قضايا

نور خالد علي: مجتمعات بلا زمن هي مجتمعات لا تعي معنى وجودها

الزمن ليس مجرد مقياس لحركة العقارب أو مرور الساعات؛ بل هو عنصر فاعل في تشكيل الحياة، يعكس أبعادًا اجتماعية وثقافية تختلف في إدراكها من مجتمع لآخر. فهو يملك القوة التي تدفع المجتمعات نحو التقدم أو التراجع، حسب كيفية توظيفه وفهمه وأدواته الخاصة التي يفرضها علينا.

إن البعد الاجتماعي والثقافي للزمن هو بعد نسبي، فثمة مجتمعات تُعنى بتفاصيله وتمنحه قيمة في كل نشاط، وأخرى تفتقر إلى أدوات التعامل معه. ومن هنا، يمكننا أن نطلق على هذا التعقيد في مفهوم الزمن اسم "ترسانة الزمن"، إذ إنها تحمل في داخلها مفاهيم غير واضحة تتطلب مجهودًا لفهمها وتفكيكها. بمعنى آخر، الزمن هو قوة وذخيرة من الأدوات التي تشكل وعينا بذواتنا وثقافتنا، فهو ليس مجرد مرور لحظات، بل هو معرفة متجددة تحتاج إلى فهم مستمر، ومحاكاة دقيقة لطبيعة وجودنا، يؤثر في حياتنا ويعيد تشكيل وعينا بها. وتختلف مفاهيم الزمن باختلاف الفترات التاريخية؛ فالمفاهيم الزمنية التي صلحت في الماضي لم تعد تصلح بالضرورة في الحاضر، إذ إن الثقافات تتغير، يواكبها تغير في إدراك الزمن، وفي أنماط التفكير والسلوك الفردي.

في نهاية المطاف، المجتمع هو الذي ينتج تصوره الخاص للزمن، ويمنحه قدسية لا تسمح بانتهاكه، ويُنظر إلى احترام الزمن كمؤشر على وعي حضاري. فالمؤسسات التي تُقدّر قيمة الزمن تحقق إنتاجية واضحة ضمن أطر زمنية محددة، وتدرك أن الزمن وسيلة لضبط النفس أولًا وتنظيم الحياة ثانيًا. لكن في المقابل، تواجه مجتمعاتنا تحديًا حقيقيًا في تعاملها مع الزمن، حيث تغلب النزعة إلى العودة للماضي والغوص فيه، مما يُضعف الحاضر ويؤخر التقدم. ونلاحظ بوضوح في ثقافتنا افتتانًا بالماضي تحت مسمى "الزمن الجميل"، في الوقت الذي لا ننجز فيه حاضرًا يستحق أن يُصنَّف كزمن جميل لاحقًا.

ثقافة "النوستالجيا" (الحنين إلى الماضي) هي سمة بارزة في مجتمعاتنا. وغالبًا ما تعكس هذه الثقافة غياب القدرة على التعامل مع الحاضر، وافتقارًا لتصور مستقبلي واضح. فنحن لا نستطيع غالبًا أن نقسّم وقتنا بوضوح بين العمل، والنوم، والغذاء، والراحة، بل نعيش حياة يومية رتيبة، تتكرر فيها الطقوس لنمنح لحياتنا معنى مؤقتًا. وتتجلى في سردياتنا الاجتماعية والثقافية قيمة "الانتظار والتأجيل"، فالحياة اليومية مليئة بمشاهد الانتظار: انتظار الوظيفة، والاستقرار، والمستقبل الأفضل، وما إلى ذلك. كما أن للموروث الديني دورًا في تشكيل إدراكنا الزمني، حيث يرتبط الزمن بالقدر والمشيئة، مما يعزز ثقافة الترقب بدلاً من ثقافة الإنجاز.

وفي جانب آخر، يظهر الخوف من المستقبل بوصفه قلقًا جماعيًا. ويتسلل هذا الخوف حتى إلى لغتنا اليومية، فنقول أثناء المزاح "ضحكة خير إن شاء الله"، في دلالة على اللايقين بما سيأتي. وهذه المفارقة تعبّر عن تعاملنا مع الزمن، مما يولّد نوعًا من العبثية في إدراكنا له.

جاءت التكنولوجيا فأحدثت قطيعة مع إدراك الزمن التقليدي، لتقودنا في زمن السرعة المتسارع، حيث تصبح معلومة اليوم من الماضي في الغد، إذا لم نتمكن من استثمارها وتوظيفها. فالعالم يسير اليوم في خط مستقيم متقدم، لا يلتفت إلى الوراء، بل يسعى إلى الإنجاز في زمن السرعة. ولهذا، يتغير الناس وتُختصر الأيام، ويغدو اليوم ماضٍ لا قيمة له إن لم يُثمر شيئًا. تسحب وسائل التواصل الاجتماعي منّا الزمن بطريقة خفية وبصمتٍ ودهاء، فتستهلك ساعات من يومنا دون أن نشعر، وتحوّل الزمن إلى متعة وقتية سطحية سرعان ما تتلاشى، مما يرسّخ شعور الهدر الزمني. وفي النهاية، نُدرك أن الزمن قد انقضى دون جدوى، وكأننا نستهلك رصيد عمرنا دون أن نحقق أي إنجاز يُذكر. لقد أصبح العبث بالزمن سمة متغلغلة في تفكيرنا وفي تفاصيل حياتنا اليومية. غير أن الزمن، في حقيقته، ليس مجرد وسيلة لتنظيم المهام، بل هو حامل لدلالات وجودية عميقة، تتوقف عليها معاني الحياة كافة.

في السياق العراقي، تركت الحروب والنزاعات آثارًا عميقة على إدراك الزمن، وخلقت فجوة بين الماضي والحاضر، مما أدى إلى نوع من القطيعة الزمنية. وهذه الأزمة تحتاج إلى مؤسسات تمتلك القدرة على إعادة تنظيم الإيقاع التنموي للزمن، فضعف المؤسسات يُفقد الفرد ثقته بالزمن وجدوى انتظاره. ويكفي أن يُطلب من المواطن "إنجاز معاملة" ليكتشف كم من الوقت سيُهدر. المنظومة الثقافية إذًا، هي التي تحدد كيف يُدرك الزمن، وتوجّه سلوك الأفراد في الحياة اليومية، بحسب اللغة المتداولة والقيم الاجتماعية المرتبطة بالوقت. نحن لا نمتلك بعدُ "ثقافة الزمن"، بل نعيش وفق "قدرية الزمن" المتوارثة في مجتمعات الأزمات والحروب والمعاناة.

ينبغي علينا أن نعيد النظر إلى الزمن بوصفه عنصرًا ميكانيكيًا في بناء الحياة، فهو يستقر في جوف المعنى، ويُشكل وعينا بأنفسنا. إذ لا يمكن للإنسان أن يصوغ معنى لوجوده من دون إطار زمني. فالأفراد يروون قصصهم داخل الزمن، ويمنحون أحداثهم معناها من خلال ترتيبها الزمني. الزمن هو الذي يصنع الوجود، وحين يفقد معناه يصبح مجرد عبور بلا غاية، فتتحول الحياة إلى نمط بلا وعي، وهو مؤشر على أزمة وجودية عميقة. في المجتمعات المضطربة، يتحول الزمن إلى دائرة من الانتظار والتكرار والجمود، ويغيب الأمل، فتُقدّس لحظات الماضي على حساب الحاضر والمستقبل.

وتعزيز إدراكنا للزمن يمر عبر إعطائه قيمة حقيقية في تفاصيل حياتنا. بمعنى آخر، يشعر الإنسان أحيانًا بأن الزمن يمر دون أن يستخدمه بشكل فعّال، فيغدو عبئًا وجوديًا أو فراغًا لا معنى له، مما يسبب إحساسًا بالضياع أو الفراغ الوجودي. وحين نبدأ بالتفكير بالمستقبل كأفق للأمل لا الخوف، ونتعامل مع الزمن بوصفه وسيلة لتحقيق الأهداف لا لتأجيلها، ونتجاوز تقديس الماضي إلى مراجعته نقديًا، عندها فقط نستعيد إنسانيتنا ونؤسس لوجود إنساني فاعل.

لذلك، في واقعنا الحالي، نعيش حالة من الاضطراب في إدراك الزمن، حيث يؤدي هذا الإدراك المشوش إلى شعور بعبثية الوقت؛ فالزمن يمر دون أن نحقّق إنجازات أو نمنح حياتنا معنى حقيقيًا. وتتفاقم هذه المشكلة بسبب عوامل عدة، منها ضعف المؤسسات، وتأثير الحروب والنزاعات، بالإضافة إلى ضعف الثقافة الزمنية التي تجعلنا نعيش في قدرية موروثة بلا سيطرة فعلية. يمكن مواجهة عبثية الزمن وإعادة تنظيمه من خلال التركيز على الفعالية، والإنتاجية، والتخطيط، وإعادة المعنى للحياة وتنظيمها وفق أهداف واضحة، عبر المشاركة الاجتماعية، وتنشيط الفنون والأعمال، وبعث الحيوية في الأفعال اليومية.

ولذلك، يتطلب الأمر من المؤسسات التربوية والتعليمية أن تضع مفهوم الوقت ضمن منظومتها القيمية، فتُعلّم الأجيال أن الزمن ليس شيئًا يُهدر، بل قيمة أساسية تُبنى عليها الحياة. فالزمن يصنع وجودنا ووعينا، والمعنى هو ما يمنح هذا الوجود بُعده الإنساني ويجعلنا ندرك أنفسنا داخل الزمن لا خارجه.

***

د. نور خالد علي/ باحثة وأكاديمية

في المثقف اليوم