أقلام فكرية

حمزة مولخنيف: الهوية في زمن العولمة.. جدلية الكونية والانغلاق

في عصر العولمة تتلاشى الحدود الجغرافية وتتقاطع الثقافات، ليصبح العالم فضاءً مفتوحا للمعلومات والتقنيات والتبادلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. غير أن هذا الانفتاح لم يولد بالضرورة شعورا موحدا بالهوية الإنسانية، بل على العكس، أصبح الإنسان معرّضا لتقلبات مستمرة في إدراك ذاته وهويته، بين الامتداد نحو الكونية والانغلاق على الخصوصيات المحلية. الهوية هنا ليست مجرد تعريف بالانتماء الجغرافي أو العرقي أو الديني، بل هي مشروع مستمر للفهم والتمثل والتموضع في العالم، مشروع يختبره الفرد والجماعة في كل لحظة من حياته. كما يقول هانز جورج غادامير في الحقيقة والمنهج: "الفهم ليس مجرد استيعاب الأشياء، بل هو مشاركة وجودية في أفقٍ تاريخي وثقافي". في هذا السياق، يصبح سؤال الهوية سؤالا عن الموقع الوجودي للفرد بين الانفتاح والاغتراب، والتعددية الكونية والانغلاق على الخصوصيات.

الهوية في عالم معولم ليست ثابتة أو جامدة، بل هي متحولة ومصطدمة بالتيارات الثقافية المتبادلة، حيث يواجه الإنسان مأزق الاختلاف. فالاختلاف بمعناه الفلسفي، ليس مجرد التباين الظاهري بين الثقافات أو الجماعات، بل هو فعل تأسيسي للوعي بالذات وبالآخر، كما يؤكد إيمانويل ليفيناس: "الآخر هو المسؤولية التي تفرض نفسها على الذات، والاختلاف هو صيرورة الوجود في وجه الغير". عند هذا المفكر، يشكل الاختلاف مصدرا للالتزام الأخلاقي، وهو ما يجعل من الهوية ليست مجرد حماية للذات، بل مواجهة حقيقية للآخر، ووعي بالمسؤولية تجاهه. في زمن العولمة حيث تتقاطع الثقافات وتتداخل الرموز، يصبح التفاعل مع الآخر اختبارا مستمرا للهوية، فيجعلها تتحرك بين التعددية والتمركز، وبين القبول والتحدي.

ومع ذلك لا يمكن للهوية أن تتحقق في فراغ كوني مجرد، فلكل مجتمع خصوصياته التاريخية والثقافية التي تشكل أساسا لهويته. هكذا يقف الإنسان أمام جدلية دائمة بين الانفتاح على الكونية والانغلاق على الذات. فبينما يرى بعض الفلاسفة المعاصرين أن العولمة تسهم في خلق "ثقافة عالمية" تسوي الاختلافات، يؤكد آخرون على أن الانفتاح الكوني قد يؤدي إلى تهديد الخصوصيات المحلية، ومن ثم إلى أزمة وجودية للهوية. فرويد من زاوية أخرى، يلمّح إلى أن الإنسان في مواجهة التغيرات المستمرة، يختبر صراعات داخلية بين الرغبة في الانتماء والاحتفاظ بالذات، بين الطموح إلى الكونية والخوف من فقدان الجذور.

في هذا الصدد لا بد من التوقف عند مفهوم "الهوية المركبة"، الذي يشير إلى كون الهوية ليست وحدة متجانسة، بل شبكة معقدة من الانتماءات المتقاطعة والمتداخلة. فالهوية الفردية قد تشمل الانتماء إلى لغة، ثقافة، تاريخ، دين، جنس، أو حتى أسلوب حياة. كل هذه العوامل تتفاعل فيما بينها لتشكيل معنى الذات في عالم مفتوح. كما تقول مارثا نوسباوم في الحدود الإنسانية للأخلاق: "الهوية ليست حجرا ثابتا، بل هي مشروع أخلاقي مستمر، يضع الإنسان أمام مسؤولية التوازن بين ذاته والآخر". هنا يظهر البعد الأخلاقي للهوية، إذ لا يكتفي الفرد بالوعي بذاته فحسب، بل عليه أن يعي تأثير خياراته وقراراته على الآخرين في فضاء عالمي مشترك.

العولمة من جهة أخرى، لا تقدم إطارا متجانسا للتفاعلات، بل تخلق تباينات بين مراكز النفوذ الثقافي والاقتصادي، فتولد اختلالات في مستوى الاعتراف بالهوية. آلان باديو يشير إلى أن الحداثة العالمية تعني "انتشار القيم الثقافية الغربية كقالب موحد"، ما يفرض نوعا من الضغط على الخصوصيات الثقافية، ويثير التساؤل حول مصير الهويات المحلية. في هذا السياق، يصبح السؤال حول الهوية مسألة مقاومة حضارية، ليس بمعنى العزلة أو الانغلاق، بل بمعنى الدفاع عن الخصوصيات دون رفض الكونية. وهذا يقودنا إلى فهم الهوية كعملية ديناميكية، تعمل في فضاء من التوتر بين الانفتاح والتمسك والاختلاف والاعتراف، وبين التجربة الفردية والمرجعية الجماعية.

الفيلسوف شارل تاليه، في تأملاته حول "العولمة والاختلاف"، يرى أن الهوية ليست مجرد ملكية فردية، بل هي مسألة تتعلق بالعلاقات المتبادلة بين الأفراد والجماعات. فالهوية تحتاج إلى "فضاء الاعتراف"، حيث يتم إدراك الذات من خلال النظر في وجه الآخر، ومن ثم يُستكمل معنى الوجود. هذا المفهوم يعيد إلى الذهن ما ذهب إليه هيجل في جدلية الروح، الإنسان يصبح واعيا بذاته حين يواجه الوعي بالآخر، وهكذا تتشكل الهوية ليس بمعزل عن الاختلاف، بل من خلاله. في عالم اليوم، حيث تتلاقى الثقافات وتتقاطع الحدود، يصبح التحدي هو القدرة على الحفاظ على الخصوصيات ضمن شبكة كونية تتطلب التفاعل والتفاوض المستمر.

غير أن هذا التفاعل الكوني لا يعني بالضرورة انسجاما دائما، بل قد يؤدي إلى صراعات حادة حول الرموز والهوية. هنا يتضح التوتر بين ما يمكن أن نسميه "الكونية الفلسفية" و"الخصوصيات المغلقة". الأولى تمثل الوعي بأن الإنسان جزء من مشروع كوني يتجاوز الحدود الفردية والجماعية، والثانية تمثل رغبة الإنسان أو الجماعة في حماية ما هو مميز وفريد في تراثه وثقافته. جان بودريار يرى أن العولمة قد تخلق "مجتمعًا من النسخ"، حيث تختفي الفوارق المميزة بين الثقافات، ما يولد إحساسا بالاغتراب وانعدام الجذور. يصبح الاختلاف ليس مجرد فعل ثقافي، بل فعل وجودي يثبت الإنسان في عالم متحول.

يمكننا أن نربط مسألة الهوية بالعلاقة بالزمن والتاريخ. فالهوية ليست حالة لحظة بل هي صيرورة تاريخية، كما يشير ميشيل فوكو، "الذات هي مشروع دائم التشكيل، متأثر بالقوى الاجتماعية والسياسية، وبالتاريخ الذي يعيشه الفرد". في عالم معولم، تصبح هذه الصيرورة أكثر تعقيدا، إذ يتعرض الإنسان لضغط مزدوج: ضغوط العولمة التي تفرض قيما وأنماطا جديدة، وضغوط الخصوصيات التي تحاول الحفاظ على ما هو أصيل. التحدي هنا هو أن يجد الفرد أو الجماعة موضعا وسطا، حيث يمكنهم التفاعل مع الكونية دون التنازل عن خصوصياتهم، والتعبير عن هويتهم دون الانغلاق أو التصلب.

يمكننا أيضا أن نلحظ في هذا السياق دور اللغة والرمز الثقافي في تشكيل الهوية. اللغة ليست مجرد وسيلة تواصل، بل هي حاملة للذاكرة الجماعية، ومخزن للخصوصيات الثقافية. كما يؤكد إدوارد سعيد في الاستشراق، الثقافة هي مشروع مستمر للمعنى، واللغة هي أداة الاحتفاظ بالذات في مواجهة الانصهار في القوالب العالمية. لذلك فإن الحفاظ على اللغة والرموز الثقافية يصبح فعل مقاومة، ليس رفضا للآخر، بل للحفاظ على عمق الذات في شبكة العلاقات الكونية. فالهوية هنا هي التوازن بين ما هو عالمي وما هو محلي، بين الانفتاح على الآخر والتمسك بالخصوصيات.

من الناحية النفسية والاجتماعية، يشير علماء الاجتماع إلى أن الهويات تتشكل في مواجهة التحديات الخارجية. بورديو على سبيل المثال، يوضح أن الهوية هي نتيجة "الموقع الاجتماعي" والحقول التي يتحرك فيها الفرد. في زمن العولمة، تتحرك هذه الهويات بين الحقول المحلية والعالمية، بين الرغبة في الانتماء إلى جماعة أصيلة والرغبة في الانخراط في فضاء كوني أوسع. هذا التحرك المتواصل يولد شعورا باللجوء المتعدد، حيث يجد الإنسان نفسه متأرجحا بين الانتماءات، ويحاول التوفيق بين متطلبات الخصوصية ومتطلبات الانفتاح الكوني.

إضافة إلى ذلك، يجب التأكيد على أن الهوية ليست مجرد مسألة شخصية، بل هي أيضا مسألة جماعية وسياسية. الهويات القومية والدينية والثقافية تتحرك في فضاءات تتقاطع فيها المصالح، وتتنازع فيها الرموز. هابرماس يشير إلى أن الحوار بين الثقافات يحتاج إلى "فضاء عام تواصلي"، حيث يمكن للأطراف المختلفة أن تتفاوض على معنى الهوية والخصوصية. بدون هذا الفضاء، تصبح الهوية معرضة للتطرف أو الانغلاق، ما يؤدي إلى صراعات تهدد استقرار المجتمعات. إن الهوية في عالم معولم هي مسألة توازن دقيق بين الاعتراف بالآخر والحفاظ على الذات والانفتاح والانغلاق، وبين الاختلاف والتماثل.

إن الهوية في زمن العولمة هي مسألة جدلية مستمرة بين الكونية والانغلاق. فهي ليست ثابتة، ولا يمكن تصورها بمعزل عن التفاعل مع الآخر، ولا يمكن اختزالها في خصوصية جامدة دون اعتبار للفضاء الكوني الذي نعيش فيه. الفيلسوف الفرنسي بول ريكور يصف الهوية بأنها "نص متواصل"، يُكتب ويُعاد كتابته باستمرار، في حوار مع الذات والآخر والتاريخ. في هذا النص، يتجلى الإنسان في مواجهته للآخر، ويُختبر معنى كينونته، وتظهر التحديات المستمرة في المحافظة على التوازن بين الانفتاح على الكونية والتمسك بالخصوصيات.

إن الهوية من حيث هي ليست مجرد إدراك ذاتي، بل مشروع فلسفي أخلاقي واجتماعي، يضع الإنسان أمام مسؤولية الوعي بالاختلاف والتفاعل مع الآخر، والحفاظ على ما يميز تراثه وثقافته. هي صيرورة مستمرة، تتشكل في فضاء العولمة بين التيارات المتعددة، وتختبر حدود الانفتاح والانغلاق، بين الاعتراف بالكونية والحفاظ على الخصوصيات. وعليه، يصبح السؤال حول الهوية في عالم معولم سؤالاً عن المشروع الإنساني ذاته: كيف نكون في عالم يتغير بسرعة دون أن نفقد عمقنا وخصوصيتنا، وكيف نتفاعل مع الآخر دون أن نبتعد عن الجذور التي شكلتنا؟.

في عالم اليوم تتفاقم تعقيدات الهوية مع التداخل المتسارع للتكنولوجيات الرقمية، حيث لم يعد الانتماء إلى جماعة معينة مقصورا على المكان أو التراث، بل أصبح مرتبطا أيضا بالفضاءات الافتراضية، والمنتديات الرقمية والشبكات الاجتماعية. هذه البيئات الجديدة تمنح الفرد إمكانية إعادة تشكيل ذاته، لكنها في الوقت نفسه تفرض عليه نماذج جاهزة للانتماء، قد تصادم خصوصياته أو توجهها نحو معايير عالمية محددة. كما لاحظ زيجمونت باومان في مفهومه عن السيولة الحديثة، الإنسان المعاصر يجد نفسه في حالة تأرجح دائم بين الانفتاح والتمركز، وبين القدرة على التواصل بلا حدود والخوف من فقدان الجذور التي تمنحه شعورا بالثبات. الهوية هنا ليست ثابتة، بل هي "هوية سائلة" تحتاج إلى جهد مستمر لإعادة التشكيل والمراجعة.

تطرح هذه الانزياحات الرقمية أسئلة فلسفية عميقة حول معنى الاختلاف. ففي الماضي كان الاختلاف مرتبطا غالبا بالحدود المكانية والثقافية، أما اليوم فهو مرتبط بسرعة المعلومات والتقنيات التي تمكّن الفرد من الوصول إلى الثقافات المتعددة والتفاعل معها. ومن هنا ينبع التحدي، كيف يمكن للفرد أن يحافظ على خصوصيته وهو يختبر كونية متزايدة؟ هانز جورج غادامير يذكر أن "الفهم هو أفق يتشكل في مواجهة الآخر"، وفي عصر العولمة الرقمية، يصبح هذا الفهم عملية معقدة، إذ يتطلب موازنة دقيقة بين ما هو شخصي وما هو مشترك، بين الانفتاح على الاختلاف وحماية الخصوصية.

الهوية في هذا السياق ليست مجرد مسألة ذاتية، بل هي مشروع سياسي وثقافي في الوقت ذاته. فالفرد والجماعة يواجهان تحديات الاعتراف، ليس فقط من قبل الآخر، بل من قبل المؤسسات العالمية والثقافات المهيمنة، وأحيانا من التكنولوجيا نفسها التي تحدد من يمكنه أن يكون مرئيا، وماذا يمكن أن يعبر عنه. كما يرى تشومسكي، القوة الثقافية والسياسية تؤثر بشكل مباشر على إمكانية التعبير عن الذات، ما يجعل الحفاظ على الخصوصيات عملية مقاومة واعية، تتطلب إدراكا مستمرا للضغوط الخارجية وللتوازن بين الانفتاح والانغلاق.

في السياق الفلسفي، يمكن النظر إلى الهوية كحقل جدلي بين الذات والآخر، بين التاريخ والمستقبل، بين التقاليد والحداثة. إيمانويل كانط في تصوراته عن التنوير، يشير إلى أن "الاستنارة هي خروج الإنسان من قيود الذاتية غير الواعية"، وهي دعوة لإدراك حدود الذات والتفاعل الواعي مع الآخر. ومن ثم يصبح التحدي المعاصر هو إيجاد هوية متوازنة، تستطيع الاستفادة من الانفتاح الكوني دون أن تفقد القدرة على التمييز والحفاظ على ما هو أصيل.

تاريخيا، الهوية كانت دائما نتاج تفاعل مع القوى الخارجية، سواء كانت سياسية أو ثقافية أو اقتصادية. لكن العولمة اليوم تضاعف هذا التفاعل بشكل غير مسبوق، حيث تصبح المراجع الثقافية متعددة، والخيارات المتاحة للفرد واسعة، لكنها متشابكة ومعقدة. هنا، تظهر أهمية مفهوم "الهوية المركبة"، كما أشارت إليها فيرجينيا ووولف في سياق الأدب، وطورها علماء الاجتماع لاحقا، الهوية ليست عنصرا ثابتا، بل شبكة متداخلة من الانتماءات المتعددة، تتفاعل مع بعضها البعض لتشكل تجربة الوعي بالذات في عالم متغير. هذه الشبكة المتداخلة تحتاج إلى مهارات جديدة في القراءة والتفاعل، لأنها تتطلب فهما عميقا للاختلافات الثقافية والقدرة على التفاوض بين القيم والمعتقدات المختلفة.

التحدي الآخر الذي تفرضه العولمة على الهوية يتعلق بالذاكرة الجمعية. فالهوية لا تبنى على الحاضر فحسب، بل على تفاعل مستمر مع التاريخ والتراث. والتراث الثقافي سواء كان لغويا دينيا أم اجتماعيا، يشكل العمق الذي يمكن للهوية أن ترتكز عليه. إدوارد سعيد يوضح أن الثقافة ليست مجرد تجميع للمعارف، بل هي حقل للنضال الرمزي، حيث تتجسد السلطة في القدرة على التحكم في الرموز والمعاني. لذلك، يصبح الحفاظ على الذاكرة الثقافية والحضارية أحد أهم عناصر الدفاع عن الهوية في عالم يتعرض فيه الفرد والجماعة لضغوط التوحيد الثقافي.

الجانب الأخلاقي للهوية يظهر جليا في مواجهة الاختلاف. فإيمانويل ليفيناس يشدد على أن الآخر ليس مجرد مرآة للذات، بل مسؤولية قائمة بحد ذاتها، والاختلاف هو شرط أخلاقي للحياة الإنسانية. في فضاء عالمي معولم، يصير هذا الاختلاف مشروعا عمليا لتطوير العلاقات الإنسانية، حيث يُختبر الإنسان في قدرته على احترام الخصوصيات، والاعتراف بالآخر دون فرض النماذج الجاهزة. هذه المسؤولية الأخلاقية تتحول إلى بُعد سياسي وثقافي، لأن الاعتراف بالآخر يتطلب أيضا بنية اجتماعية وسياسية تدعم هذا الاعتراف، كما يشير هابرماس في مفهومه عن الفضاء العام التواصلي.

العولمة، إذن، ليست مجرد عملية اقتصادية أو تقنية، بل هي سياق وجودي وثقافي يعيد تشكيل مفهوم الهوية. فمن جهة توفر للعقل والوعي إمكانيات واسعة للتواصل والتفاعل مع الآخر، ومن جهة أخرى تفرض قيودا جديدة، من خلال سيطرة نماذج ثقافية موحدة وضغط السوق، وتحكم التكنولوجيا في تدفق المعلومات. فالهوية هنا ليست حالة سكونية، بل هي مسار مستمر من التشكيل وإعادة التشكيل، مسار يتطلب من الفرد والجامعة إدراكا متواصلا للانفتاح والتمركز، وللقدرة على التفاعل مع التعددية دون أن يؤدي ذلك إلى ضياع الخصوصيات.

التحديات التقنية، مثل الذكاء الاصطناعي ووسائل التواصل الاجتماعي، تضيف بعدا جديدا لمسألة الهوية. فالفرد المعاصر يعيش في فضاءات افتراضية تسمح له بإعادة بناء صورته، والتعبير عن ذاته بطرق غير محدودة، لكنها في الوقت نفسه تعرضه لمخاطر التزوير والسطحية. كما يرى مارشال ماكلوهان، "الوسيط هو الرسالة"، أي أن التقنيات نفسها تؤثر في شكل إدراك الإنسان لهويته وللآخر. ولذلك، فإن الحفاظ على الهوية في هذا السياق ليس مجرد مسألة اختيار، بل هو ممارسة نقدية تتطلب وعيا بالوسائط وبآثارها على النفس والمجتمع.

جانب آخر من جدلية الهوية يتعلق بالمقاومة الثقافية والسياسية. فبينما يدفع الانفتاح الكوني نحو التشابه، تدفع الخصوصيات المحلية نحو التمايز، ويظهر التوتر بين المشروع العالمي والمشروع المحلي. هنا، يظهر دور الهوية كمقاومة واعية، ليس بمعنى الانعزال، بل بمعنى الإبقاء على جذور الثقافة والتاريخ والتقاليد في مواجهة ضغوط التوحيد الثقافي. ويشير بورديو إلى أن الهوية تتشكل أيضا من خلال "المنافسة الرمزية"، أي الصراع على القيم والمعايير التي تحدد ما يُعتبر أصيلا وملائما. هذا البعد يجعل الهوية مسألة سياسية بقدر ما هي ثقافية وفلسفية.

الهوية في عالم معولم تتطلب بالتالي مزيجا من الفهم النقدي والممارسة الأخلاقية والسياسية. فهي ليست مجرد شعور بالانتماء، بل هي عملية مستمرة لإعادة التوازن بين الانفتاح الكوني والحفاظ على الخصوصيات. الفيلسوف بول ريكور يرى أن الهوية تتشكل في حوار مستمر مع الماضي والحاضر والمستقبل، وهي نص متواصل يُعاد كتابته دائما. وهذا النص يعكس تجربة الإنسان في مواجهة الآخر، ويختبر قدرته على التفاعل مع التعددية دون أن يفقد جذوره، أو يتلاشى في الفضاء الكوني المفتوح.

علاوة على ذلك، الهوية في زمن العولمة هي مسألة تتعلق بالعدالة والاعتراف المتبادل. فالاعتراف بالاختلاف ليس ترفا، بل هو شرط أساسي لبناء مجتمع كوني يحترم التنوع والخصوصيات. هابرماس يصف هذا بالفضاء العام التواصلي، حيث يمكن للأفراد والجماعات التعبير عن هوياتهم المختلفة والمفاوضة على معانيها. بدون هذا الفضاء، تصبح الهوية معرضة للانغلاق أو الطمس، وينشأ صراع بين القوى الثقافية المهيمنة والخصوصيات المحلية، مما يعقد إمكانية التفاعل الحضاري البناء.

التحدي الأكبر هو أن يجد الإنسان طريقه بين الانفتاح على الكونية والانغلاق على الخصوصيات، بين الاعتراف بالآخر والحفاظ على الذات. الهوية هنا ليست مجرد مسألة نفسية أو ثقافية، بل هي تجربة وجودية وأخلاقية وفلسفية. فالوعي بالاختلاف واحترامه والقدرة على التفاعل معه، هو ما يجعل الإنسان قادرا على الحفاظ على عمقه الذاتي في عالم مفتوح ومتغير.

يمكن اعتبار الهوية "مشروعا مستمرا" لا ينتهي، بل يتطور مع مرور الزمن، ويواجه التحديات الجديدة التي تفرضها العولمة والتقنية والسياسة، مع الحفاظ على الثوابت التي تشكل جوهر الذات.

إن الهوية في عالم معولم ليست مجرد مسألة حماية الخصوصيات، ولا مجرد انفتاح على الكونية، بل هي التوازن المستمر بين هذين القطبين. هي مشروع أخلاقي وفلسفي وسياسي، يتطلب من الإنسان والجامعة إدراكا مستمرا للتحديات، والقدرة على التفاعل مع الآخر، والحفاظ على ما هو أصيل. كما يقول هانز جورج غادامير، "الفهم هو أفق يتشكل في مواجهة الآخر"، وفي هذا التفاعل تتكشف حدود الهوية، وتتجلى مسؤولية الإنسان في عالم يتغير بسرعة ويجمع بين التنوع والتوحيد بين الانفتاح والانغلاق، وبين الكونية والخصوصية.

***

د. حمزة مولخنيف

في المثقف اليوم