أقلام فكرية

سليم جواد الفهد: بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة

خصائص النسق الفلسفي

تعريف ومعنى نسق في اللغة: نسَقَ يَنسُق، نَسْقًا، والمفعول مَنْسوق.. نَسَقَ الكُتُبَ: رَتَّبَهَا، نَظَّمَهَا

مطَّرِد النَّسْق: منتظم ومتَّسق

نسَق الكلامَ: عطَف بعضَه على بعضٍ ورتَّبه. (معجم المعاني الجامع).

"النسق" يعني النظام والترتيب والتتابع ويستخدم لوصف الأشياء المتناغمة أو المنظمة معاً مثل "نَسَق الكلام" أي نظمه ورتبه ليؤدي غرضا للمتكلم.

و"نسق الأشجار" أي زرعها ورتبها في خط واحد.

خصائص النسق الفلسفي:

يتميز النسق الفلسفي بعدة خصائص أساسية تجعله بناءً فكريا متكاملا ومتماسكا وهي على وجه الأجمال:

أولا: الكلية:

النسق الفلسفي يسعى للإحاطة بالوجود بأسره بمعنى أنه يقدم رؤية شاملة تشمل مختلف جوانب الواقع والوجود لا رؤية جزئية فتلك من خصائص العلوم التجريبية.

ثانيا: الترابط والانسجام:

المكونات المفاهيمية داخل النسق الفلسفي مترابطة ومتسقة منطقيا حيث تتفاعل الفروض والقضايا والتصورات والمفاهيم لتشكل منظومة متماسكة متناسقة يعمها الصدق والصواب.

ثالثا: الإبداع والتجديد:

النسق الفلسفي يعبر عن رؤية أو موقف فكري مميز ينتقد القديم والراكد ويطرح فرضيات وأفكارا جديدة تسهم في فهم الواقع والوجود بشكل عميق وواضح.

رابعا: خصوصية الجهاز المفاهيمي:

كل نسق فلسفي يمتلك جهازا مفاهيمياً خاصا به يستخدم في تأطير النظريات وشرح الظواهر.

خامسا: التطور:

النسق الفلسفي لا يكون ثابتا وإلا تحول إلى إيديولوجيا بل هو يتطور وينمو جدليا عبر مراحل التطور التاريخي حيث تتبلور الأفكار وتتوسع وتتشعب مما يثري البناء العقلي المتكامل.

مكونات النسق الفلسفي الأساسية:

كما أن النسق الفلسفي له خصائص كذلك له مكونات أساسية تشكل بنيته الفكرية العامة وهذه المكونات هي:

1. وحدات معرفية: تشمل الفروض والقضايا والتصورات والمفاهيم والنظريات التي تشكل الإطار التفكيري للنسق.

2. إطار تصوري مترابط: تعامل هذه الوحدات بطريقة منطقية ومتماسكة بحيث تشكل منظومة فلسفية واحدة متكاملة.

3. جهاز مفاهيمي خاص: يحتوي على مفاهيم وأفكار تميز النسق وتوفر أدوات لتفسير الظواهر.

4. نظام قيمي ومنهجي: يشتمل على قواعد عامة أو قوانين فلسفية توجه فهم الترابط والتفسير في النسق.

5. مرحلة النمو والتطور: يتطور النسق عبر مراحل ترتكز على فكرة أولية تتعمق وتتوسع بفعل التأمل والتفكير المنهجي.

بالتالي النسق الفلسفي هو بناء عقلي يضم مجموعة مترابطة من المفاهيم والمبادئ التي تسمح بفهم وتفسير الوجود والواقع بطريقة شمولية ومنظمة.

ما هو الفرق بين النسق الفلسفي والإطار النظري؟

النسق الفلسفي والإطار النظري مفهومان مترابطان ولكنهما يختلفان في المستوى والشمولية.

النسق الفلسفي هو بناء فكري شامل ومتناسق يضم مجموعة متكاملة من المفاهيم والمبادئ التي تفسر الواقع بشكل كلي ويشير إلى رؤية فلسفية كاملة أو منحى فكري معين يتميز بهيكلية مترابطة وأصول منهجية تعطيه كثافة فكرية خاصة.

أما الإطار النظري فهو مجموعة من النظريات والمفاهيم التي تستخدم لتفسير ظاهرة أو موضوع معين ضمن نطاق معرفي معين وهو أكثر تحديداً وانتقائية مقارنة بالنسق.

ويركز الإطار النظري على بناء تفسيرات قابلة للاختبار والتطبيق في مجال معين من البحث أو الدراسة.

وعليه يكون النسق الفلسفي أوسع وأشمل حيث يشمل إطارات نظرية متعددة بينما الإطار النظري هو جزء من النسق أو أداة منه ضمن سياق معرفي محدود ومحدد.

النسق الفلسفي إذن يوفر الرؤية الفلسفية الكلية والإطار النظري ويوفر البناء المنهجي التفصيلي للمسائل البحثية داخل تلك الرؤية.

ومن الأمثلة المشهورة للأنساق الفلسفية نسق أفلاطون الذي يقوم على فكرة "مثال الخير" أو "الخير الأقصى" ويتضمن ثلاثة مفاهيم أساسية هي عالم المثل (العالم المعقول) والعالم المحسوس واللاوجود (المعدوم). نسقه يربط بين عالم المثل الثابت وبين العالم الحسي المتغير مع تفسير وجودي وأخلاقي وسياسي متكامل.

ونسق أرسطو: الذي يركز على مفهوم الغاية (التيلوس) كأساس لفهم الطبيعة والإنسان ويربط بين المنطق والطبيعة والميتافيزيقا والسياسة والأخلاق ضمن رؤية شمولية مترابطة.

حيث يشير إلى الغاية الجوهرية أو الغرض الكامن في كل شيء سواء كان طبيعيا أو من صنع الإنسان. استخدمه أرسطو بشكل أساسي لوصف السبب النهائي لأي شيء معتقدا أن تحقيق هذه الغاية هو ما يحدد خيرية الشيء ووظيفته الحقيقية

على سبيل المثال: غاية العين هي الرؤية وغايتها في تحقيق هذه الوظيفة هي خيرها الخاص أما غاية الإنسان فهي العيش حياة فاضلة مزدهرة.

ثم نسق هيجل: وهو نسق جدلي كلي تاريخي يشمل العقل والطبيعة والروح في حركة جدلية نحو الكمال المطلق ويتميز بالتطور الجدلي للأفكار والتاريخ.

وهناك أيضا النسق البنيوي: الذي يهتم بتحليل اللغة والمعاني من منظور هيكلي تحليلي حيث يتم فهم الظواهر عبر علاقاتها الداخلية والأنظمة البنائية.

ثم نسق التفكيكية: وهو نسق مرن ديناميكي يكشف التوترات والتناقضات في النصوص والمعاني يركز على التعددية وعدم الثبات في التأويل.

كل من هذه الأنساق تتكون من مكونات معرفية هي الفروض والقضايا والتصورات والمفاهيم والحجج التي تتشابك داخل إطار فكري مترابط ومتسق منطقيا.

وتشترك هذه الأنساق في كونها تعبر عن رؤى كونية وفلسفية شاملة حول الواقع والوجود والإنسان.

أثر هيجل في تشكيل أنساق الفلسفة الحديثة:

لم يأثر فيلسوف كما أثر هيجل في تشكيل أنساق الفلسفة الحديثة والمعاصرة فقد كان عميقا وشاملا حيث يعتبر نسقه الفلسفي أعلى قمة بلغتها الفلسفة الحديثة ويجمع بين تراث الفلسفة العقلانية ليقدم رؤية كلية شاملة تقوم على أن العقل هو جوهر الوجود والتاريخ وهو مسار تحقق الروح والحرية.

هيجل طور مفهوم الجدل (الديالكتيك) كمحرك للتطور الفكري والتاريخي حيث تتفاعل التناقضات لتؤدي إلى تقدم الفكر والواقع وهذا الجدل شكل قاعدة لأنساق فلسفية معاصرة متعددة.

كما دمج بين الفكر والطبيعة والروح في منظومة فلسفية متكاملة اعتبرها تعبيرا عن تحرك العقل المطلق في الواقع.

تأثير هيجل امتد إلى تيارات فلسفية عدة أولها الماركسية التي اقتبست منه الجدل المادي فضلا عن تأثيره على الفينومينولوجيا والفلسفة النقدية والوجودية.

نعم هيجل أسس بحق نسقا فلسفيا شاملا جسد فيه فكرة أن الكينونة معقولة وأن العقل هو المحرك الأساسي للتاريخ والحياة ما جعله مرجعية لا غنى عنها في الفلسفة الحديثة والمعاصرة.

***

سليم جواد الفهد

....................

المصادر المستفاد منها:

1.النسق مفهومه واقسامه، جمعة برجوح بلقاسم.

2.مفهوم النسق في الفلسفة، د. سليمان أحمد الظاهر.

3. حول النسق الهيغلي، سليمان السلطان.

4. الإنسان وأنساقه المعرفية والأخلاقية والجمالية، معاذ بن عامر.

5. نهاية الفلسفة النسقية، عرض لوجهة نظر ريتشارد رورتي، عبد المنعم البري.

 

في المثقف اليوم