أقلام فكرية
حاتم حميد محسن: افلاطون وارسطو مساران مختلفان

يمثل الانقسام الفلسفي بين افلاطون وارسطو واحداً من أهم اللحظات في التاريخ الفكري الغربي. تأكيد افلاطون على عالم الأشكال المثالية اللامتغيرة يتعارض بشدة مع تركيز ارسطو على الواقع المُشاهد والحكمة التطبيقية. هذا الاختلاف لم يكن اكاديميا فقط، وانما يؤثر على كيفية تفسيرنا للاخلاق والمعرفة وطبيعة الحقيقة الى هذا اليوم. العالم الذي يتصوره افلاطون هو مجرد ظلال لمُثل تامة غير ملموسة .
ارسطو، من ناحيته، يؤسس أفكارة وبشكل راسخ على العالم المُشاهد، داعيا ايانا للنظر في الطبيعة كي نجد الحقيقة. هذان المساران صاغا ليس فقط الخطاب الفلسفي وانما ايضا الكيفية التي نعيش بها حياتنا اليومية.
اعتقد افلاطون ان المعرفة الحقيقية تأتي من فهم تلك الأشكال المثالية التي توجد في ماوراء تجربتنا المادية. في مقارنته الشهيرة (الكهف) هو يصف سجناء يخطئون في فهم الظلال الساقطة على الجدار ويتصورون انها حقيقة لحين هروب احد السجناء ليكتشف المصدر الحقيقي لتلك الظلال.
ارسطو، انتقد هذه الفكرة في كتابه الميتافيزيقا، مجادلا ان فصل الأشكال عن الأشياء يخلق تعقيدات غير ضرورية. هو أصر على ان جوهر الشيء والشيء ذاته لاينفصلان – وهي النظرة التي أثّرت على العلم التجريبي لقرون. عندما ينشغل المرء في هذين المنظورين، فهو لا يغوص فقط في النقاشات القديمة، وانما يتصارع مع أفكار تأسيسية تحدد التفكير المعاصر. السؤال هو ليس فقط "منْ الصحيح؟" وانما "كيف لهاتين الطريقتين المختلفتين في الرؤية للعالم إبلاغنا بكيفية عيشنا؟".
هذا الاختلاف بين الفيلسوفين من التجريد الميتافيزيقي الى المشاهدة التجريبية وضع جر الاساس للتحقيق العلمي. فمثلا، اتجاه ارسطو في البايولوجي يبيّن التزامه بالملاحظة. هو فهرس وصنف بدقة مختلف انواع النباتات والحيوانات، بحيث ساهم في علم التصنيف taxonomy – وهو الانجاز الذي لايزال واضحا في علم البايولوجي الحديث. بالمقابل، تأكيد افلاطون على التفكير المجرد يمكن رؤيته في نقاشه للدولة المثالية في كتاب الجمهورية، حيث ينظر في مسألة العدالة في مجتمع يحكمه الملوك الفلاسفة.
هذان الاتجاهان المختلفان المجرد المثالي، والعملي التجريبي يمثلان طريقتان للمشاركة في هذا العالم. التفكير في فلسفة هذين العملاقين يساعدنا في الإبحار في تعقيدات الحياة الحديثة، وايجاد التوازن بين حاجاتنا للمُثل المجردة والفهم الراسخ للواقع.
عندما نقرأ حوارات افلاطون الى جانب أعمال ارسطو، يصبح التباين في اتجاههما الميتافيزيقي واضحا. لو نظرنا الى افلاطون في حوار فيدو، مثلا، حيث يناقش خلود الروح من خلال اللجوء للاشكال الخالدة. يرى افلاطون ان أرواحنا تُجذب لهذه الأشكال لأنها تمثل الواقع النهائي الغير ملوث بنواقص العالم المادي. ارسطو، يجد هذا الفصل بين المادي والميتافيزيقي مثيرا للإشكال. في الميتافيزيقا (980a-981b)، هو ينتقد أشكال افلاطون لأنها تكرار غير ضروري للأشياء الموجودة سلفا، وهو المفهوم الذي يُعرف بـ "حجة الشخص الثالث"(1).
تركيز ارسطو على المادة – التي تعطي الشيء هويته – يقوده لرفض فكرة الوجود المستقل للأشكال . بالنسبة له، شكل الكرسي مثلا، لاينفصل عن الكرسي المادي ذاته. هذا الاختلاف لم يكن فقط نظريا، بل كانت له مضامين تطبيقية لكل شيء بدءاً من الأخلاق وحتى العلوم. إصرار ارسطو على فهم العالم من خلال الملاحظة التجريبية مهّد الطريق لحقول مثل البايولوجي، الفيزياء والمنطق، بينما تأكيد افلاطون على التفكير المجرد أثّر على الثيولوجي والميتافيزيقا والفلسفات المثالية.
الحظ والقدر، استطلاع الألعاب القديمة
اتجاه ارسطو في الاحتمالات يكشف عن تعارض حاد مع افكار افلاطون الميتافيزيقية. في كتابه الفيزياء، يرى ارسطو ان الحظ ليس مجرد نزوة للالهة او المصير وانما هو ظاهرة طبيعية لها نماذجها واسبابها. هو يصف كيف ان محصلات تبدو عشوائية هي عادة نتيجة لأسباب متقاطعة قد لا نفهمها جيدا. هذا الاتجاه العلمي اثّر لاحقا على مفكرين في فهم العشوائية، السببية، في عالم مليء باللايقين.
في العالم القديم، ألعاب الحظ مثل لعبة knucklebonesعكست هذه الافكار في المصير والاحتمالية. خلافا للحتمية الصارمة للدين او الأشكال الفلسفية، هذه الالعاب أدخلت عنصر المهارة وسط العشوائية، فكانت صدى لوجهة نظر ارسطو حتى في اللايقين، هناك انماط يمكننا تمييزها. بالمقابل، افلاطون اعتبر هذه الألعاب كرموز لعدم التنبؤ في الحياة الانسانية ومحدودية الفهم الانساني للحقائق العليا.
الفضائل: دروس عملية للحاضر
تأكيد ارسطو على الفضيلة كعادة تكونت من خلال أفعال مكررة يعرض تباينا واضحا تجاه تركيز افلاطون على الأشكال المثالية. يرى ارسطو ان تصبح فاضلا ذلك لا يتعلق في تأمل المُثل التامة، وانما يتعلق بعمل قرارات عملية تصوغ شخصية الفرد بمرور الزمن. هو اعتقد ان الفضائل مثل الشجاعة والإعتدال والعدالة تطورت خلال التطبيق، وهو ما يتماشى مع اتجاهه التطبيقي لفهم العالم.
فمثلا، عقيدة ارسطو بالوسط تشجعنا لإيجاد توازن في كل الأشياء – الشجاعة، مثلا، تكمن بين التهور والجبن. هذه الحكمة العملية هي ليست فقط مفهوم قديم، انها ذات مضامين عميقة للحياة الحديثة. في عالم يسوده الاستقطاب والتطرف، تذكّرنا اخلاق ارسطو الفاضلة بالبحث عن توازن واعتدال في الافعال. حين يسعي افلاطون للاشكال المثالية، فهو يدعونا للنظر الى مستوى عالي من التميّز في كل ما نعمل. هاتان الرؤيتان المتكاملتان تدعوان للتفكير في كيفية تربية وغرس الفضائل في الحياة اليومية.
إرث سقراط
عندما نفحص فلسفتي افلاطون وارسطو، نتذكر سقراط، الشخصية التي حفزت تفكير كل منهما. التزام سقراط بالتحقق والاختبار الذاتي وضع الاساس لهذين المسارين المختلفين، حيث سلط الضوء على الأهمية الدائمة للتفكير النقدي. سواء كنت تتوافق كثيرا مع سعي افلاطون نحو المُثل العليا المجردة او مع الاتجاه التجريبي لارسطو، فان كلا المسارين يقودان رجوعا الى رسالة سقراط المبسطة والعميقة: اختبار الحياة والبحث عن الحكمة.
***
حاتم حميد محسن
.....................
الهوامش
(1) هذه الحجة ترفض نظرية الأشكال الافلاطونية وهي تقوم على مبدأ التراجع regress الذي يؤكد بانه اذا كان هناك شكلا حتى لو كان واحدا، عندئذ سيكون هناك عدد لا متناهي من ذلك الشكل، بينما الأشكال يجب ان تكون فريدة من نوعها. والتراجع سيحطم امكانية المعرفة. حجة التراجع تقوم على اساس ان أي مقترح يتطلب تبريرا، وأي تبرير هو بذاته يتطلب دعما. هذا يعني ان أي افتراض يمكن ان يتعرض للتساؤل الى ما لانهاية مما يؤدي الى تراجع لانهائي. يمكن توضيح حجة الشخص الثالث بالنقاط التالية:
1- افرض ان هناك بعض الاشياء الكبيرة (او التي تبدو كبيرة) نسميها: س، ص، ع.
2- نستنتج ان هناك شكل (ضخامة) هو الذي يجعل تلك الاشياء كبيرة، وهذا الشكل نسميه (ضخامة1).
لذا، نحن الان لدينا حالات من الضخامة هي : س، ص، ع، وشكل الضخامة1.
3- نستدل الان ان هناك شكل هو الذي يجعل الحالات س، ص، ع وشكل الضخامة 1 كبيرا. وهذا الشكل نسميه (ضخامة2).
ولذلك لدينا الآن حالات من: س، ص، ع وشكل الضخامة1 وشكل الضخامة2.
4- نستدل حاليا بان هناك شكل هو الذي يجعل س، ص، ع، وشكل الضخامة1 وشكل الضخامة 2 كبيرا، لنسميه (ضخامة3).
هنا أصبح لدينا س، ص، ع، وضخامة1، وضخامة2، وضخامة 3، وهكذا يمكن الاستمرار الى ما لانهاية.