قضايا
علي الخطيب: حين يرى الطفل العالم بطريقته.. قراءة فلسفية في المنطق الحيوي
يميل كثير من الآباء إلى الاعتقاد بأن تفكير الطفل يحتاج دائمًا إلى تصحيح، وكأن الطفل يرى العالم بطريقة غير صحيحة أو مشوشة. غير أن هذا الحكم المسبق – في تقديري – يغفل طبيعة خاصة في تفكير الطفل يمكن تسميتها بـ المنطق الحيوي؛ وهو منطق لا يقوم على القواعد والتعريفات الجاهزة، بل ينطلق من التجربة المباشرة والإحساس اليومي، أي من الحياة كما تُعاش قبل أن تُشرح.
فالطفل لا يفتقر إلى الفهم، بل يمتلك طريقة خاصة في تفسير ما يحيط به، طريقة لا تفصل بين ما يُرى وما يُحسّ، ولا بين الفكرة والتجربة. إنه يفهم العالم من داخل علاقته به، لا من خارجه، ويكوّن معناه انطلاقًا مما يعيشه فعليًا، لا مما يُطلب منه أن يحفظه أو يكرره.
ومن هنا، يبدو لي أن المنطق الحيوي لا يسأل أولًا: "هل هذا صحيح"، بل يسأل: "كيف أعيش هذا؟" و"كيف يظهر لي العالم؟". فالطفل لا يتعامل مع الواقع بوصفه مجموعة قوانين، بل بوصفه مجالًا للتجربة والمعنى، حيث تتداخل الرؤية مع الشعور، والمعرفة مع الحياة اليومية.
ويتضح هذا النمط من التفكير بجلاء حين يقول طفل في طريق العودة إلى البيت إن القمر "بيمشي جنبنا". هنا لا يكون الطفل بصدد تقديم تفسير علمي خاطئ، كما قد نظن، بل يعبّر عمّا يراه ويعيشه فعليًا. فالقمر حاضر أمامه أينما تحرك، وهو يحاول أن يمنح هذه الخبرة اسمًا ومعنى. ومن هنا يمكن القول إن الطفل يبدأ فهمه من الحياة كما تظهر له، لا من القوانين كما تُدرَّس له لاحقًا.
ومن هذا المثال البسيط، يمكن الانتقال إلى مواقف أكثر قربًا من الحياة اليومية داخل البيت. فعندما يرفض طفل النوم لأن غرفته "مش أمان" في الظلام، لا يكون ذلك جهلًا بحقيقة المكان، بل تعبيرًا عن تجربة شعورية حقيقية. فالطفل في هذه اللحظة لا يسأل: هل هذا منطقي؟ بل يعيش إحساسًا كاملًا بالخوف يحتاج إلى من يعترف به أولًا. ولهذا يبدو لي أن الإصغاء والطمأنة هنا ليسا ترفًا تربويًا، بل شرطًا رئيسًا للفهم.
ومن البيت ننتقل طبيعيًا إلى الفصل الدراسي، حيث تظهر الصورة نفسها ولكن في سياق مختلف. فقد يسأل المعلم تلاميذه عن سبب نزول المطر، فيجيب أحدهم: "علشان الزرع يشرب". هذه الإجابة لا تقدّم تفسيرًا علميًا مكتملًا، لكنها تكشف عن ربط ذكي بين الظاهرة الطبيعية والحياة اليومية. فالطفل هنا لا يبحث عن قانون علمي، بل عن معنى يمكنه فهمه والارتباط به. وعندما تُقصى هذه الإجابة سريعًا، نفقد فرصة تربوية ثمينة لتحويل هذا المعنى البسيط إلى فهم أكثر تنظيمًا.
وهنا يبدأ في الظهور نمط آخر من التفكير، هو ما يمكن تسميته بـ المنطق الصوري؛ وهو التفكير الذي يعتمد على القواعد، والتعريفات، والترتيب المنهجي للأفكار. وهذا النوع من التفكير ضروري بلا شك، لكنه – كما أرى – لا يكون مناسبًا دائمًا في البدايات. فالمشكلة لا تكمن في المنطق الصوري ذاته، بل في فرضه مبكرًا، وكأنه الطريق الوحيد والمشروع للفهم.
ويظهر الفرق بين المنطق الحيوي والمنطق الصوري بوضوح في اللعب. فعندما يتفق الأطفال على أن خطًا مرسومًا على الأرض هو "نهر"، وأن القفز فوقه شرط للنجاة، فإنهم لا يعبثون، بل ينشئون عالمًا له قواعده المؤقتة. والقاعدة هنا لا تُفرض من الخارج، بل تنبثق أثناء الفعل، وتتبدّل بتغيّر الأفق. وإذا أخطأ أحدهم وسقط داخل "النهر"، لا يُعاقَب، بل يحاول مرة أخرى. وفي هذا المشهد البسيط، يتحول الخطأ إلى جزء طبيعي من التعلم، لا إلى علامة على الفشل.
غير أن الإشكالية تبدأ حين نطالب الطفل بالتخلي مبكرًا عن هذا المنطق الحيوي القائم على التجربة والمعنى، ونطالبه بأن يفكّر فقط وفق القواعد الجاهزة. ويمكن أن يحدث هذا في البيت حين نُسكت الطفل بدل أن نستمع إلى تفسيره، ويحدث في الفصل حين نهتم بالإجابة الصحيحة أكثر من اهتمامنا بالطريق الذي سار فيه الطفل ليصل إليها. ومع التكرار، يتعلّم الطفل درسًا غير معلن: أن التفكير الشخصي غير مرغوب فيه، وأن الأمان يكمن في تكرار ما يقوله الكبار.
ومن هنا يمكن القول إن التربية الأكثر وعيًا هي تلك التي تبدأ من فهم طريقة الطفل في التفكير قبل السعي إلى تعديلها. فبدل التصحيح السريع، يمكن للبيت أن يتحول إلى مساحة للإصغاء، يُسمح فيها للطفل بأن يشرح كيف يرى العالم. وبدل الاكتفاء بالحكم على الإجابة في الفصل، يمكن للمعلم أن يمنح الطفل فرصة لشرح تفكيره، لأن هذا الشرح هو الخطوة الأولى نحو التعلم الحقيقي.
كما يبدو لي من الضروري إعادة النظر في مكانة اللعب داخل التربية، لا بوصفه وقتًا زائدًا، بل باعتباره مساحة طبيعية لبناء التفكير. ففي اللعب يتعلم الطفل المحاولة، والخطأ، وإعادة الفهم، وهي مهارات لا تقل أهمية عن حفظ المعلومات. وكلما شعر الطفل أن الخطأ مقبول، ازدادت جرأته على التفكير والسؤال.
وفي ضوء ذلك، يمكن القول إن تعليم القواعد والتعريفات ينبغي أن يأتي في وقته المناسب، بعد أن يكون الطفل قد عاش التجربة وفهم معناها. فالتدرّج في التعليم ليس مسألة تنظيم منهج فقط، بل هو احترام لطبيعة العقل في نموه. وعندما نرافق الطفل من المنطق الحيوي القائم على الحياة إلى المنطق الصوري القائم على التنظيم، نساعده على بناء تفكير متوازن.
وفي النهاية، يمكن التأكيد على أن الطفل لا يفكّر بطريقة خاطئة، بل بطريقة تناسب مرحلته وعلاقته بالعالم. وإذا احترمنا هذه الطريقة، ومنحناها الوقت والمساحة لتتطور، فإننا لا نعلّم الطفل الإجابات فحسب، بل نعلّمه كيف يفكّر، وكيف يرى العالم بوصفه مجالًا للفهم، لا مجرد ساحة للاختبار.
***
أ. د. علي الخطيب
أستاذ ورئيس مجلس قسم الفلسفة – كلية الآداب- جامعة المنيا- مصر






