قضايا

بتول فاروق: المجتمع يحمي صورته لا قيمه.. السرية مقابل العلنية

تُظهر بعض ردود الأفعال الشعبية والدينية في مدن العراق كالبصرة والناصرية أخيرا تجاه الحفلات الغنائية نمطاً مُتكرّراً يستحقّ التأمل؛ أذ يتم التعامل مع الحفلات الموسيقية الغنائية بوصفها تهديدا اجتماعيا وأخلاقيا معلنا، في حين يتم تمرير ظواهر خطيرة كالرشوة والقتل العشائري والفساد واطلاق النار العشوائي بوصفها حوادث اعتيادية وشؤونا داخلية وسمة تميز هذا المجتمع.

هذا التفاوت في الحساسية الأخلاقية لا ينبغ من طبيعة الفعل بقدر ما ينبع من طبيعة ظهوره في المجال العام وبالعلن. ففي الوعي السائد، المشكلة ليست بالفعل ذاته بل في كونه مرئيا، من منطق " لاتحرجنا "

فالعلنية تضع الموسسة الدينية والعشائرية أمام اختبار سلطتها، فظهور الحفلات والاختلاط وما قد يصاحبه رقص في الفضاء العام يعني أن هناك نموذجا منافسا آخر للحياة ينافس النموذج الأخلاقي الذي يدّعون تمثيله، لذا يصبح الاعتراض ضرورة لحفظ المكانة كحماة للأخلاق.

أما ما يحصل في السر من كوارث مجتمعية، كحوادث الانتحار وقتل النساء على تهمة " الشرف " والرشوة و"اقتصاديات الأحزاب" فلايهدد صورتهم لأنهم غير مطالبين بالرد عليه علنا، ولايُظهر ضعف سلطتهم. وهنا يتم استعمال قاعدة: افعل ماتشاء لكن في السر ولاتحرجنا وتسقط الهيبة. أن السرية جزء جوهري من الأخلاق العامة، فما دام الفعل سريًا لا يُعتبر تهديدًا، حتى لو كان محرّمًا شرعًا. العلنية هي التي تُفجّر الغضب لأنها تجعل “المحرّم” يبدو طبيعيًا ومقبولًا.

أن الخطاب القبلي في مدن العراق وأريافها مازال يصنف الأفعال ضمن ثنائية: الفضيحة والشأن الداخلي الخاص.

فالفضيحة هي السلوك الذي يمس شرف الجماعة الذي يرتبط بالجسد، وبالمرأة والاختلاط.

أما الشأن الداخلي فهو من قبيل الرشوة والفساد وقتل الثأر، وأخذ الناس " ولّية" وقتل النساء لأقل تهمة فهي من قبيل ثقافة المنطقة والقبيلة، لذا يجب أن لاتُمس. فبالرغم أن هذه الجرائم اشد حرمة شرعا، الإ أنها لاتمس شرف الجماعة، ما يمس شرفها هو الحفلات المختلطة.

أنّ ما يهدد النظام أهم مما يهدد الإنسان، فهم يتحركون حين يشعرون أن نظامهم القيمي مهدد، وليس حين يكون المجتمع مهددا.

يُفهم الغناء كتهديد ثقافي للهوية المحافظة التي تقيد الجسد واللهو وتحدد الفرح بقياسات صارمة غير علنية، ولامظاهر احتفالية له الا بالحدود الدنيا. الغناء والاختلاط تُفهمان كتهديد ثقافي مباشر، لأنها تقدّم نمطا بديلًا للحياة، يقوم على الفردانية والحرية. أما الرشوة والثأر فهي لا تنتج ثقافة منافسة لانها تحدث داخل المنظومة نفسها.

أما الرشوة والقتل والثأر فهي لا تنتج ثقافة منافسة؛ بل تحدث داخل المنظومة نفسها، ولا تُطالبها بالتحول.

   فالغناء يرمز الى العاطفة، وحضور الجسد في مجتمع يعلّم الظهور بمظهر الصلادة والانضباط، أما القتل والثأر فهي سلوكيات تؤكد صورة الرجولة العشائرية ولا تتحداها.

والنتيجة أن المجتمع يحمي صورته اكثر مما يحمي قيمه.

وأن "ما يُرفض في العلن ليس لأنه خطأ، بل لأنه يعري هشاشة البنية التي تريد لنفسها أن تبدو قوية ومتماسكة." "وما يُقبل في السرّ ليس لأنه صواب، بل لأنه لا يُربك النظام الاجتماعي ولا يُسقط هيبة رموزه".

***

د. بتول فاروق

٢٤/ ١١/ ٢٠٢٥

في المثقف اليوم