أقلام فكرية

عبد الحليم لوكيلي: نشأة الفلسفة في تصور هوبز الفلسفي

في الغالب ما نعتبر أن الفلسفة لم تظهر نظريا إلا في الحضارة الإغريقية القديمة، نتيجة مجموعة من العوامل السياسية والتاريخية والاقتصادية...إلخ. لكن، ما يتم إغفاله هو أن الفلسفة بما هي تفكير قائم على المعقولية، فهي سابقة من حيث الظهور والانبلاج عن الإغريق. وذلك لسبب بسيط، وهو أن ملكة الاستدلال العقلي التي تحملها كل ذات إنسانية، هي نتيجة استخدام اللغة باعتبارها مكونا أساسيا من مكونات جعل الذات في حال تفكير وتأمل. فاستعمال اللغة يجعلنا أمام تصور يفيد أنه من المحتمل أن يوجد عند أقدم الكائنات البشرية بعض الاكتشافات والحقائق، كقدم اللغة نفسها. لكن، ونظرا لكون هذه الحقائق لم تصلنا كتابة ولا نثرا، فإننا نعمد على نفي أن تكون هناك فلسفة غير ما ظهر عند الإغريق قديما. فصحيح، أن البشر في المجتمعات القديمة كانوا يعيشون وفق التجربة البدائية التي تحقق لهم شبه الاكتفاء الذاتي من الطعام، والتقليل من فرط الخوف من الموت العنيف (La mort violente) الذي يصاحب كل ذات، بسبب الهشاشة (La fragilité)  والضعف (la faiblesse). غير أن هؤلاء لا يعني أنهم يفتقدون لبعض الأحكام الأخلاقية السليمة، وكذا بعض المعارف الحسابية التي كانت تخول لهم القسمة والحسبة للأعداد البسيطة والصغيرة، وإن كانوا ليسوا بفلاسفة على وجه التحديد[2]. خصوصا، وأن هؤلاء لم تكن الغاية من عملهم وكدهم واجتهادهم، إلا تحقيق ما سلف ذكره من أساسيات العيش، أما الاهتمام ببذور المعرفة في ذاتها فهو أمر لم تكن له أهمية.

ولعل السبب في ذلك، أن هؤلاء الناس كانوا في حال افتقار «إلى وقت الفراغ بسبب السعي وراء ضرورة الحياة، والدفاع عن أنفسهم ضد جيرانهم»[3]كما يقول هوبز. فانعدام وجود الفراغ الذي يتيح للإنسان إمكانية التفكير والتأمل والإبداع، يجعل من الاهتمام بالمعرفة في ذاتها، وما يمكن أن نُحصله منها من فوائد ومنافع عملية، أمرا مستحيلا. وعلة ذلك، أن الازدهار والتقدم والإبداع لا يمكن أن يقوم على أنقاض التوجس من مآلات الحياة، وصعوبة العيش وكدرها، لأن الإنسان في هذه الحالة، يكون منهمكا وشاردا تفكيرا وتأملا في البحث عما يمكن أن يسد به رمق الجوع، بل وما يمكن أن يحفظ به حياته من الأعداء في ظل انعدام وجود المنتجات بوفرة. مما يترتب عن ذلك، أن الحياة التي تكون آمنة مطمئنة، وفيها حيز من الفراغ الذي يسمح للذات بأن تُمرن عقلها وفكرها وخيالها، هي الحياة التي سمحت بظهور الفلسفة كنمط من التفكير الإنساني القائم على البحث عن معقولية الأشياء. وبهذا المعنى، فحيث يوجد مجال وحيز لإطلاق عنان الخيال والتفكير، يكون للفلسفة إمكان للظهور، وهو ما يعبر عنه هوبز بالقول: «إن وقت الفراغ هو أم الفلسفة»[4].

هكذا، فوقت الفراغ هو المقام الذي يسمح بخلق فضاء للتفكير والإبداع الفلسفي. غير أن هذا الوقت لا يمكن أن يتحصل إلا بوجود فضاء علائقي مشترك هو المدينة أو الدولة الذي يسمح ويُؤَّمن ذلك. فظهور المدن-الدول الكبرى في تاريخ البشرية، سمح بإتاحة حيز من الزمن الذي يعيشه الإنسان للتفكير والتأمل في حياته ومحيطه الذي يعيش فيه، لاسيما، بعد التقليل من فرط الخوف من الجوع والموت العنيف. وبهذا المعنى، تكون «الفلسفة هي بنت المدينة فقط»[5]، بحيث لا تبزغ شمسها «إلا على مدينة بلغت من التحضر أوجه، وكمُلت لها هويتها الذاتية وشخصيتها اللغوية، وأدركت من الاستقرار والوفرة ما تسمح به للعقول المفكرة أن تنطلق إلى البحث عن كمالاتها الممكنة.»[6].

في هذا الصدد نفسه، لا نجد أي فصل بين ظهور المدن-الدول كفضاء لتحقيق السلام وظهور الفلسفة عند توماس هوبز، إذ يقول بوضوح في كتابه «اللفياثان» ما مفاده أن «الدول هي أم السلام ووقت الفراغ، وحيث قامت وازدهرت مدن عظيمة بداية، كانت هناك أول دراسة للفلسفة.»[7]. وبهذا المعنى، لم تظهر الفلسفة بداية عند الإغريق وباقي شعوب الغرب،[8]بل وجدت في لحظة وجود أعظم الممالك القديمة عن الإغريق مثل؛ الهند، وفارس، والكلدانيين، والمصريين...إلخ. ففي هذه المناطق الجغرافية التي وجدت فيها أقدم الممالك البشرية، كان للفلسفة ولادة وظهور. لذلك، نجد أقدم الفلاسفة -من وجهة نظر هوبز- هم النساك الأوائل في الهند (Gymnophysists)، والمجوس في فارس، وكهنة الكلدانيين والمصريين[9]. أما الإغريق فهي حضارة لم تكن بعد قد نهضت واستقرت، نتيجة الحروب التي كانت سائدة فيها، والتي لم تسمح بإتاحة وقت من الفراغ لظهور التفكير الفلسفي.

لكن، لما «وحدت الحرب العديد من هذه المدن اليونانية الصغيرة إلى مدن أقل وأعظم، بدأ سبعة رجال من أجزاء مختلفة من اليونان يكونون سمعة بأنهم حكماء، بعض منهم لأحكامه الأخلاقية والسياسية، وآخرون لتعلمهم من الكلدانيين والمصريين، وكان ذلك، في مجالي الفلك والهندسة.»[10]. ففي هذه اللحظة التي تم فيها ظهور المدينة-الدولة ظهرت الفلسفة اليونانية، ولعل هذا ما يؤكده أحد المؤرخين المعاصرين بالقول:

«بزغت الفلسفة، كتفكير عقلي جديد، نتيجة ابتكار للمؤسسات السياسية التي سميت بالمدينة-الدولة (polis)، فمع ظهور المدينة، ولأول مرة في تاريخ البشرية اعتبرت القضايا المشتركة بين الناس غير خاضعة للحسم، وأن القرارات المتعلقة بالمصلحة العامة لا يمكن أن تتخذ إلا بعد نقاش علني وسجالي يكون مفتوحا للجميع، تتعارض فيه الأقوال المدعمة ببراهين.»[11]. وعليه، فظهور الفلسفة كان رهينا بوجود المدينة-الدولة التي تسهر على إتاحة حيز من الزمن، للانشغال بالهموم الفكرية والبحثية التي تسمح باستنتاج واستنباط جملة من المبادئ والقوانين التي تنظم حال الوجود والطبيعة والإنسان.

بالإضافة إلى ما سبق، إن الأمكنة التي كانت مخصصة للدراسة والتعلم في الحضارة الإغريقية، كان يطلق عليها اسم (Schola) التي تعني في المعنى اليوناني القديم «وقت الفراغ»[12]. مما يفيد أن التعلم لا يمكن أن يتم إلا في وقت الفراغ الذي يكون وقتا قد تخلص فيه الإنسان من كل مطبات الحياة ومشاغلها. بل حتى المناظرة التي كانت تقام بين من يدعي بكونه حكيما أو فيلسوفا، كانت تسمى باللغة اليونانية (Diatriba) التي تعني في الدلالة العامية آنذاك «تمضية الوقت»[13]، وكأن مكان التعلم؛ أي المدرسة بلغتنا اليوم هي فضاء لتمضية الوقت، بل هي كذلك، غير أنها فضاء لتمضية الوقت فيما ينفع الذات، فيجعلها في حالة إدراك لنفسها ووجودها، لا فيما يضرها، فيجعلها في حال جهل ونكوص[14]. وبناء عليه، فالفلسفة قد انطلقت نمطا من التفكير في مسارها الذي يمتد لقرون، نتيجة وجود المدن-الدول العظيمة التي سمحت بوجود وقت للفراغ.

وإن كان هذا المسار سيعرف تبدلات وتغيرات من حيث أسس التفكير ومضامينه. بحيث إذا كان الفكر الفلسفي القديم يقوم في بنيته الميتافيزيقية على مجموعة من المبادئ النظرية مثل، العلم بالكليات، والتفكير القائم على ما هو مكاني (فوق- تحت)... إلخ، فإنه في العصر الأوروبي الحديث، سيتم الانتقال من مستوى العلم بالكليات إلى العلم بالجزئيات، ومن التفكير القائم على المكان إلى التفكير القائم على فكرة الزمان؛ أي ما قبل وما بعد، نتيجة جملة من الشروط النظرية (الدين، العلم...) التي سمحت بذلك[15].

***

د. لوكيلي عبد الحليم

أستاذ مادة الفلسفة - المغرب

....................

المصادر والمراجع

[2] توماس هوبز. اللفياثان: الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة. ترجمة ديانا حرب وبشرى صعب؛ مراجعة وتقديم رضوان السيد. ط. 1. (أبوظبي: معهد أبو ظبي للثقافة والثرات، 2011)، ص.631.

[3] المصدر عينه، ص.631-632.

[4] المصدر عينه، ص. 632.

[5] إبراهيم بورشاشن، (2023)، الفلسفة والمدينة. موقع (https://www.alittihad.ae). نشر يوم 07 أبريل 2023، وقد تم الاطلاع عليه يوم 06-05-2023.

[6] المرجع عينه.

[7] توماس هوبز، اللفياثان، مصدر سابق، ص. 632.

[8] تجدر الإشارة إلى أن المقصود هنا، ليس الحديث عن الفلسفة النظرية التي لم تظهر إلا مع فلاسفة اليونان (أفلاطون وأرسطو نموذجين)، بل الحديث عن الفلسفة في بعدها العملي كنمط من التفكير والتأمل في الذات ومعيشها ومحيطها.

[9] توماس هوبز، اللفياثان، مصدر سابق، ص. 632.

[10] المصدر عينه.

[11] جان بيير فرنان. بين الأسطورة والسياسة. ترجمة جمال شهيد. ط.1. (دمشق: دار دمشق، 1999)، ص. 67-68.

[12] توماس هوبز، اللفياثان، مصدر سابق، ص. 633.

[13] المصدر عينه.

[14] يشير الدكتور محمد الشيكر في مقاله «هيجل والتربية» إلى أن لفظ (Scholae) «ينطوي (...) في اللغة اليونانية على دلالة «محل أو مكان الدروس»، ولكنه يدل في ذات الآن على معنى الترفيه، مما يشي بأن المدرسة هي مكان للجد واللعب في آن.». أنظر:

-محمد الشيكر. «هيجل والتربية». ضمن أعمال ندوة «فلسفة الأنوار ومسألة التربية». بكلية الآداب والعلوم الإنسانية-القنيطرة، 01 دجنبر 2016. ط.1. (الرباط: دار أبي رقراق للطباعة والنشر، 2018)، ص. 196.

[15] عبد المجيد باعكريم وآخرون. "أولويات البحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية والشرعية في العالم العربي". ط. 1. (قطر: مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية، 2020)، ص. 66.

 

في المثقف اليوم