أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: تاريخ موجز للأصالة.. الاسس الفلسفية

لماذا يهتم الناس كثيرا بمنْ هم؟ بالطبع هم لا يستطيعون فعل الكثير حول هذا. مهما حاولنا تعديل سلوكنا وعاداتنا، وحتى لو نجحنا، نحن حتما ننتهي في كوننا نحن حتى لو ترافق ذلك مع القدرة في الشعور باننا لسنا أنفسنا، او اننا نتغير او نصبح نسخة أفضل لأنفسنا.

ديل كارنيجي Dale Carnegie، أول وأشهر خبير في المساعدة الذاتية لاحظ انه "عندما لا ننشغل بالتفكير حول مشكلة محددة، نحن ننفق 95% من وقتنا نفكر حول أنفسنا". تقديراته كانت شخصية وليست واقعية. البحوث التجريبية تقترح انه حوالي نصف وقت اليقظة والذي يساوي 8 ساعات يوميا للشخص البالغ في العالم المتطور يُخصص للتفكير بما نقوم به حقا والجزء الاكبر من الوقت المتبقي يُخصص لعدم التفكير والعيش في اللحظة.

وللتأكيد، كان أسلافنا من جامعي البذور أقل اهتماما بمنْ هم في أعماقهم او محاولة العثور على انفسهم، حيث ان المهنة كانت منسجمة جيدا مع قيمهم الاساسية وقد زودتهم بإحساس قوي بالمعنى والهدف. في النهاية، أهدافهم الحياتية الكبرى كانت محدودة بالبقاء: يأكلون ما يقع في ايديهم، ويتجنبون ان يكونوا فريسة، ينقلون جيناتهم، يكررونها قدر ما يستطيعون، ثم يموتون (مالم يستطيعوا تجنب ذلك لكنهم لن يستطيعوا). في معظم تاريخنا التطوري كانت الحياة بسيطة.

قبل ظهور الديمقراطيات الحديثة، كانت المجتمعات قد تأسست بطرق هرمية ونخبوية تنتقل فيها السمعة بواسطة الطبقة او المكانة، والافراد نادرا ما ينقلون طبقتهم الاجتماعية او طائفتهم، بما يجعل الاسئلة حول الهوية غير ملائمة. حتى أقاربنا الأقل بعدا مثل عمال خط التجميع في القرن العشرين نادرا ما يعودون للبيت بعد عمل متعب في المصنع، دون ان يشكون لزوجاتهم حول "فقدان معنى الانتماء"، "والهدف" او كونهم غير قادرين "على جلب ذاتهم كاملة الى العمل".

اذن، من أين ينشأ انشغالنا بمعرفة هويتنا العميقة وعيش حياة ذات معنى وحقيقية وأصيلة؟ العيش الأصيل، يتضمن ليس فقط ضرورة معرفة الذات والتصرف طبقا لقيم الفرد، وانما ايضا تجسيد درجة قوية من الانخراط الروحي بحياة وعمل الفرد، ومثّلت لوقت طويل حجر الزاوية الاساسي للعديد من الاطر الفلسفية والاخلاقية لعيش حياة جيدة، وفحص انواع السلوك والمعتقدات التي تمكننا البشر من السعي للتوجّه لحياة اكثر فضيلة وأخلاقية. أمثلة تتوفر في كل من الكونفوشيوسية والهندوسية والبوذية وجميع الاديان الكبرى. في الحقيقة، معرفة الذات وفهم الذات هي من اكثر الموضوعات تكرارا في أي نظام أخلاقي، والتي تتجاوز الزمن والجغرافيا والثقافة .

ان إعادة ظهور الأصالة الحديثة يمكن تعقّبها الى القرنين السابع عشر والثامن عشر، وبالذات في اوربا عندما ادّى ظهور الانسانوية humanism الى تحفيز الناس لإحتضان قيمة ان يكونوا حقيقين في أنفسهم. وبفضل التغييرات الكبرى في المجتمع والسياسة والفلسفة، بدأت افكار من النهضة والاصلاح البروتستانتي والتنوير تهز الاشياء. والناس بدلا من رؤية انفسهم مجرد حلقة ربط في سلسلة صارمة لا تتغير من الوجود، بدأوا يرون انفسهم كافراد متفردين لهم الحق بعمل خياراتهم الخاصة في الحياة.

أساسا، أدّى الانتقال التقدمي من القرون الوسطى الى الانسانوية الى نقل مركز الكون من الخالق العظيم الى الناس، وبدأوا بتحويل ثقتهم من السلطات والافكار الخارجية الى قدراتهم الذاتية في توجيه قراراتهم وأفعالهم. ونظراً لما يبدو عليه هذا من إثارة وجاذبية، فهو قد جلب معه جانبا سلبيا غير متوقع. عندما نهمل الله او الايمان الرسمي، نخلق فراغا روحيا يتركنا نتسائل حول نفس الاسئلة التي قادت الى اختراع الله والدين في المقام الاول: أي، اسئلة ميتافيزيقية لا يستطيع العلم الاجابة عليها. وكذلك، في غياب المدونات الاخلاقية الرسمية لتقرير الخطأ من الصحيح، نحن تُركنا وحيدين لوسائلنا الخاصة، علينا ان نعمل على حل كل شيء بأنفسنا من خلال التجربة والدليل او العقل – والتي اتضح ان لا شيء منها صلبا وقويا كما اُعلن. مرة خرى، هذه الاستقلالية تبدو رائعة، لكنها أصعب بكثير من اتّباع وصفة معيارية.

وكما أشار عالم النفس الاجتماعي روي باوميستر Roy Baumeister، عندما لا توجد هناك قواعد واضحة متفق عليها حول كيفية العيش، نميل للاعتقاد بتلك القواعد المختبئة فينا. اذا كان تقدير الناس للصدق مع انفسهم يأتي جزئيا من الابتعاد عن الدين فان محاولة معرفة ذواتنا الحقيقية قد تكون نوعا من طريقة غير دينية للعثور على معنى في الحياة. انها لاتزال محاولة لإنجاز بعض الاهداف السايكولوجية او الروحية التي سعى لها الدين، كمساعدتنا في فهم العالم، لكن بدون مشاركة الدين الذي لا يتوافق جيدا مع مجتمع اليوم الاكثر علمية ومساواة في التفكير – تماما مثل المدرسة القديمة والقواعد الصارمة وفكرة ان الاشياء يجب ان تكون بطريقة معينة فقط لأن هذه هي الطريقة التي كانت عليها دائما.

ومع ظهور الوجودية في القرنين التاسع عشر والعشرين، اصبحت الأصالة هي الاهتمام المركزي للفلاسفة. أبرز هؤلاء كيركيجارد الذي لاحظ ان الأصالة هي حول القبول والاتفاق مع  نواقص المرء، خاصة تلك المظاهر في حياتنا التي وراء سيطرتنا، والتغلب على قلقنا ومخاوفنا العميقة .

ونفس الشيء بالنسبة لهايدجر الذي اكّد على اننا نعيش في زيف دائم او لاأصالة، كنتيجة لكوننا في إنكار لمحدوديتنا، او نجد العذر للتفكير حول الموت. كذلك سارتر لاحظ اننا في الأغلب نعيش في حالة من "الايمان السيء" او اللاأصالة، كما لو ان قوى خارجية قررت أفعالنا، ولم تكن لدينا سيطرة على حياتنا وهو ما يراه مجرد عذر رخيص لعدم تمكّننا من تنظيم امورنا وتحمّل المسؤولية التي ينبغي لنا ان نتحملها لو ادركنا اننا في الواقع محكوم علينا بالحرية.

المرحلة الأخيرة الهامة في تاريخ الأصالة هي ظهور المجتمع الاستهلاكي، الذي جاء مع حرية غير مسبوقة لإكتساب عدد لا محدود من السلع التي ليس لها قيمة وظيفية على الاطلاق، حيث انها تُباع تحت فرضية ووعد انها تساعدنا في تحديد هويتنا. المجتمع الاستهلاكي يخرّب الأصالة عبر ترسيخ الهويات السطحية المبنية على السلع المشتراة وتعزيز الاعتمادية على الصلاحية الخارجية. وبدلا من تربية هوية فريدة من خلال التفكير الذاتي والتجربة، تقدم الاستهلاكية consumerism هويات جاهزة الصنع مرتبطة بسلع معينة واساليب حياة خاصة.

***

حاتم حميد محسن

 

في المثقف اليوم