الفاعلية.

هابرمس يسمي القيم والعقائد المفروغ منها بـ (العالم الحي)، ويسمي الحكومة والاقتصاد بـ (النظام). هو يرى ان المجتمع الحديث لا يستطيع ان يعمل بشكل صحيح بدونهما. مع ذلك، يختلف العالم الحي عن النظام جوهريا. أولا، بينما العالم الحي يُحافظ عليه ويعاد انتاجه من خلال الاتصالات، نجد النظام يعمل من خلال استخدام النقود والسلطة. ثانيا، بينما في العالم الحي هناك إحساس مشترك بان الأفعال الإنسانية والتجارب هي ذات معنى، نجد النظام يعمل طبقا لنماذج ليس لها عمق انساني طبيعي. أخيرا، خلافا للنظام، الذي فيه الافراد "موجهين أساسا لنجاحاتهم الفردية الخاصة" في عالم الحياة، "هم يتابعون أهدافهم الفردية في ظل ظروف يستطيعون فيها تنسيق خططهم في العمل على أساس تعريفات مشتركة".(نظرية الفعل الاتصالي، مجلد 1،ص 286، 1984). باختصار، بينما النظام هو مجال السيطرة والكفاءة، عالم الحياة هو مجال الفهم المتبادل.

مع استيعاب هاتين الفكرتين يرسم هابرمس تاريخ الحداثة. هو يقول انه في القرن السابع عشر بدأ المجتمع يتغير دراماتيكيا. أولا، "كان هناك فصل بين النظام وعالم الحياة" – أي، ان الأنظمة السياسية والاقتصادية انفصلت عن الثقافة العامة التي اعتادوا فيها ليكونوا موحدين، يتخذون حياتهم الخاصة واصبحوا باستمرار لاتهمهم المعتقدات والقيم والمعاني والانشغالات اليومية للأفراد. حالما لم يعد النظام مرتبطا بعالم الحياة، فهو تميّز الى أنظمة فرعية – الدولة والاقتصاد – جرى تنظيمها وفق مبادئ الحساب والتنبؤ.

تغيرات هامة حدثت ايضا في مجال الاخلاق التطبيقية، بدأت في القرن السابع عشر. أولا، الدين فقد الهيبة والسلطة والقوة. ثانيا، هناك تطور في الوعي يتعلق بعدد من التصورات المتنافسة للخير، لا احد منها متفوق بشكل لا جدال فيه. وبالتالي كان هناك تحولا من اعتبارات الحياة الجيدة الى اعتبارات الشيء الأفضل للعمل وكيفية تخفيف الاختلافات والتنوع. ثالثا، مجالات الحياة الفكرية والأخلاقية والفنية التي كانت مرتبطة مع بعضها في رؤية شمولية تحت هيمنة الدين والمبادئ الميتافيزيقية الأخرى، أصبحت مستقلة كل واحدة تطور معيارها الخاص بها للصلاحية. بالنهاية اصبح كل واحد مجالا خاصا للخبراء . ربما التطور الأكثر أهمية في الاخلاق الحديثة والسياسة، طبقا لهابرمس، هو تبنّي الموقف النقدي نحو الدين والتقاليد، والقناعة بان القاعدة هي مشروعة فقط اذا كانت نتيجة النقاش العقلاني الحر من الهيمنة والاستغلال. وكما يقول هو، "عندما تتهشم قوة التقاليد .. يجب على العقل الحديث ان يخلق معيارية من ذاته عبر الاعتماد على قوة الحجة الأفضل لا غير". (نفس المصدر، مجلد 2 ص 40). ينظر هابرمس في هذه التطورات المحددة بمجملها كتحسينات. الحداثة حررت الإنسانية من الدين والتقاليد الخانقة، انها زادت الاستقلالية الفردية وجعلت بالإمكان ظهور كامل للديمقراطية.

خصص هابرمس كتابه الأول (التحول الهيكلي للمجال العام،1962) الى اختبار نمو وانحدار المجال العام بشكل مستقل عن الدولة والاقتصاد.

هذا المجال العام، كما يقول، ازدهر في المانيا وفرنسا وبريطانيا في القرن الثامن عشر، بيوت القهوة، الصالونات، النوادي، والصحف في تلك الفترة كانت منتديات ديمقراطية ناقش فيها المواطنون علنا وبشكل حر قضايا ذات مصلحة عامة وطبقا لمعايير العقل النقدي. مع ذلك، هو يجادل بان تطور الرأسمالية قضى تماما على المجال العام والديمقراطية الصحيحة. وعلى خطى ماكس ويبر والجيل الأول من مفكري مدرسة فرانكفورت ادرنو وهوركهايمر. يدّعي هابرمس ان طلبات السوق والإنتاج الصناعي والبيروقراطية – الكفاءة والأداء – استحوذت على كل مظاهر الحياة. هو يوضح ان الأسئلة الأخلاقية أصبحت أسئلة تكاليف وربح، والاسئلة السياسية التي ينبغي ان تُحل من خلال جدال عقلاني عام، أصبحت مسائل تقنية وبيروقراطية تُعالج بواسطة الخبراء. هذا التعدي للنظام على عالم الحياة، الذي يصفه هابرمس بالاستعمار، أدى الى استغلال اغلبية السكان والسيطرة عليهم من جانب النخب التقنية والبيروقراطية. يقول هابرمس انها جعلت "المجتمعات المتقدمة صناعيا تبدو تقترب من نموذج التحكّم السلوكي الذي يتم توجيهه بمحفزات خارجية بدلا من الاسترشاد بالقيم". (نحو مجتمع عقلاني، ص107، 1970).

طبقا لهابرمس، استعمار عالم الحياة من جانب النظام أيضا يوضح امراض الحداثة مثل الاغتراب، كراهية الأجانب والادمان على المخدرات. لايزال، هابرمس يعتقد انه بالإمكان انقاذ العالم الحي من النظام وبلوغ المُثل التحررية للحداثة. هو يجادل ان هذا يتطلب استبدال العقل الأداتي بعقل تواصلي في المجالين الأخلاقي والسياسي.

اذن كيف يمكن حل الاختلافات السياسية والأخلاقية بشكل منصف بواسطة قوة الحجة الأفضل؟ يجادل هابارمس ان هذا يتطلب ظروفا معينة او قواعد يسميها أخلاق الخطاب discourse ethics. متّبعاً روبرت الكسي Robert Alexy، يحدد هابرمس ثلاثة أنواع من هذه القواعد:

القواعد الدلالية المنطقية، والقواعد الإجرائية، والقواعد المتبادلة. القواعد الدلالية المنطقية تتطلب من المتحدث ان لا يناقض ذاته، ومنسجم باستعماله للكلمات، وان يستعمل جميع اطراف النقاش نفس الكلمات لتعني نفس الشيء.

القواعد الإجرائية تتطلب من الناس المنخرطين في الجدال ان يكونوا صادقين، وكل منْ يجلب قضية خارجة عن النقاش يجب ان يعطي أسبابا تبرر هذا.

أخيرا، القواعد المتبادلة تتطلب التالي:

1-  كل منْ يستطيع المساهمة يُسمح له بالمشاركة في النقاش.

2-  كل شخص يُسمح له بمسائلة أي ادّعاء يطرحه الآخرون، وإدخال أي زعم او اقتراح الى النقاش، ويُسمح له في التعبير عن رغباته وحاجاته.

3-  لا احد يُجبر على التخلي عن حقوقه التواصلية المضمونة بموجب الشرطين الآخرين.

من هذه القواعد، يستنتج هابرمس مبدأين اثنين: مبدأ العالمية universalization،الذي يقول "كل المتأثرين يمكنهم قبول النتائج وتوقّع الآثار الجانبية عند الالتزام بها بشكل عام ."، ومبدأ اخلاق الخطاب الذي يقول "لا يمكن الزعم بصحة الادعاءات الاّ تلك التي تلبّي او يمكن ان تلبّي موافقة جميع الأطراف المتأثرة بصفتهم مشاركين في خطاب عملي "

هابرمس، لكي يبطل استعمار العالم الحي بواسطة العقل التواصلي نظر أولا الى الحركات الاجتماعية الجديدة في ذلك الوقت – النسوية، البيئية، الطالب، حركات السلام والمضادة للسلاح النووي. هذه، كما يعتقد، تحفزت بمُثل أخلاقية وهي أساليب للاتصالات غير المشوهة. في هذه الكتابة المبكرة هو لم يتعامل مع آلية إنهاء الاستعمار. ولاحقا، في (بين الحقائق والقواعد،1996)، يدّعي هابرمس ان عملية النقاش والمحاججة بواسطة أعضاء مجتمع مدني احرار ومتساوون "تحولت الى سلطة قابلة للاستخدام إداريا" من خلال التشريع. هو يعتقد ان المشاورات في كل من هيئات صنع القرار الرسمية والمنظمات غير الرسمية كتلك التي أعلاه سوف تؤدي الى قوانين تكبح سلطة البيروقراطية والسوق.

محدوديات فلسفة هابرمس

تواجه فلسفة هابرمس على الأقل اثنين من المعارضات الرئيسية. واحدة تتمثل في صعوبة تنفيذ اخلاق الخطاب لخلق إجماع حول المسائل الأخلاقية والسياسية بهدف توسيع عدد المشاركين في عمل القرار الجمعي. الاخرى تتعلق بفشله في انجاز هدف تجنب المؤسسية.

المعارضة الأولى واضحة جدا. اخلاق الخطاب لهابرمس تفترض انه اذا كان الناس مخلصين ويرغبون بالتسوية، كل الصراعات ستُحل. وبينما هذه الرغبة هي بالتأكيد مقنعة عندما يكون المشاركون في النقاش من نفس الخلفية السوشيواقتصادية، ويشتركون بنفس القيم بدرجة اقل او اكثر، والمخاطر ليست عالية، لكن لا يمكن افتراضها في معظم حالات الصراع. لكي نبدأ، من المستحيل امتلاك نوع خطاب متساوي ولا لبس فيه يصفه هابرمس خارج الوحدات الصغرى للمنظمات السياسية والاجتماعية، وحيث الناس يمكنهم الاتصال مباشرة. حتى ضمن تلك الوحدات، مفهوم موقف لكلام مثالي امر مدهش لكن يصعب تطبيقه. أولا، ليس كل شخص قادر بنفس المقدار في النقاش بفاعلية، بعض الناس اكثر معرفة ومهارة من الاخرين، وربما لهذا السبب يحولون النقاش لمصلحتهم. إضافة الى ذلك، الناس لا يرغبون دائما بإعادة النظر بادعاءاتهم وبدلا من ذلك يناقشون لكي يدافعوا عن مصالحهم بدلا من الوصول الى اتفاق، كما يرغب هابرمس. وهكذا، النقاشات في قضايا مثل الإجهاض والقتل الرحيم هي عادة ليست اكثر من سباق بين رؤى متنافسة، ودون أمل في الاتفاق. في (بين الحقائق والقواعد،1996)، يمدد هابرمس الفعل التواصلي (أي، فعل مرتكز على عقل تواصلي) لهيئات تشريعية وقضائية، ولكن بعمل كهذا هو فقط ينقل مشكلة نقص الاتصال من اللارسمي الى الهياكل الرسمية للمجتمع: ما يبدو كنتيجة للمشاورات الاتصالية في تلك المؤسسات هو في اغلب الاحيان محصلة لتحالفات انتهازية. مشكلة واضحة أخرى في هذا التحول الى هياكل رسمية للمجتمع هي انه حتى لو كان متوقعا ان يدافع المندوبون عن مصالح جماعاتهم، هم لديهم القوة للتصرف بطرق لم تُفوّض من جانب أولئك الذين يمثلونهم. علاوة على ذلك، الصراعات تبرز ليس فقط من نزاعات واقعية وانما أيضا من اختلافات مفاهيمية حول ما تعنيه القواعد الأخلاقية – على سبيل المثال، ما اذا كان القتل الرحيم شكلا من الجريمة. هذه الأنواع من عدم الاتفاق لا يمكن حلها نهائيا .

فيما يتعلق بهدف تجنب التأسيسية foundationalism، ينوي هابرمس ان تكون فلسفته إجرائية خالصة، بمعنى ان القواعد المقبولة هي فقط تلك التي يتم التوصل اليها من خلال المشاورات عبر مواطنين متساوين في ظروف حرة من الهيمنة. مع ذلك حتى عند تأسيس هذه الظروف هابرمس كان يفضل الديمقراطية الليبرالية – مجموعة من الأفكار تؤكد على حقوق الفرد وحرية الاختيار والتحرر من التدخل وحرية الانتماء - ليس فقط في الكيفية التي يبني بها القواعد ومبادئ اخلاق الخطاب وانما أيضا في الطريقة التي هو يعتقد ان القرارات التي يتم التوصل اليها في مستوى المجال العام تُترجم الى سياسات. في الحقيقة، في صياغة موقف الحديث المثالي، هابرمس، مثل المفكرين الليبراليين، يضع جانبا اللامساواة في السلطة والثروة التي تنتج صراعا اجتماعيا مزمنا وتديم الترتيبات الاجتماعية الغير عادلة. كذلك، في كتاباته اللاحقة، يرى هابرمس ان نوع القواعد التي يجب ان تتأسس لحماية المجتمع المدني هي الأنواع المألوفة للديمقراطية الليبرالية - قوانين جرى تبنيها لمنع الأغلبية من إساءة استعمال السلطة تجاه الأقليات: 1- حقوق بأعظم حرية ممكنة منسجمة مع حقوق متساوية للآخرين 2- حقوق بالانتماء لدولة تُحكم مؤسساتها بحكم القانون 3- حقوق الحماية في ظل القانون 4 - حقوق للمشاركة في تشكيل إرادة جماعية 5- حقوق رفاهية بمستوى معاشي يجعل تقرير الحقوق الأخرى ممكنا. أخيرا، مثل الليبراليين، يعتقد هابرمس ان تأثير الجماعات الاجتماعية اللارسمية ومبادرات المواطنين تتحول الى قوة إدارية قانونية من خلال الانتخابات وصنع القوانين. باختصار، هابرمس ينتهي بإعادة صياغة لديمقراطية ليبرالية وفلسفة تحافظ عليها بكل ما فيها من مشاكل.

الدعاوي القضائية والخلافات differends

يوتار وفي شبه كثير لهابرمس، الذي ينتقد هيمنة عالم الحياة عبر العقل الاداتي على حساب الاتصالات الحقيقية، يحذر من اختزال العقل ولغة التعبير الى استخدامات أداتيه. أيضا كما هابرمس، يوتار يهمل الأيديولوجيات الكبرى والتوضيحات التي تجعل السياسات تعتمد على امتثال المجتمع لأهداف قبلية او فكرة معينة عن الحياة الجيدة. يوتار لايزال مثل هابرمس، يرفض الايمان بان المعنى والحقيقة اما ظاهرة ذاتية او كذب في عالم موضوعي يُفترض ان تعكس لغته ذلك. أخيرا، مثل هابرمس، يوتار مهتم بالعدالة وإعطاء صوت للجماعات المهمشة ووجهات النظر. مع ذلك، فحصْ يوتار لهذه الأسئلة هو مختلف جدا عن هابرمس لدرجة يتعارض معه. من المفارقة ان القضايا التي ينقسمان حولها تتعلق بإمكانية حل الصراعات وهدف التأمل السياسي والأخلاقي. بينما يعتقد هابرمس بإمكانية الفصل بين المنظورات المتنافسة من خلال الحوار المفتوح، يجادل يوتار بان لا وجود لوجهة نظر محايدة بواسطتها يقوم المرء بهذا، وبينما هابرمس مهتم بحل الصراعات، يوتار مهتم في الإشارة الى حالات مختبئة وصراعات لا يمكن حلها.

لكي نبدأ بقضية المقاضاة بين المنظورات، في (Le Differend،1984) يميز يوتار بين نوعين من الصراع: الدعاوي القضائية والخلافات الشاذة (ان صح التعبير) differends(3). هناك دعاوي قضائية فيها يتفق الخصوم على نوع الخطاب – لغة، قواعد، إجراءات وقضاء – يستخدمونها لحل خلافهم (هنا النوع genre طريقة متميزة من التفكير والكلام). وكنتيجة لهذا الاتفاق الأساسي، يمكن للمرء اثبات انه عانى ضررا وربما يعوض لقاء ذلك الضرر. فمثلا، لو كانت هناك دعوة يبحث فيها الشخص الضحية بسبب حادث عن تعويض من صاحب العمل بسبب الإهمال ويحصل عليه، تكون هي دعوة قضائية: المدّعي يمكن ان يثبت انه عانى ضرا ويوجد هناك اجراء متفق عليه لحل الخلاف. المدّعي والمدافع يقبلان بسلطة المحكمة للفصل في الصراع وهما يتفقان على ما يعنيه "الإهمال" حتى عندما لا يتفقان على ان الحدث نتج عن اهمال. هما أيضا يتفقان على ان الشخص المذنب في الإهمال، يجب ان يدفع مقدارا معينا من النقود نتيجة الضرر.

مقابل الدعاوي القضائية، هناك حالة من الخلافات الشاذة تقع بين طرفين فيها تخدم الإجراءات القضائية احد الطرفين وتهمل الاخر، وبالتالي يُختزل الطرف المظلوم الى صمت ويُحرم من وسائل الجدال. هذا يمكن ان يحدث بعدة طرق: 1- الفرد الذي عانى من الضرر غير مفوض بالكلام، او انه يُعتبر لا يستحق الاستماع اليه 2- الأذى الذي يشتكي منه لا يمكن تمثيله كأذى ضمن النظام السائد للخطاب، ولذلك يُعتبر غير موجود، او اذا كان ممثلا والتمثيل لا يكفي للتعامل مع القضية 3- قواعد الخطاب المهيمن لا تسمح بنوع الادّعاء المعلن لأن شهادته تُرفض كهراء 4 - لا احد هناك لديه سلطة او رغبة للاستماع للشكوى. يصف يوتار هذه الطرق المختلفة من اختزال المرء الى صمت بـ "صمت الشهود، صمم القضاة، وجنون الشهادة". هو يسمي الشخص الذي يُختزل الى صمت بـ "ضحية" ويسمي الأذى الذي تعاني منه الضحية بـ "ظلم" – وهو "ضرر مصحوب بخسارة وسائل اثبات الضرر".

لتوضيح ما يعنيه بالخلافات الشاذة، يصف يوتار الخلاف بين روبرت فوريسون Robert Faurisson والناجون من الهليكوست. يوضح يوتار ان البرهان الوحيد المقبول حسب فورسيون هو الشهادة من شهود عيان رأوا غرف الغاز تعمل. لكن يوتار يعارض بان لا أولئك الذين ماتوا في الغاز ولا المبعدين الذين نجوا يمكنهم اثبات عملية أفران الغاز لأن فوريسون يرى: الأول لا يمكن لأنهم ماتوا والأخير لا يمكن ان يكونوا احياء، ومع ذلك فان رؤية غرف الغاز اثناء عملها يعني الموت فيها. بالنسبة ليوتار، المبعدين هم ضحايا ظلم: هم اختزلوا الى صمت جُردوا من وسائل الجدال.

مثال آخر يُستعمل عادة لتوضيح فكرة يوتار للخلاف الشاذ غير القابل للحل، هو المواجهة بين مجموعة من الاستراليين الأصليين وشركة تعدين يورانيوم في فيلم فيرنر هرتزوغ (اين يحلم النمل الأخضر،1984). السكان الاصليون يدّعون ان الأرض التي تريد الشركة الحفر فيها هي مقدسة لأنها فيها يحلم النمل الأخضر، واذا حصل ازعاج لبيت النمل لم يعد يحلمون، كل العالم سوف ينتهي. أولا، شركة التعدين تحاول رشوة رجال القبيلة لكنهم لن يتزحزحوا. مدير الشركة المنزعج يقود المجموعة الى المحكمة. من غير المدهش، المحكمة تحكم ضد السكان الأصليين، رافضة قصة النمل الأخضر باعتبارها هراء تام. من وجهة نظر يوتار، اذا بقي السكان الأصليون صامتون سيصبحون ضحايا – لكن اذا هم يعودون للمحكمة سيصبحون مدّعين في خلاف يُختزل الى دعوة قضائية بسيطة. في كلتا الحالتين، عقيدتهم، الألم، الاحباطات، التوقعات تبقى غير معترف بها. في مواجهة قضايا خلافية يصعب حلها، يكون الميل لتنظيمها وتحويلها الى دعاوي قضائية، اما عبر تبنّي معيار احد اطراف النزاع او عبر فرض لغة متعالية عليهم metalanguage (لغة حصرية عالية) .

بالنسبة ليوتار، لكي تمارس سياسة بالمعنى التقليدي هو ان تضع إجراءات لحل الصراعات وتنسيق المصالح التي تؤدي الى إخفاء الصراعات الشاذة عبر تحويلها الى دعاوي قضائية – وبهذا تديم اللاعدالة. لكن، لكي تمارس الفلسفة هو ان تكتشف الخلافات الشاذة: لعرضها، وكشف عدم إمكانية حلها، وإزالة النزعة بإبقائها مختفية. لكي تعرض الخلافات المستعصية يتطلب أيضا تصوّر تعبيرات جديدة.

أفضلية يوتار

يعترف يوتار بانتشار الصراعات اكثر من هابرمس، وهو أيضا يجلب المزيد من مجالات الحياة ومشاكلها تحت الدراسة. بالنسبة ليوتار، بقدر ما يتعلق الامر بالممارسات الاجتماعية هي بالنهاية تجليات لأنواع من الخطاب تسعى لفرض نفسها على الاخرين، وأيضا بمقدار ما تكون اللغة قاطرة للسلطة وموقع للصراع، تسبب العنف، وتفرض استبعادا وتحافظ على علاقات اللاعدالة، يتبع ذلك ان الخلافات المستعصية ولا عدالتها يمكن ان تحدث متى ما أعلن شخص ما عن ادّعاء بالمعرفة، او يطرح أسئلة او وصفا ما . لذا اللاعدالة لا تتألف فقط من حرمان حق التصويت السياسي او أفعال صارخة للاضطهاد والعنف – انها أيضا تتضمن الأفعال الحياتية اليومية للتمييز والإساءة والقهر الاقتصادي الذي يقع خارج القانون والسياسة. وفق تصور يوتار لعدم العدالة، ليس بالتحديد ذلك المُمارس علنا من جانب الافراد والجماعات، رغم انه يتضمن هذا. بدلا من ذلك انه نوع من اللاعدالة التي تنتج من آراء سلبية ومواقف وايديولوجيات مختفية لكنها منتشرة .

يوتار أيضا نجح اكثر من هابرمس عندما نأتي الى تجنب التأسيسية. بالنسبة له، مسألة التأمل الفلسفي ليس ان نبني مخططات او إجراءات لحل الصراعات وتنسيق المصالح وانما لتحدّي ادّعاءات أي أيديولوجية او برنامج نظري يكون طريقة شاملة في التفكير، وإعطاء دليل على وجود لاعدالة غير معترف بها، وشن الحرب على الكلية، وصقل حساسيتنا للاختلاف. في الحقيقة، يوتار يزعم ان البحث عن سلطة يمكنها السيطرة على الأنواع ليس فقط خاطئا ولكن غير مرغوب فيه ايضا. ويستمر في القول في كتابه حالة ما بعد الحداثة (La condition postmoderne,1979) – ان النظريات الكبرى والايديولوجيات - لم تعد ذات مصداقية، ويكتب ياتوار في (مجرد لعب،1985) ان "لا وجود هناك لمابعد اللغة metalanguage الخطاب النظري الشهير الذي يُفترض ان يكون أساسا للقرارات السياسية والأخلاقية". هو يجادل ان فكرة شمولية التفكير هي متناقضة: اما ان يكون النوع الذي يزعم احد انه فوق النوع metagenre هو جزء من مجموعة أنواع، وبهذا ليس شموليا، او انه ليس عضوا في المجموعة وبهذا لن يكون نوعا. يوتار يكتب انه لكي تدّعي ان أي نوع للخطاب يمكن ان يكون شموليا سيكون مثل القول: اللعبة الهامة الوحيدة، الصحيحة، هي شطرنج. هذا سخيف. وكذلك بالنسبة ليوتار، العالم مثير للجدل ومكان متنازع عليه ليس فيه نوع او عبارة او منظور يمتلك مكانة متميزة. بدلا من ذلك، أساليب الخطاب تكافح لأجل الهيمنة، ولا توجد وجهة نظر محايدة يمكن من خلالها الحكم على الاخرين. كذلك، يجادل يوتار ان السعي الى ميتا اللغة للسيطرة على القضايا الشائكة هو غير مرغوب لأن أية معايير يتبناها المرء للتحكيم بين مختلف المنظورات، ستقابلها معايير أخرى مستبعدة ويُترك شخص ما بالتأكيد ضحية. هو يقول ان "لا وجود هناك لشكل من الاتصالات تكون هيمنته على الاخرين عادلة". في الحقيقة، يدّعي يوتار انه "بالضبط في محاولة وضع نهاية للمشاكل المستعصية، وتحويل الحرب الى دعاوي قضائية والتصريح بحكم لتسوية الخلافات، تكون المشاكل المستعصية قد جسدت ذاتها"، وان "ما كُبح سيعود دائما ويعود حقا". مثال على ذلك هو التصور الليبرالي غير الدقيق للعدالة الذي يخفي صراعا طبقيا ولامساواة في السلطة بين الغني والفقير وهكذا يشرعن ضمنا الهيمنة واستغلال الأخير من قبل الأول. حالة مقابلة هي التركيز الماركسي على صراع طبقة حصرا على حساب تجاهل الصراعات الجندرية، العرقية، الدينية، القومية، او اثنية الامر الذي يضفي الشرعية على هذه الاشكال الأخرى للقمع.

وهكذا بالنسبة ليوتار، كل نظريات العدالة وكل المشاريع السياسية هي طارئة، قابلة للطعن وهي حتما غير عادلة. لذا هو لا يطرح نظرية سياسية إيجابية. لايزال، هو يعتقد ان ممارسته للشهادة في المشاكل المستعصية ينبع من شعور بالعدالة. مع ذلك هذا لا يجعل فلسفته غير متسقة لأن فكرة العدالة التي تشكل اساس هذه الممارسة المتمثلة في الشهادة في المشاكل الشاذة عادة لا توجد في كتب الفلسفة السياسية، وانما،هي ما اسماه كانط بفكرة العقل – مثل فكرة الله وفكرة العالم ككلية – ويجب النظر اليها كمعنى تنظيمي وليس تأسيسي، الفكرة تضيف وحدة وتماسكا لتجربتنا وترشد تفكيرنا، لكنها لا ترمز ولا تستطيع ان ترمز لشيء حقيقي. في الحقيقة، يوتار يعتقد ان أي محاولة لإعطاء العدالة معنى محددا ليست فقط متناقضة وانما هي ستفترض ان هناك سردا رئيسيا، نظام معين للخطاب مفضل على الآخرين. لكن هذه الأفضلية ستجعله ايضا غير عادل بالضرورة.

باعتراف الجميع، يوتار وهابرمس منخرطان في مشروعين مختلفين: بينما هابرمس يعتقد ان هدف التفكير السياسي هو لحل الصراعات، يرى يوتار انه لإكتشاف المشاكل المستعصية. لايزال، يوتار ينجز بنجاح أكبر هدف إعطاء صوت للمزيد من الناس في غياب الأسس الفلسفية قياسا بما يفعل هابرمس. مع ذلك، كلاهما أثريا فهمنا للحداثة وعظمتها وانحطاطها.

***

حاتم حميد محسن

...........................

Political philosophy after metaphysics: Habermas&Lyotard, Philosophy Now,2010

الهوامش

(1) عالم الحياة، طبقا لهابرمس هو فهم ثقافي مشترك، او الخلفية اليومية للمعرفة الثقافية المشتركة والمعتقدات الاجتماعية والهوية الشخصية التي تجعل الفهم المتبادل ممكنا من خلال الاتصالات.

(2) هو نظرية ترى عقلانية الانسان تبرز من اتصالات ناجحة حيث الفهم والاجماع يتم الوصول اليهما من خلال حوار مفتوح غير قسري. هذا يختلف عن العقل الاداتي الذي هو موجّه خصيصا للهدف. العقل التواصلي يؤكد على الفهم المتبادل لتبرير الادّعاءات من خلال نقاش عقلاني.

(3) Differend مصطلح صاغه يوتار وهو مفهوم فلسفي وقانوني يشير الى ظلم او لاعدالة تبرز بسبب عدم وجود لغة او خطاب يعبّر عنه. انه موقف لا يستطيع فيه الضحية اثبات الضرر او الأذى الذي وقع عليه لأن النظام السائد او الخطاب المهيمن يمنع تسمية الظلم او اثباته.

في المثقف اليوم