أقلام فكرية
علي عمرون: اللاشعور والتحليل النفسي
بين التأصيل العلمي والافتراض الفلسفي
فرش اشكالي: احتل مفهوم الوعي الصدارة في الفكر الكلاسيكي على اعتبار أنه خاصية الانسان العاقل فهو جذر كل تفكير وأساس كل استدلال ومرتكز كل العمليات العقلية - على حد تعبير هاملتون- إنه يتحكم في مدركاتنا ويحدد نظرتنا لأنفسنا والعالم الخارجي ويصاحبنا في كل ما نفكر فيه وما نفعله ويسيطر على ارادتنا ويراقب ويوجه رغباتنا وهو بهذا المعنى يتماهى مع الحياة النفسية في وحدة لا انفصام فيها واذا كان الانسان من الممكن ان يتحرر من بدنه في النوم فانه من منظور ابن سينا يستحيل ان يتجرد من وعيه وشعوره ومن هنا كان الوعي عند مؤسس العقلانية والحداثة في الفكر الغربي رونيه ديكارت العلامة الحقيقية على سيادة الذات المفكرة مادام الوعي يحقق لصاحبه فضيلة النظام ويرتقي به الى مراتب النضج والكمال.
لكن رغم التمسك بمركزية الوعي وسيادة الأنا في الفلسفة التقليدية ظهر طرح آخر مناقض ركز فيه اصحابه على وجود دوافع خفية لا يعيها الفرد تحركه وتدفعه نحو سلوكات معينة وهي دوافع كامنة في لا وعيه وقد تجلى ذلك بوضوح في اطروحات ليبنتز وشوبنهاور ونيتشه لتبلغ ذروتها عند اصحاب مدرسة التحليل النفسي مع مؤسسها فرويد وتلامذته ادلر ويونغ ... هو طرح مناقض احتل فيه اللاشعور مساحة واسعة وتم النظر اليه كجانب خفي ومظلم وكمستودع للرغبات والميول والافكار والذكريات المكبوتة واضحى الانا في نظر فرويد ليس سيدا حتى في بيته وبعدها كان ينظر الى الشعور كمفتاح لفهم الانا من منطلق ان الفكر قادر على حدس احواله وافعاله اصبح ينظر الى أفعال الانسان على انها أفعال في الغالب لاشعورية،هذا التقابل في المفهوم بين الشعور واللاشعور والتناقض في الطرح يدفعنا بداية الى التساؤل:
-هل يستقيم منطقيا وواقعيا الاقرار بوجود حياة نفسية لاشعور في ظل التسليم بان الانسان كائن عاقل؟
-هل فكرة اللاشعور تمثل حقيقة علمية ام يبقى مجرد افتراض فلسفي؟
-هل منهج التحليل النفسي يمثل نظرية علمية ام هو امتداد للمناهج الفلسفية؟
-وهل حقا فرويد لم يكن عالما؟ والى حد يمكن الثقة بأفكاره؟
-وهل لازلنا بحاجة الى منهج التحليل النفسي؟
أولا: التشكيك في علمية التحليل النفسي واعتبار فرضية اللاشعور فكرة فلسفية بالأساس
يؤكد المشككون في علمية منهج التحليل النفسي انه لا يرتقي الى مرتبة النظرية العلمية فهو من منظور كارل بوبر شبه علم بل يمكن ادراجه ضمن دائرة العلوم الزائفة.
والتهجم على منهج التحليل النفسي يرتكز على مبررات عديدة منها انه تم تأسيسه على مسلمة اللاشعور وهي مجرد افتراض فلسفي يحمل تناقضا متنكرا فمن غير المنطقي التسليم بوجود عقل لا يعقل ونفس لا تشعر ما دمنا نصف الانسان بانه كائن عاقل إضافة الى ان نتائج هذا المنهج لا تقبل التعميم . ذلك أن الطريقة التي اعتمد عليها فرويد في تبرير الكبت اللاشعوري لا يمكن تعميمها على جميع الأفراد لان تطبيقه كان على عينة خاصة ومحدودة من المرضى فقط وقد أكد الباحث ستيغنر بأن فرويد لم يقم بحوثه على اي دراسات فعلية على الأطفال، وفي النفس السياق نجد الفرنسي ميكال بورغ جاكوبسن نشر في كتابه «مرضى فرويد: المصائر» ما اكتشفه عن حقيقة الحالات التي قيل إن فرويد عالجها بفضل
جلسات التحليل، وكتب قائلا: " كل نظريات فرويد بُنيت على دراسة حالات محدودة كـ(دورا) و(آنا او) و(رجل الذئاب) و(دانيال بول شريبر) هذه الحالة الأخيرة استحوذت على اهتمام سيغموند فرويد، الذي قدم تفسيًرا تحليلًيا نفسًيا لأعراضه في مقال "ملاحظات تحليلية نفسية على حساب السيرة الذاتية لحالة جنون العظمة" سنة 1911حيث نظر الى حالة شريبر على أنها مظهر من مظاهر الرغبات الجنسية المثلية المكبوتة والصراعات الأوديبية لم يتم حلها، والمتجذرة في علاقته مع والده الاستبدادي ويؤكد صاحب هذا الكتاب " انه حين نبحث في الأرشيف، الذي تمكنا من الحصول عليه بعد عقود طويلة ظل فيها مسجلاً تحت (سرّي)، نجد أن ثلاثاً أو أربع حالات فقط كُتب لها الشفاء، وهذا رغم تأكيداته المعاكسة" وتفيض هارييت هال بمزيد من التفصيل في مجلة: (Science based in medicine) " كان أسلوب فرويد غير علمي ولم يختبر أفكاره مع التجارب التي قد تكون منافية لمعتقداته وتجاهل الحقائق التي تتناقض مع معتقداته" .
ومن عيوب منهج التحليل النفسي خلوه من التنبؤات الحقيقية، فهو يفسر لنا ما وقع ولكنه عاجز عن التنبؤ بما سيكون والعديد من العلماء اعترض على أن نظرية فرويد غير مدعومة بنتائج بحثية وعلمية، ففي الحقيقة بعد أن بدأ علماء النفس بإعادة دراسة الكثير من أفكاره توصلوا إلى عدم صحة بعضها علميا، وعدم إمكانية إثباتها أو دحضها من خلال التجربة لتصبح مجرد فرضيات وما يأخذ البعض على فرويد انه لم يستخدم الأساليب التجريبية والتقييمات الموضوعية، وإنما كل نظرياته قائمة على الوقائع والخيالات التي كانت ترويها له شخصياته المريضة، والتي كان يسجلها بعد ساعات من سماعها، مما يجعلها هي ذاتها موضع شك، وهو لم يحاول التحقق من أقوال المرضى بمضاهاتها بأقوال أي من معارفه أو بأي طريقة أخرى اعتمادًا على ثقته في التداعي الحر.
من عيوب هذا المنهج غياب الموضوعية وافتقاره الى اللغة العلمية ورغم ادعاء فرويد الموضوعية في البحث والاحتكام الى منطق التجريب لا التجريد إلّا أن هذا لم يمنعه من الاستشهاد، طيلة مسيرته، بعشرات الأسماء والمفاهيم والأطروحات الفلسفية، وهو الذي عرف الفلسفة والفلاسفة عن قُرب في شبابه، من خلال حضوره لدروس الفيلسوفين فرانز برينتانو وتيودور غومبيرز، وترجمته نصوصاً للفيلسوف البريطاني جون ستيوارت ميل .
من هنا حاول البعض ادراج التحليل النفسي وما يحفل به من مصطلحات وما ينطوي عليه من قصص ونتائج ضمن دائرة الادب والفن فالباحث السويدي نيلز ويكلند نشر في المجلة الفرنسية «الأزمنة الحديثة» مقالاً تم تداوله كثيراً بعنوان «لماذا لم يحصل فرويد على جائزة نوبل؟» شرح فيه الأسباب التي جعلت لجنة «نوبل» ترفض منح فرويد جائزة الطب، رغم أنه رُشح لها 12 مرة ما بين 1915 و1938، مُلخصاً الدوافع في انعدام الثقة لدى الأوساط العلمية في أفكار فرويد، بسبب غياب الدلائل العلمية التي تبرهن على صحّتها. والأدهى -كما يضيف- هو أن الطبيب الذي فشل في إقناع المجتمع العلمي بقيمة نظرياته، قد نجح لحدّ ما في الحصول على اعتراف الأوساط الأدبية بقيمة أعماله، حيث مُنح جائزة «غوته» التي تكافئ أحسن الأعمال الأدبية الألمانية عام 1930، كما رشّحته بعض الشخصيات كالكاتب الفرنسي رومان لوران لجائزة نوبل للآداب عام 1936؛ حيث كتب هذا الأخير في رسالة التوصية التي بعث بها لأعضاء لجنة نوبل ما يلي: “ أعلم أنه للوهلة الأولى سيبدو ترشح العالم اللامع أكثر توافقاً مع جائزة في الطب، لكن أعماله العظيمة فتحت طريقاً جديداً لتحليل الحياة العاطفية والفكرية، وأثرت على الأدب بقوة على مدار ثلاثين سنة”. ويتفق عالم النفس هانز آيزنك مع هذا الطرح مؤكدا على أن فرويد عبقري ولكن " عبقري في الترويج والإعلان والإقناع والفن الأدبي وليس في العلم والإثبات القوي وانشاء التجارب" ودراسته ككاتب في أقسام اللغة والأدب أفضل من دراسته كعالم في أقسام علم النفس.
كما نجد ميشال اونفراي في كتابه أفول صنم: الأكذوبة الفرو بدية " يهاجم فرويد بحدة مؤكدا ان أغلب الحالات التي أعلن عن شفائها لا وجود لها أبدا وانه اسقط حياته الشخصية على بحوثه يقول:" أراد فرويد بناء "علم"، ولم ينجح. أراد أن "يثبت" أن اللاوعي له قوانينه ومنطقه الجوهري وبروتوكولاته التجريبية ولكن للأسف كذب ليزين نفسه بالشعارات العلمية. لقد سرق أفكار نيتشه وشوبنهاور"
ويؤكد ميشال اونفراي أن التحليل النفسي تلفيق، وخيال، وبناء أدبي، ومنتج فني، وبناء شعري بالمعنى الاشتقاقي.فقد تعمد فرويد تشابك الخصلة، وطمس المسارات عمدا، ومحو الآثار، وزور نتائج اكتشافاته، ومارس في أغلب الأحيان الرخصة الأدبية بالاختباء وراء الذريعة العلمية، ودمر المراسلات، وسعى لتخليص أخطر ما عرّض بريق أسطورته للخطر التحليل النفسي وهو التنكر لفضل شوبنهاور ونيتشه ففي عام 1914، في مساهمة في تاريخ حركة التحليل النفسي، ادعى فرويد أنه قرأ شوبنهاور بالتأكيد، لكن نظريته في القمع لا علاقة لها بكتاب "العالم كإرادة وتمثيل"، على الرغم من أنه هو نفسه تمامًا. يسبقه بأكثر من نصف قرن! ويمكن لقارئ كتاب فلسفة اللاوعي الذي ألفه إدوارد فون هارتمان أن يشير أيضًا إلى أوجه تشابه أخرى بين فرويد وهذا الفيلسوف الألماني وتظل الحقيقة أن الفرويدية تبدو فرعًا فريدًا من النيتشية بالنسبة لأي قارئ حتى لو كان لديه القليل من المعرفة بالفلسفة.
ولقتل الآب الذي يمثله نيتشه، حاول فرويد تجاهله، وقلل من وجوده، بل حاول اغتياله رمزيًا عن طريق تشويه سمعة الرجل من خلال قراءة أخلاقية ماكرة. يصبح فيها نيتشه مثليًا جنسيًا، ومنقلبًا، ومترددًا على بيوت الدعارة الذكورية حيث أصيب بمرض الزهري في نهاية وجوده، فقد كتب فرويد في رسالة إلى أرنولد تسفايج (11 مايو 1934): " خلال شبابي، كان [نيتشه] يمثل بالنسبة لي نبلًا كان بعيدًا عن متناول يدي. تعرف عليه صديق لي، الدكتور بانيث، في إنجادين وكان يكتب لي الكثير من الأشياء عنه. "
لقد أخفى فرويد حسب ميشال اونفراي احتياجاته الفسيولوجية، وادعى الموضوعية. ومعه يأخذ إخفاء هذه الأدلة وتمويهها منحىً غير عادي. وبكل تأكيد التحليل النفسي هو تفسير لجسد فرويد ولا شيء غيره. لكن فرويد يقول عكس ذلك تماما: التحليل النفسي هو تفسير لجميع الأجسام، باستثناء جسمه. إنها تمثل، للعين الواعية، قراءة ذاتية لمأساة وجودية شخصية تحمل ختم الرغبة في سفاح القربى؛ فعندما كان طفلا كان يرغب في أمه بخيال سفاح القربى: فرويد كشخص بالغ ينظر إلى عالمية ما يسمى بعقدة أوديب. نيتشه يعطي مفتاح هذه المغامرة للجميع. لم يرد فرويد أن يسمع عن هذا المفتاح، فهو يعلم أنه يفتح غرفة مظلمة مليئة بالفئران الميتة، والثعابين الانتقامية، والحشرات الجائعة....
ويعتبر جاك فون ريلر، أستاذ علم النفس في جامعة لوفان ببلجيكا، أكثر من هاجم فرويد ومناهجه العلاجية، حيث شرح في كتابه «أوهام التحليل النفسي» ما يلي: «وصلنا إلى خلاصة مفادها أن التحليل النفسي لم يكن أكثر من ظاهرة ثقافية عرفت الرواج في حقبة تاريخية، كان فيها التوجه السائد للنخبة هو تبجيل كل ما يأتي في السياق الحداثي، لكن سرعان ما استيقظ الكلّ ليكتشف أنه لم يعالج أحداً، وأننا نعيش في أوهام منذ عقود...» كما رفض من قبل جون بول سارتر فكرة اللاشعور واعتبره مجرد "خداع النفس" وعنده أن منهج التحليل النفسي تأسس على أفكار ميتافيزيقية وما يعاب على فرويد ربطة هذا المنهج بمجموعة من التفسيرات الفلسفية والاساطير ومثال ذلك حديثه عن غريزتي البقاء (ايروس) والموت (ثاناتوس) وكذا عقدة اوديب وعقدة إلكترا وملخص أسطورة أوديب كما وردت في مأساة سوفوكليس ان العراف قال لملك طيبة انذاك (لايوس) بانه سيقتل بيد ابنه، وفي ذلك الوقت كانت زوجته حاملا فلما ولدت أوديب أمر الملك بان تدق مسامير في أقدام الوليد وهو السر في تسمية الطفل "أوديب" أي صاحب الاقدام المتورمة وكذا اسطورة الكترا الإغريقية، التي أرادت من أخيها أن يتأر لموت أبيها أغامينون، وذلك بقتل أمهما كليمنسترا، وذلك لأنها شاركت في قتل زوحها، والد الكترا .
ومن عيوب منهج التحليل النفسي تركيره على الفرد من دون الالتفات إلى تأثير البيئة والمجتمع والثقافة. وقد اعتبرت اراء فرويد قاصرة لتركيز نظريته على العامل الجنسي فقط متناسيا العوامل الأخرى التي تساهم في بناء نفسية الفرد يقول الفيلسوف الفرنسي الان:" الفرويدية الذائعة الصيت هي فن اختراع حیوان مخيف داخل كل إنسان من خلال علامات عادية" وقال أيضا: " اللاشعور" احتقار للأنا وعبودية للجسد"
و كتب رينيه بومبيي وهو مشكك وباحث فرنسي كتاباً بعنوان علم نفس الحياة اليومية أو عندما ينتقل فرويد من الصباح إلى المساء كناية عن الاشكاليات المتعددة التي يواجهها فرويد في طرحه بهذا الكتاب. بدءاً من إشكاليات الاقتباس وانتهاءاً بالمغالطات العلمية الواضحة ومن الأمثلة عن غياب التأصيل العلمي أن هناك كُتباً قبل فرويد قدمت تفسيرات مقنعة عن الهفوات. وأستخدم فرويد احدها لميرانجر والمنشور في عام 1895 حيث ذكر الكتاب توضيحاً استعان به فرويد في كتابه الصادر سنة 1904 وفي مقاله الأخير اقتبس فرويد نفس المقال دون ذكر المصدر. ويضاف الى ذلك التناقض بين بعض اراء فرويد وما اثبته علم النفس ففرويد مثلا يقول ان نسيان الاسماء كنوع من الهفوات في اذهاننا سببها قمع المشاعر والدوافع تحت ضغط التربية الاخلاقية كالأنانية والغيرة والعداء والتيارات الجنسية المختلفة، لكن علم النفس الحقيقي اثبت ان تذكر اسماء العلم بسرعة وبدقة يصبح صعبا بشكل متزايد عندما نكبر في السن.
وذهب كارل بوبر إلى أن التحليل في صيغته الحاضرة علمٌ زائفٌ لأنه محصَّن بطبيعته من التكذيب، ونقد بوبر للتحليل النفسي هو نقد منطقي بالأساس، وينصب على «الصورة» أو «الصغية» المنطقية للنظرية باعتبارها " غير قابلة للتكذيب من حيث المبدأ " يقول بوبر في «منطق الكشف العلمي»: «إن النسق الذي ينتمي إلى العلم التجريبي ينبغي أن يكون في إمكان التجربة أن تكذبه، وهكذا، فعبارة «قد تمطر السماء هنا غدًا أو لا تمطر» لن تُعتبر عبارة تجريبية، لسبب بسيط وهو أنها لا يمكن تفنيدها، على العكس من عبارة «ستمطر السماء هنا غدًا» التي ستؤخذ على أنها عبارة تجريبية.» أمَّا العلم الزائف فهو يرفض من حيث المبدأ السماح بإجراء عملية التكذيب على قضاياه، فقضايا التحليل النفسي مثلًا لا تعدو أن تفسر الأوضاع الممكنة للأشياء دون أن تشير إلى حالة الأشياء الملاحَظة، ومن ثُمَّ لا يمكن تكذيبها بالملاحظة. إن النسق النظري للتحليل النفسي كله نسق لا وصفي، فهو يتساوق مع كل ملاحظة ممكنة، ويلائم الشيءَ ونقيضَه، ولا يُقدِّم لنا ما عسى أن تكون عليه الأشياءُ الملاحَظة لو أن قضاياه كانت كاذبة.
ويأخذ البعض على فرويد أنه كان يتجنَّب أية معالجة كمية لمواده التجريبية، وأنه لم يصل إلى نتائجه بواسطة استدلال منطقي واضح، ففي كتابه «الحدوس الافتراضية والتفنيدات» يروي بوبر قصته مع الملاحظات الإكلينيكية، ولا ننسَ أنه كان مساعدًا لأدلر في عيادته وأنه مُلِمٌّ إلمامًا حقيقيًّا بهذه النظريات. يقول بوبر:" كان المحللون الفرويديون يؤكدون أن نظرياتهم تجد لها تحقيقًا دائمًا في «ملاحظاتهم الإكلينيكية». أمَّا عن أدلر فقد كان لي معه موقفٌ شخصي لا أنساه، فقد حدث ذات يوم في عام 1919م أن أدليتُ له عن حالةٍ لم تَبدُ لي أدلريةَ الطابع. غير أنه لم يجد أدنى صعوبة في تحليلها في ضوء نظريته عن مشاعر الدونية Inferiority Feelings، رغم أنه حتى لم يَرَ الطفل. فسألته وقد نالني دَهشٌ: «فيم كلُّ هذه الثقة وأنت لم تر الطفل؟» فأجاب: «لأن لي بذلك الأمر ألف تجربة». هنالك لم أتمالك نفسي قائلًا: «وبهذه الحالة الجديدة أرى أن تجاربك صارت ألفًا وواحدة!» ولما سُئل نعوم تشومسكي عن ما إذا كان محللا نفسيا أجاب: "أعتقد أن التحليل النفسي لا يستند على اي اساس علمي اذا كنا غير قادرين على تحديد لماذا استدار صرصور ما نحو اليسار, إذن كيف لنا أن نشرح قرار انسان ما اتخذه؟"
ومن الأدلة التي تستخدم ضد فكرة اللاشعور ومنهج التحليل النفسي ان يفتقر الى الاجماع ونتائجه غير قابلة للتكرار بل وتحمل الفكرة ونقيضها والمبالغات التي حفل بها التحليل النفسي مع مؤسسه الرائد قد أدت إلى الشك في الطبيعة العلمية لفرضية اللاشعور بل أن تلاميذ المدرسة كانوا أول من عارضوا بعض النتائج التي توصل اليها فرويد والتيكانت في نظره حقائق لا تقبل الشك ، فمثلا ادلر رأى أن اللاشعور ليس مرده إلى الليبيدو، بل هو راجع إلى الشعور بالقصور، فالمصاب بقصور عضوي يسعى إلى تعويض هذا القصور، وكل ما فسره فرويد بالكبت فسره آدلر بعقدة القصور أما كارل يونع فقد عارض هو الآخر استاذه ورأى أن النظرية الجنسية كما وضعها فرويد غير كافية لأنها لا تتناول إلا جانبا واحد من المشكلة، فيسعي أن تضاف إليها الحاجة إلى السيطرة. وبذلك فقد وضع نظرية في اللاشعور الجمعي ومن الذين رفضوا فكرة اللاشعور الفرويدي الطبيب النمساوي ستيكال، الذي قال: " لا أومن باللاشعور، لقد أمنت به في مرحلتي الأولى لكن بعد تجاربي التي دامت ثلاثين سنة وجدت أن كل الأفكار المكبوتة، إنما هي تحت شعورية، وأن المرضى يخافون دائما من رؤية الحقيقة".
ثانيا: منهج التحليل النفسي منهج عيادي واللاشعور حقيقة علمية
في الجهة المقابلة وعلى النقيض انصار منهج التحليل النفسي يؤكدون أنه يحب النظر اليه كمنهج عيادي: حيث يعتبر في نظرهم التحليل النفسي نظرية علمية حول النفس البشرية وممارسة علاجية في الوقت نفسه. وقد أسسه سيغموند فروید بین عامي 1885 و1939، وكتب قائلا: من الممكن للتحليل النفسي دراسة الظواهر المرضية وإن يجد لها تفسيراً في اطار العلم " ومن حجج انصار هذا الطرح انه يمكن تطبيق منهج التحليل النفسي في أربعة مجالات رئيسية أولا: باعتباره نظرية حول طريقة عمل النفس، وثانيا: مساهمته الفعالة في علاج المشاكل النفسية وثالثا: بوصفه منهجا للبحث ورابعا: باعتباره طريقة للنظر في الظواهر الثقافية والاجتماعية مثل الأدب الفن الأفلام، العروض الفنية السياسة الخ .
ومما لا شك فيه أن التحليل النفسي كشف عن فعاليته وجدواه في علاج بعض الاضطرابات العصبية، كما كشف عن مدى تأثير تجارب الطفولة المبكرة في سلوكات الراشدين حيث يعجز الطفل في الغالب في هذه المرحلة على مواجهة المشكلات المستجدة فتراه يلجأ الى الية دفاعية هي الكبت وقد استخدم ويليام وردزورث التعبير، "الطفل هو أب الرجل" في قصيدته الشهيرة عام 1802، "قلبي يقفز للأعلى"، والمعروفة أيضًا باسم "قوس قزح" وهذه المقولة استخدمها لا حقا فرويد .
واليوم اصبحت الدراسات والنتائج التي استخلصها التحليل النفسي لقضايا اللاشعور تثير الكثير من الجوانب في سلوك المجرمين والمنحرفين والمجانين والفاشلين، وقد عززت هذه الدراسات الجانب الإنساني فاصبح عدد من المنحرفين يدخلون المستشفيات بعد أن كان يلقى بهم قديما في غياهب السجون، أو يضلون عرضة للسخرية والامتهان، وقد استند فرويد Sigmund Freud صاحب مقولة:" فرضية اللاشعور لازمة ومشروعة " الى منهج علمي في تبرير اطروحته وقدم حججا وبراهينا متعددة الاشكال منها تلك الأفكار التي لا نعرف مصدرها كالحب والكره من اول نظرة او تفضيل لون عن لون اخر او اتخاذ قرارات ثم التراجع عنها وكذلك (زلات القلم فلتات اللسان،إضاعة الشيء،النسيان المؤقت، وكذلك مدلول الأحلام،النكت .....) مؤكدا أنه لا يمكن فهم كل منها بدون التسليم بفكرة اللاشعور حيث كشفت التجارب العلمية القائمة على التنويم المغناطيسي والتي اشتهر بها الطبيب شاركو Jean-Martin Charcot الذي التقى به فرويد Sigmund Freud سنة 1885 ان هناك جانب خفي لا شعوري يؤثر في أفعال الانسان وخاصة السلوكيات المرضية كما هو واضح في مرض الهستيريا التي تنطوي على أعراض كثيرة منها (فقد البصر، السمع، أوجاع المفاصل والظهر القرحة المعدية...).
وقد تفطن جوزيف بروير Joseph Breuer الى ان سبب الهستيريا هو الدوافع اللاشعورية وقد اشترك مع فرويد Sigmund Freud في علاج المريضة (آنا أو) واسمها الحقيقي بيرثا بابنهايم كانت تعاني من حالات اغماء وشلل وعيف للطعام وهي اعراض عصابية يقول بروير Joseph Breuer: "كلما وجدنا أنفسنا أمام أحد الأعراض العصابية وجب علينا أن نستنتج لدى المريض بعض النشاطات اللاشعورية ". وقسم فرويد الجهاز النفسي الى ثلاثة اقسام (الانا،الهو،الانا الأعلى) وقال:" يستمد الآنا طاقته من الهو، وقيوده من الآنا الآعلى وعقباته من العالم الخارجي انه يخدم ثلاثة سادة طغاة " واكد ان الليبدو يلعب دورا محوريا في الحياة النفسية لذلك كتب بول روزن:"فرويد لم يكن جنسياً وانما درس الجنس كي يبرز لنا صغر العقل البشري"
لقد اشتغل فرويد مع المرضى الذين يعانون من الهستيريا، وأدرك أن الأعراض التي كانوا يعانون منها تجسد معنى خفيا وواضحا في الوقت نفسه. واكتشف مع الوقت أن جميع الأعراض العصية كانت تحمل محتويات نفسية مكبوتة وبالتالي لاشعورية. ودفعه ذلك إلى تطوير "العلاج بالكلام"، الذي أحدث ثورة في التفاعل بين المريض والمعالج. فقد كان فرويد يقابل مرضاه ستة أيام في الأسبوع، وكان يصغي اليهم ويتفاعل مع كلامهم بينما كانوا مستلقين على أريكة. وشجعهم على التعبير عن كل ما يفكرون فيه، وبالتالي كان الترابط الكلامي يوصلهم إلى تجارب الطفولة المكبوتة لديهم، فضلا عن الرغبات التي أدت إلى صراعات لاشعورية، حيث أصبح هذا الأسلوب أداة فعالة للعلاج ولدراسة النفس البشرية، مما أدى إلى تطوير نظرية ثورية في التحليل النفسي حول طريقة عمل النفس.
ومع ذلك يمكن القول مع بعض المنتقدين ان أفكار فرويد وتلامذته بدورها لا تعكس الحقيقة الكاملة، ولا تمتلك الصدق المطلق، ونرد أن المبالغة في التأكيد على تأثير اللاشعور يتنافى مع التسلم بمبدأ الحرية والمسؤولية، لذلك قال أحد المفكرين: (سيكولوجية اللاشعور تمثل الإنسان العاطل)، وكان يقصد تهرب الإنسان من مواجهة مشكلاته، ونرد على فرويد أن المبالغة في الحديث عن الليبدو معناه إنزال الإنسان إلى مرتبة الحيوان . تقول سيمون دى بوفوار: ان التحليل النفسي، والمحللين النفسيين، جعلونا نمتلئ بالنفور من أساليبهم الرمزية، واصطلاحاتهم الفكرية، التي تتناول الجنس
وكتخريج عام يمكن العودة الى كتاب "فرويد وأتباعه" لـ بول روزون حيث نجد هذه العبارة:":"فرويد لم يكن جنسياً وانما درس الجنس كي يبرز لنا صغر العقل البشري" وبعيداً عن الهوامش والأساطير المؤسِّسة التي حِيكت حول شخصية فرويد، فإن بول روزن استطاع فى مؤلفه أن يكشف الأوجه المختلفة والمتناقضة ربَّما لشخصية واحدة: فرويد المغامر والجريء، والثورى فى علم النفس، ورجل العلم الحذر والمطوِّر أسلوبه، والفيلسوف الاجتماعي، والمعلم والمعالج المجتهد، والبورجوازى النبيل المثقل كاهله بكثرة أعباء حياته اليومية، والمحاور البارع، والعقلانى واللاعقلانى فى آن معًا.
كما يمكن العودة الى كارل بوبر الذي اكد ان النقد الموجه للتحليل النفسي لا يعني أن فرويد وأدلر غير مُصيبين في بعض الأمور، وأنا شخصيًّا لا أشك في أن كثيرًا مما قاله الاثنان هو ذو أهمية كبيرة، وأنه قد يُسهم ذاتَ يومٍ إسهامًا كبيرًا في تأسيس علم سيكولوجي يكون قابلًا للاختبار … وقد كنت على إدراك بأن مثل هذه الأساطير يمكن تطويرها فتُصبح قابلة للاختبار، وأن كل النظريات العلمية أو جُلها، من الوجهة التاريخية، قد نشأت من أساطير. ورب أسطورة قد اشتملت في داخلها على استباقات هامة لنظريات علمية.
***
علي عمرون – تخصص فلسفة