قضايا

صائب المختار: لماذا تخلّفنا؟

سؤال يتساءله كل فرد من افراد المجتمع العربي، ويمكن الجزم بأن الجميع مقتنعين بصحة هذا القول وحقيقة هذا الواقع المرير، بل ومنهم من يجاهد جهاداً مستميتاً لإثبات صحته. وقَبل هذا السؤال يحق لنا أن نتساءل هل نحن فعلاً متخلّفين؟ وهو تسائل مشروع لتوصيف حالنا ولمعرفة الأسباب لهذا الواقع.

ما هو المقصود بالتخلّف، وما هو مفهوم التخلّف؟ لغوياً، التخلّف يعني التأخر، كأن يقال " تخلّف دراسياً " بمعنى تأخر عن أقرانه في الدراسة، أو يقال " متخلّف عقلياً " بمعنى درجة ذكائه أقل مما هو متعارف عليه. وقد تعني كلمة التخلّف عدم حدوث الفعل، مثل قولنا " تخلّف عن الحضور " بمعنى لم يحضر. من هذا يمكن القول، إن مقولة " العرب متخلّفين " قد تكون منقوصة المعنى. فما هو نوع التخلّف المقصود هنا؟ هل هو تأخر أم انعدام كُلّي، وهل هو تخلّف ثقافي، أم تخلّف حضاري، أم علمي أو عسكري أو أخلاقي أو أو أو. وقد يتفق الجميع أن التخلّف العربي يشمل كل هذه المفاصل بدون استثناء.

وإذا كان الحال كذلك، فلنناقش جزئية التخلّف الثقافي. هل نُعتبر متخلّفين ثقافياً وفي مجتمعنا من هم فعلاً يوصفون بالمثقفين الكبار، أمثال رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده، مروراً بطه حسين وسلامة موسى، وجورج طرابيشي ومحمد عابد الجابري، وكثيرون غيرهم ممن اثبتوا جدارة في مجال الثقافة. ومثال حيّ آخر من المثقفين الذين يعيشون بيننا الآن ويتعطشون لقراءة ومناقشة الآراء المطروحة حالياً، مثلاً، في صحيفة المثقف وكل المشاركون في الصحيفة، أو ممن يُجْرون المناظرات الثقافية أو يقرأون الكتب وغيرها من النشاطات الثقافية الحالية. أليست هذه كلها ثقافة يمتهنها المثقفون العرب في الزمن الحديث، فلماذا ننتقصها أو نتغافل عنها. قد يقول البعض إن هذا صحيح ولكن المجتمع الأوروبي سبقنا بمسافة شاسعة. ويكون الرد، إن الهدف ليس هو التنافس مع الثقافة الأوروبية، بل هو تطوير الثقافة والمثقفين في مجتمعاتنا، ويتأتى من ذلك من الاعتراف بوجود نهضة ثقافية في مجتمعنا حتى لو كانت ضعيفة أو غير ناضجة، نسعى لتحسينها وتطويرها، حالنا في ذلك حال المجتمعات الأخرى في العالم التي تَسعى لتطوير مجتمعها دون الحاجة لنظرة دونية كونها أقل ثقافياً من الأوروبيين. وبنظرة تاريخية بسيطة يتوضَّح لنا أن النهضة الثقافية العربية بدأت في النصف الأول من القرن التاسع عشر، واستمرت خلال تاريخنا المعاصر، ولو بصورة متعثرة. وللمقارنة، فإن النهضة الأوروبية، لمن يَقتدي بها، بدأت في القرن الثاني عشر ونضجت في القرن التاسع عشر، أي بعد ستة قرون من المثابرة والجهاد المُضّني للمثقفين الأوروبيين.

وبنفس المنطق يمكن مناقشة مفهوم التخلّف الحضاري ولماذا نُعتبَر متخلّفين حضارياً. لو نظرنا إلى مجتمعاتنا الحالية لوجدنا الدراسة الجامعية منتشرة في كل الدول العربي وكذلك الدراسات العليا ومختلف التخصصات الدقيقة، ومعترف بها على المستوى الدولي. والكثير من هؤلاء الاختصاصيون الذين هاجروا إلى أوروبا اثبتوا جدارة فائقة في مجال اختصاصهم، مما يوحي أن العيب ليس فيهم ولا في النهضة ولا الثقافة، وإنما هو بسبب فشل الأنظمة الحاكمة والإدارية التي لم تتمكن من توفير البيئة الحاضنة لهم.

يقول طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر؛ مَدّت أوروبا سكك الحديد وأسلاك التلغراف والتلفون، فمددناها. وجلست اوروبا إلى الموائد واتخذت أواني الطعام وادواته فصَنعَنا صنيعها. ثم تجاوزنا إلى ما اصطنع الأوروبيون لأنفسهم من لباس. وحياتنا المعنوية على اختلاف مظاهرها والوانها أوروبية. نظام الحكم عندنا أوروبي خالص، نقلناه عن الأوروبيين. مجلس الوزراء ونظارات الحكومة ووزارتها، أوروبي المصدر والجوهر والشكل، لم يعرف منه المسلمون شيئاً في القرون الوسطى وقبل هذا العصر الحديث. قد يكون من النافع والظريف أيضاً أن يُقارَن بين محاكمنا الشرعية الآن بعد أن تأثرت بالإصلاح الحديث وبين محاكمنا قبل ذلك، من النظام القضائي الإسلامي القديم. وأكبر الظن أن قضاة المسلمين القدماء لو أُنشروا في هذه الأيام، لأنكروا من نظام المحاكم الشرعية شيئاً كثيرا.

ويقول طه حسين أيضاً "وإذن فكل شيء يدل على أنه ليس هناك عقل أوروبي يمتاز من هذا العقل الذي يعيش في مصر وما جاورها من بلاد الشرق القريب، إنما هو عقل واحد تختلف عليه الظروف". فما هو نوع التخلّف والجهل الذي يشير إليه أولئك الذين يَدْعُون إلى فكرة التخلّف.

ولو قارَنّا حال المجتمع العربي الإسلامي في السنوات العشر الأولى من بداية القرن التاسع عشر (1800 – 1810م)، بحاله في العشر سنوات الأولى من القرن الحالي (2000 – 2010م)، لوجدنا تطوراً واضحاً وجلياً للعيان في حال المجتمعات العربية عن سابقها. يتمثل ذلك في تطور الحالة الاجتماعية والصحية والدراسية والقانونية وغيرها من مختلف النواح والمجالات. ففي مجال الدراسة، مثلاً، انقرض نظام التعليم الإسلامي القديم المعتمد على الكتاتيب وتحفيظ القرآن للأطفال الذين حظوا بفرصة التعلّم، واستُبدل بنظام التعليم المدرسي الأوروبي، وكثرت المدارس الابتدائية والمتوسطة والجامعية، وجُعل التعليم الزامياً وللجنسين. كما انتشرت الكتب والمؤلفات الثقافية والعلمية والصحف والمجلات ووسائل الاعلام. أليس كل هذا تغيّر نحو الاحسن (تطور)؟ قد يقول البعض نعم لكن المستوى الدراسي والثقافي العام متواضعاً ومتدنياً! والأحرى بنا، بدلاً من أن نكون مُحبَطين ومُحبِطين، أن نعمل على معالجة المعوقات لرفع المستوى بدلاً من التركيز على كشفها وشرحها، لأنها أصلاً مكشوفة ومعروفة للجميع، فما نجني من ذلك سوى الإحباط وتضيّع الوقت.

وما بالك في التطور والتحديث الصحي في المجتمعين السابق والحالي. كان الطب يمارس سابقاً من قبل الحلاقين والعطّارين ويعالج بالسحر والشعوذة، واستبدل كل هذا بالمستشفيات المتخصصة والأطباء الاختصاصيين، ووجد الصيادلة والصيدليات، واستعملت الادوية الحديثة. ألا يُسمى هذا تطوراً وتحديثاً للمجتمع ولأفراد المجتمع؟ وقس على ذلك نواحي الحياة الأخرى التي تغيّرت نحو الأحسن وأصبح حال المجتمعات العربية أفضل بكثير من حالها في السابق.

وقد يعترض البعض على مفهوم التطور والتحديث هنا، أيضاً، من منطلق المقارنة مع ما وصل إليه الغرب من تطور لا يقارن بما نحن عليه الآن. وأرى في هذا الاعتراض اجحافاً غير مقبول، لأن المقياس ليس ما وصل اليه الغرب بل هو تطور حالنا نحو الأفضل. يمكن القول إن ما وصلت إليه النهضة الأوروبية يمثل القمة أو الدرجات العليا من النهضة والتحديث، والأكيد أننا لا نسعى حالياً للوصول إلى أعلى سُلّم النهضة، بل نطمح في الصعود إلى الدرجات الوسطى من السُلًم الحضاري، لأننا حالياً في الدرجات السفلى منه.

من هذه المقارنات نتساءل عن المقصود بالتخلّف في مجتمعاتنا، هل هو تأخر ثقافي وحضاري عن المجتمعات الأخرى، أم هو انعدام الثقافة والحضارة في مجتمعاتنا؟ وإذا قبلنا أنه تأخر وليس انعدام، فهو اعتراف ضمني بأن هناك نهضة وثقافة وتحظّر في مجتمعاتنا، حتى لو كانت بمستوى متواضع أو متعثرة. يجب أن نُقرّ بها، ونسعى لتطويرها وإغنائها كنهضة حضارية، لا أن نَطعَن بها ونقلل من شأنها.

مع الأسف فإن معظم الناس والمثقفين العرب لا يعتقدون بوجود نهضة في مجتمعاتنا ولا يعترفون بها، ويحاولون التقليل من شأنها أو حتى اهمالها. يقول المثل الصيني " بدلاً من أن تلعن الظلام أشعل شمعة " وهي حكمة رائعة تعبّر عن التفاؤل وتقهر اليأس، ذلك أن لَعن الظلام لا ينير الطريق بل يطيل من أجله. وايقاد شمعة بسيطة تنير الطريق على الرغم من صغرها. فبدلاً من أن نبقى دائرين في فَلَك السلبية وكشف العيوب التي هي اصلاً مكشوفة ومعروفة، علينا أن نبحث عن أي شيء جديد، ولو كان بسيطاً جداً، ينير أفكارنا ويثيرها ويحفزها للبحث نحو الأفضل، بدل أن نبقى نندب تخلّف مجتمعاتنا الثقافي والحضاري. 

وكلمة أخيرة فإن هذا المقال هو رسالة لكل من يحاول أن يرسم صورة سوداء أو قاتمة لفكر وثقافة المجتمع العربي.

***

د. صائب المختار 

في المثقف اليوم