أقلام فكرية

اسعد شريف الامارة: عندما يناضل الإنسان ضد أفكاره

"العصاب القهري إنموذجًا"

هل يستطيع الإنسان أن يتغلب على ماضيه؟ هل يستطيع أي منا أن يكف عن استدعاء أفكاره التي تعكر مزاجه؟ هل نحن أسوياء إلى الحد الأدنى من أن نطرد الفكرة المكروهة – غير المرغوب فيها لكي لا تكبلنا في محتواها الوسواسي؟ هو حديثنا من خلال هذه السطور عن حالة الوساوس – الطقوس الحوازية - الأفعال الحوازية لدى البعض منا. وسؤالنا هل نستطيع أن نناضل ضد أفكارنا إذا ما داهمتنا هذه الأفكار الحوازية وأفعالها المزعجة؟

الحواز Compulsion هو دافع لا يمكن مقاومته مستقل عن إرادة الشخص، أو مضاد له وعندما يكون في حالة عصاب الفعل الحوازي فهو يتسم بدافع لا يستطيع التحكم فيه، أو هو لا يستطيع ذلك تماما، ومعظمنا يعرف بأن هذا الفعل تافه أو غير مقبول وحتى الفكرة التي تسيطر عليه لا يستطيع ابعادها، بل تداهمه في كل لحظة وتقول " هيلين دويتش" أن التغيير في الشخصية يمثل طورًا نموذجيًا في حياة العصابي الحوازي، أنه يمثل تكوينًا للشخصية ينشأ نتيجة ردود الأفعال نحو الدفعات الشرجية – السادية المكبوتة. وتضيف قد يحدث احيانًا أن يتوقف العصاب عند هذا الحد دون الانتقال إلى تكوين الاعراض ويظل الشخص سليمًا. ويحق لنا القول أن تلك الشخصية هي شخصية وسواسية لكنها لم تنحدر بعد نحو الاضطراب العصابي الحوازي، إلا في حالات حينما تشتد الأعراض وتتحول إلى اضطراب عصابي، وفي ذلك يرى " مخيمر" أن الأعصبة تشكيلة تباينات لنمط كيفي واحد قوامه التجنب أو العزل، ويعرض " مخيمر" فكرة هندرسون وبانكيلور " حيث يعرض هندرسون لحالة مريض " بدأت الأعراض لديه في صورة عصاب قلق، ثم تطورت إلى أعراض عصاب قهري، ثم أنتهى به الأمر إلى أعراض البرانويا.

أما " سيجموند فرويد" مؤسس التحليل النفسي يؤكد على أهمية هاتين الوسيلتين الناشئتين عن الكبت وهما إلغاء الفعل الذي حدث والعزل، وتنشأ هاتين الوسيلتين في مرحلة مبكرة جدًا من طفولة الشخص وهي عبارة عن سحر سلبي يحاول باستخدام الرمزية الحركية، أن " يقضي" لا على نتيجة واقعة معينة فقط، أو على خبرة أو إدراك فحسب، وإنما يحاول القضاء على هذه الحوادث ذاتها. ونحن ما زلنا فيما يطرحه فرويد قوله : نحن نشاهد وسيلة إلغاء الفعل في أول الأمر في العصاب القهري في الأعراض التي تظهر على مرحلتين – الأعراض ذات الوجهين – التي يقوم فيها الفعل الثاني بإلغاء الفعل الأول بحيث تصبح النتيجة كأنهما لم يحدثا، بينما هما قد حدثا في الواقع، وهذا الإلغاء هو الدافع الأساس الثاني للطقوس القهرية. أما الدافع الأول فهو عمل الاحتياطات لمنع حدوث حادث معين أو منع تكراره. ثم يبين لنا فرويد قوله: يحاول الشخص العصابي أن يلغي الماضي ذاته، كما يحاول أن يكبته بوسائل حركية، ولعل هذا الغرض بالذات يفسر الإجبار على " التكرار" الذي يشاهد كثيرًا جدًا في العصاب القهري، والذي يقوم بخدمة عدة أغراض متناقضة في وقت واحد، فإذا لم يحدث أي شيء بالطريقة المرغوبة كان من الممكن إلغاءه بتكراره بطريقة مختلفة. ويضيف " صلاح مخيمر" نقلا عن "فرويد": أنه في كل عصاب قهري توجد نواة من هستيريا التبدين. ويرى " مخيمر" في حالة العصاب القهري " أفكار وأفعال قهرية" يتم التجنب بنوع جديد من العزل، فالفكرة الحصارية " المتسلطة القهرية يتم عزلها عن الجهاز الحركي، أي التنفيذ في نفس الوقت الذي يتم عزلها عن شحنتها الانفعالية الدافعة، هذا " قص لريش" الحفزة كما سماها " صلاح مخيمر" يجعلها مجرد فكرة عاجزة ولا سبيل أمامها إلى التنفيذ الفعلي. على هذه الصورة يتحقق العزل والتجنب، وعندما يستفحل الأمر، تظهر الأفعال القهرية، والتي تشكل أساسًا تحويل "عربة التلقائية" إلى قطار يستحيل أن يخرج عن خطه المرسوم سبقًا بالقضبان، مما يعد مزيدًا من ضمانات العزل، والتجنب، وليس العد والتكرار، غير تعبير من الشك، والتردد من ثم مما يعمل في خدمة العزل والتجنب لكل تلقائية، ولكل فعل، مما يحبس الفرد على وجه الجملة داخل نفسه، وبعيدًا عن كل فعل، ويصبح معزول " محبوس داخل نفسه وضمن اطار سابق التحدد" صلاح مخيمر، تناول جديد في تصنيف الأعصبة والعلاجات النفسية، ص 19".

يعلمنا التحليل النفسي بأن القلق هو المادة الخام لكل الإضطرابات العصابية، وإن القلق هو الذي يحدث الكبت – وترى " أنا فرويد" ان الكبت ليس فقط أكثر الميكانيزمات – الحيل الدفاعية فاعلية، بل أيضًا أكثرها خطورة ، ولما كان الكبت يلعب دورًا رئيسًا في تكوين الاضطرابات العصابية استنادًا لرؤية فرويد، فالقلق إشارة تنذر بتوقع حدوث خطر، ويقوم الإنسان أمام الخطر الحقيقي ببعض المحاولات لتجنبه ووقاية نفسه منه، فهو أما يهرب من موقف الخطر، وإما يقوم بالدفاع أو الهجوم، ويؤكد " برج Berg " قوله: القلق هو المادة الخام التي تصنع منها جميع الأعراض العصابية. وعليه فالأفعال والحركات القهرية التي تشاهد في العصاب القهري هي عبارة عن أعراض الغرض منها القيام بدور الوقاية والاحتياط ضد رغبة غريزية غير مرغوب فيها. وللمزيد يمكن الرجوع لكتاب سيجموند فرويد القلق "

يبين لنا فرويد أن العزل خاصية يتميز بها العصاب القهري وهي تحدث أيضًا في المجال الحركي – القيام بالفعل فنرى الشخص إذا ما فعل شيئًا كان له مغزى بالنسبة لعصابه، أو عقب حدوث شيء بغيض غير مرغوب فيه، يمر بفترة من الوقت لا يحب أن يحدث خلالها أي شيء آخر، فهو لا يحب أن يدرك خلالها أي شيء، أو أن يفعل أي شيء وسرعان ما يتضح أن لهذا السلوك الذي يبدو غريبًا جدًا لأول وهلة، علاقة بالكبت. وعلمنا التحليل النفسي بأن العصابي – الشخص الذي يعاني من أعراض نفسية فكثير منهم لايزالون قادرين على الاحتفاظ بمراكزهم في الحياة الواقعية بالرغم من متاعبهم وما ينشأ عنها من فقدان الكفاءة، ويبدو أن هؤلاء العصابيين مستعدون لقبول مساعدتنا، فهو " الشخص العصابي" يطلب العون والمساعدة في التخلص مما يعانيه من وساوس، وحواز لسيطرة أفكار وأفعال على ما يقوم به، وتعرض " أنا فرويد" فكرة مهمة وهي أن وجود الاعراض العصابية في حد ذاته يدل على أن الأنا قد أندحرت، وكل عودة للحفزات المكبوتة تكشف بما يترتب عليها من تكوين مصالح، عن خطة الدفاع قد أخفقت، وعن أن الأنا قد اندحرت، وقول فرويد أننا لا نريد من الشخص الذي يعاني يأتي إلينا أن يكلمنا فقط عما يعرفه وعما يخفي عن الناس الآخرين، بل إننا نريد منه أن يكلمنا أيضًا عما لا يعرف، وبهذا فإن طريقة مساعدته في التخلص من هذه المعاناة هي طريقة التحليل النفسي، فإذا أستطاع أن ينجح في الامتناع عن نقد نفسه لأمكنه أن يمد هذه الأفكار لمن يقوم بمساعدته، أي بكمية من الأفكار والآراء والذكريات الموجودة في اللاشعور – اللاوعي، أو التي تكون في الغالب من مشتقاته المباشرة، ونستطيع بهذه المادة أن نستنتج طبيعة المادة اللاشعورية – اللاواعية المكبوتة في اللاشعور – اللاوعي. وهي في الحقيقة مواجهة النفس بما تحمل مواجهة تصل إلى جهاد النفس ضد ما تخبأه نفس الإنسان، ليست عملية سهلة، أو روتين، عملية عابرة، بل أنها تتناول أعماق النفس ومواجهة من خلق هذه الحالة المزعجة لمعظم الناس الذين يعانون من الحواز – سيطرة أفعال وأفكار وسواسية، فالشخص حينما يريد التخلص من هذه المعاناة ولديه الرغبة الصادقة فلابد أن يتحمل فوق طاقته حتى تتلاشى هذه الاعراض ويبدو عليه الشفاء، وإن كانت سهلة بالحديث والكلام كما تبدو، إلا إنها تحمل صعوبة جدًا ولابد من وجود شخص متخصص في فنيات العلاج بالتحليل النفسي.

***

د. اسعد شريف الامارة

في المثقف اليوم