أقلام فكرية
حيدر شوكان: ما لا يقوله البرهان

ثمة وهم متجذر لدى كثيرين مفاده أن الانتماء إلى فكرة، أو اعتناق عقيدة، أو الارتهان لإيديولوجيا ما، إنما هو ثمرة تأمل حرّ وبرهان عقلي نزيه. ولهذا ترى بعضهم يندفع بحماسة شبه "دعوية" أو "تبشيرية" لتأكيد "صحة" معتقده، كما لو أن أفكاره قد انبثقت من تأملات حرة.
شاهدتُ أحد أساتيذ الجامعة، وكان قد غيّر قناعته، وبدّل معتقده المذهبي. يتهامس بعضهم عن سبب ذلك، وكيف أن هذا الرجل قد انتقل هذه النقلة، وما هو الدليل العقلي أو الفلسفي الذي أقنعه لترك المذهب الحق، مع أن هذا الأستاذ ليس من أهل الفلسفة والفكر. فجلّ همّ هؤلاء هو تكشيف القناعة الفكرية.
مؤشر الاتجاهات المعاصرة في علم النفس المعرفي، والأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع، يكشف عن صورة أكثر تعقيدًا للانحياز البشري. فالقرار العقائدي أو الفكري، سواء أكان قبولاً أم رفضًا، لا يتأسس بالضرورة على حجج عقلية نقية، بل يتشكل ضمن شبكة كثيفة من المؤثرات أوصلها وليم جيمس إلى أكثر من ثمانية (في مقالة إرادة الاعتقاد): التنشئة الاجتماعية، الحالة السياسية، الوضع الاقتصادي، العقد النفسية، الطموحات المؤجلة، النكبات الجمعية، الإغراءات الرمزية، ومفاعيل الثقافة المضمرة و.
إنّ ما نعتقد أنّنا اخترناه بحرية، قد يكون، في كثير من الأحيان، ما اختارته البنى فوق الفردية نيابة عنا، ثم وشمته في وعينا بلغة "الاقتناع".
هذا التعقيد العميق في بنية الانحياز البشري، قلّما يُدركه الخطاب الفكري على اختلاف أطيافه. فحين يتصدى هذا الخطاب- مثلًا- للإلحاد أو للآخر الدينيَّ ـ بالمعنى الواسع للتمايز العقائدي. يميل غالبًا إلى اختزال المواجهة وتطويقها ضمن أدوات البرهان العقلي أو الجدال الفلسفي، كما لو أنّ الإنسان كائن منطقي محض، لا تعتريه رواسب التكوين ولا تداهمه ارتجاجات العيش ومفارقاته.
إنهم قلما ينزلون إلى تخوم البنية النفسية والاجتماعية للآخر، ولا ينحدرون في طبقاته الداخلية المسكونة بالخذلان أو الاغتراب أو القلق أو التوق إلى المعنى. وبدل أن يُفكك الإيمان أو الإلحاد كنتاج تاريخي-أنثروبولوجي، يُختزل في مسألة منطقية يمكن أن تُقنع أو تُدحض.
هكذا يُبقي الخطاب "الدعوي" ذاته أسيرًا لوهم العقلانية المطلقة، متجاهلًا أن العقيدة بما هي شكل من أشكال الاستجابة الوجودية لا تُختصر في البرهان، بل تُبنى في المسافة المضطربة بين الذات والعالم.
ولا ينبغي أن يُفهم من هذا النقد أنّني أُقلل من شأن الأدلة، أكانت عقلية فلسفية، أو نقلية نصوصية، أو تجريبية علمية. فهذه جميعها تمتلك قوة دافعية لا يُستهان بها، وقدرتها على التأثير في البنية الإقناعية للإنسان لا يمكن تجاهلها.
لكن ما أود التنبيه إليه، هو أن تضخيم دور البرهان وإضفاء مركزية مطلقة عليه، على حساب الطبقات العميقة: النفسية، الاجتماعية، الثقافية، والرمزية التي تشكّل نواة التفكير الباطني، يُعدّ ضربًا من الوهم التحليلي، بل شكلًا من التبسيط المخلّ بالرؤية.
إنه اختزال يخلع عن الظاهرة الاعتقادية تعقيدها الأصيل، ويفلت من بين يديه حلقات شديدة الأهمية في سلسلة التكوين الوجودي للفكر والاقتناع.
فإذا عدنا إلى سِيَر الكبار- من أفلاطون إلى فوكو، من الغزالي إلى نيتشه- وجدنا أن مواقفهم تشكّلت في خضم التوتر، وتخلّقت أحيانًا على هيئة تنازلات ضمنية، تندغم في النص، أو تهمس بها اللغة تحت السطح.
وإذا أردت أن تتأمل في تجلٍّ مكثّف لهذه الحركة المتصدعة بين القناعة والتحوّل، فلا مناص من التوقّف عند سيرة أبي حامد الغزالي(ت505هـ)، بوصفه ذاتًا مأزومة خاضت تجربة الفكر على تخوم السلطة، والخوف، والرغبة في الخلاص.
لقد كان الغزالي في تجربته النظامية[1] أداة ناعمة في هندسة خطاب الدولة العباسية المتداعية. صعد كمثقف رسمي في كنف الوزير نظام الملك، وانفتح فكره في حقل مشحون: كانت الدولة تتآكل من الداخل، والإسماعيلية تُحاصر المركز العباسي بحرب رمزية وميدانية، وحركة الحشّاشين بقتلها الجوال تسفك الدم باسم تأويل باطني عميق.
وسط هذا كله، لم يكن بوسع الغزالي أن يُفكّر حرًّا. لقد دافع عن الدولة، وهاجم خصومها، وصاغ نقده للفكر الباطني- والشيعي ـ كما في "فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية" ـ بلسان رجل يُناظر لا ليكشف، بل ليحمي بنية هشّة اسمها "الخلافة". لم تكن معركته معرفية خالصة، بل كانت مشبعة بحمولة سياسية واضحة، تستجيب للتكليف بقدر ما تدّعي الجدل.
لكن الغزالي انفجر من الداخل تلك الهزّة العنيفة التي دوّنها في كتابه" المنقذ من الضلال" لم تكن هزته مجرد أزمة نفسية، بمقدار ما كانت ساعة تشظٍّ حاد بين ما يُقال وما يُعتقد، بين الدور وما تبقّى من الذات. فاختار الانسحاب إلى صوت التصوف، إلى إعادة تشكيل الذات في أفق يتجاوز الدولة، ويتجاوز العقل الجدلي أيضًا.
ومع ذلك، حين عاد إلى ساحة الخطاب، لم يعد صوفيًّا خالصًا، بل عاد كما بدأـ أشعريًّا شافعيًّا، ولكن هذه المرّة بروح من خَبِر التمزق: لم يهجر العقل، لكنه كبّله، ولم يهدم المنظومة، لكنه جرّدها من دعوى الاطمئنان. وكأن الغزالي قد دار دورة كاملة: عاد من حيث بدأ، لكنه لم يعد هو.
وثمة محطات أخرى يمكن تناوشها في هذا المعنى. أتذكّر أنني، في مرحلة البكالوريوس، سألت أستاذًا لي سؤالًا بسيطًا في ظاهره: لماذا يبدو الشيخ الطوسي(ت460هـ) في كتاباته-الفقهية- مشدودًا إلى تشنج مذهبي ظاهر، على نحو لا نراه بالحدة نفسها عند العلامة الحلي(ت726هـ)؟
أجابني، بما يشبه التأمل التاريخي أكثر من التحليل العقلي بما مضمونه: "ربما لأنّ الطوسي عاش أزمة السقوط؛ فقد اجتاح السلاجقة بغداد، ومضت ميليشياتهم في قتل عشوائي وتهديم ممنهج، حتى مكتبته أُحرقت. فلما اضطرّ إلى الهجرة نحو النجف(448هـ)، كان يحمل آثار الندبة. أما العلامة الحلي، فقد خاض تجربة تواصلية مختلفة، سمحت له بمقاربة الآخر تماسًا وتأثيرًا وإفادة، إذ تأثر بجملة مقولات[2] عند أهل السنة بعد أن تتلمذ على بعض علمائهم.[3]"
ورغم أن هذا التفسير لا يمكن اعتماده بوصفه تأريخًا دقيقًا، إلَّا أنّه وفق مؤشر الدراسات الحديثة لا يمكن تجاهله أو استبعاده. ذلك أن الفقيه، والمفكر، لا يتحرك في فضاء مطلق، بل يتنفس داخل شروط تاريخية ضاغطة، قد تُعيد تشكيل قناعاته دون أن تُغيّر خطابه بالضرورة. التشنّج المذهبي هنا ليس دائمًا تعبيرًا عن رسوخ ودليل، بل قد يكون أثر جرح، أو أثر خوف تكلّس في بنية الموقف. من هنا، لا يُمكننا قراءة الطوسي أو الحلي أو أي فقيه كائنًا من كان خارج سياقه الحيوي؛ فالقناعة ليست دائمًا ما نعتقد، بل أحيانًا ما نضطر إلى اعتقاده.
ومن بين اللمحات اللافتة التي وقفتُ عندها، ما دوّنه السيد محمد باقر الصدر[4] حين تناول الظاهرة الإخبارية في بنية الفكر الفقهي الشيعي، لم يقف عند حدودها كاختيارات معرفية محضة تجاه العقل ومنتجاته، بل تجاوز ذلك إلى مقاربة سيكولوجية تكشف البعد النفسي العميق الذي يحرّك هذا الموقف. لقد قرأ الصدر النزعة الإخبارية بوصفها ردّة فعل وجدانية، لا مجرد اجتهاد نظري، تنبع من خوف أصيل يسكن الأخباري- وهو في الغالب رجل متدين صادق- من ضياع الميراث النصي تحت وطأة العقل المؤلَّه. وهذا الخوف كان حصيلة مركّبة للشرط التاريخي والثقافي الذي انغرس فيه، إذ مثّل التوجس من العقل آلية دفاعية في وجه ما اعتُبر تهديدًا لمرجعية النص ومهابته. هكذا، تصبح النزعة الاخبارية، في تحليل الصدر، شكلًا من أشكال القلق الوجودي الذي عبّر عن نفسه بلبوس فقهي، لا مجرد موقف معرفي بارد.
***
أ. م. د. حيدر شوكان سعيد
قسم الفقه وأصوله/ جامعة بابل.
............................
[1] نسبة إلى إدارته للمدارس النظامية في عهد الوزير نظام الملك السلجوقي.
[2] لم يكن انفتاح العلّامة الحلي على بعض المقولات المنهجية لأهل السنة- كالتقسيم الرباعي للأحاديث- خضوعًا لتأثير خارجي أو تساهلًا معرفيًا، بل هو، في جوهره، تعبير عن عقل اجتهادي يعي أنّ الحقيقة لا تُحتجز داخل الطوائف، وأن استثمار أدوات "الآخر" لا يعني الذوبان فيه. في مقابل الاتهام الاخباري الشيعي الذي يرى في هذا الاقتباس مدخلًا للتنازل عن الهوية، يتكشّف الموقف الحلي عن براديغم مغاير: المعرفة لا تُؤخذ من حيث تُنسب، بل من حيث تُنتج.
لقد شكّل هذا الانفتاح منعطفًا تأسيسيًا دفع لاحقًا بشخصيات مثل الشهيدين الأول والثاني إلى خوض مغامرات معرفية موازية، إذ لم يتردد الشهيد الثاني، على سبيل المثال، في أن يستدعي علم الحديث السنّي بكل منظومته التقنية، ليُعيد تأثيث المشهد الشيعي بأدوات كانت، حتى ذلك الحين، موصدة أمامه. بهذا المعنى، لا يُقرأ هذا الانفتاح بوصفه استيرادًا بل كفعل تأويل: تأويلٍ للفكر الآخر، وللذات في آن، يُعيد تعريف حدود المذهب بما هو فضاء تأويلي لا نظام مغلق. ينظر: ترجمة الشهيد الأول، السيد محسن الأمين، أعيان الشيعة، 10/ 59- 62. والزركلي، الأعلام، 7/ 330. وترجمة الشهيد الثاني، الحر العاملي، أمل الآمال، 1/ 85- 89.
[3] درس العلامة الحلّي عند بعض علماء السنة مثل: الشيخ نجم الدين علي بن عمر الكاتب القزويني الشافعي، والشيخ برهان الدين النسفي الحنفي، والشيخ تقي الدين عبد الله بن جعفر بن علي الصباغ الحنفي الكوفي.. ينظر: السيد محسن الأمين العاملي، أعيان الشيعة، 5/ 401- 402. الحر العاملي، وأمل الآمال، 2/ 81.
[4] السيد محمد باقر الصدر، المجموعة الكاملة لمؤلفات السيد محمد باقر الصدر، الناشر: دار التعارف- بيروت، 1989م، 3/55. والمعالم الجديدة للأصول، 82- 87.