قضايا

عبد الامير الركابي: الانبعاث السومري واكذوبة "محمد علي" (2)

هل يمكن تصور مدى الانحطاطية التي تجعل من فعل رجل فرد بذاته، ليقلبها من اعلى، وبلا مبررات بنيوية، حالا بعد قرون من توالي الولاة ال150 ومن دون اية اشارة الى حضور ذاتي، فضلا عن التشكل المعروف بالبرجوازي، فلا يكون بصفه الا كون البلاد التي حل فيهاكانت كريمه في مجال تاريخي وبنيوي مؤات لاغراضه، ماقد جعله ينجح ظاهرا، وهو القادم اليها من خارجها، يكرر تجربة بلاده الاصل، لولا عنصر وحيد اساس، هو الطواعية المجتمعية البنيوية للحاكم، بما يجعل الحادث المذكور مثالا ونموذجا فريدا على التشكلية البرانيه من اعلى غير المعلومه، ولا المدركة قبلا، رضوخا لاحكام زمن بعينه، وما يشيعه مفهوما قاهرا متغلبا على مستوى المعمورة، فاذا بمصر تتحول فجاة الى جزء من المنظومة الالية البرجوازية، واذا بها تنسى الانتماء العثماني لتصير توهما وافتراضا متخيلا بلا اساس، بدل ذلك جزءا من العصور الوسطى الغربية، فتنبثق لنا اليوم "ناهضة" و "عصرية" فجاة، بما لايبقي، لمن اراد ان يقف هنا وقفه ادراكية، من انتباه، سوى لقوة وطاة الانحطاطية المهيمنه على الشرق المتوسطي منذ 1258 يوم سقوط عاصمة الدورة الثانيه الامبراطورية، وصولا لتحورها الراهن بحسب تغير الظروف البرانية الطارئة .

هكذا تحل"النهضة" العربية بناء عليه بمثابة طور زائف مضاعف، هو نوع من الانحطاطية الثانيه المستمرة الى اليوم، وقد تجددت بقوة فعل العوامل البرانيه المختلفه، واثر موقع مصر وحجمها ومكانتها التاريخيه، استكمالا للانقطاع الحضاري والانحطاطي الذاتي الاول، وماقد تبعه من البرانية، الموكولة للهيمنه الشرقية المماليكية والعثمانيه، الامر الذي يررفي مثال غريب ونادر، توهما اسقاطيا حل على العقل والتصورات على مدى غير قصير، ابتداء من الافغاني ومحمد عبده، وماقبلهما الطهطاوي، ذهابا لبقية السلسلة اللاحقة المسماة بالعلمانيه والايديلوجية، وفي مقدمها القومية التي اوجدت بالمناسبة وللضرورة، سرديتها الايهاميه، مع الكذبة الثانيه الكاريكيتيريه والشريف حسين، الثائر بقوة دفع ورعاية الانكليز، من دون اية محركات ذاتيه سوى اصطراعية ردود الافعال المباشرة، الرافضة كليا والمطواعه على الظاهرة الغربية التي عادت وتبنت "الوهابية" المهزومة على قاعدة الريعيه النفطية، فجاءت بها وبقادتها القبليين/ ال سعود/ تحديدا من منفاهم في الكويت بعد اكتشاف النفط في الجزيرة العربيه، ليقيموا نظام الريع بدل العقيدة، ومن دونها، لابل بما يضادها، مع تحويل مجتمع الجزيرة بنيويا من مجتمع محارب استثنائي الاحترابيه، الى مجتمع اعزل.

لم يكن واردا ان تتحول ارض الجزيرة العربية الى محور انقلابي حداثي، وان هي ارتبطت وجودا كنظام بمنظومة الاقتصاد الغربي برانيا، وارتكزت اليه، فلم يسعفها لهذه الجهه كونها موقع انطلاق الدورة الثانيه التاريخيه ابراهيميا، ومااتصل بها مع الاسلام والفتح من مشروع كوني بلغ الصين وغرب اوربا، ذلك مع العلم ان ظاهرة نبي الاسلام قد عدت مثالا يرتكز اليه تدليلا على "الثورة القومية" العربية تمثلا بالغرب، يرد اليوم على يد احد اهم منظري القوميه العربية الشوام المتاخرين (ميشيل عفلق)، مع انها وضعت في نطاق الماضي والتاريخ لانها لايمكن ان تكون باي حال "وهابيا" اليوم، مقاربة لمشروع الغرب وانقلابه الالي، كما حال مصر التي قامت هي على يد محمد علي بهزيمتها في عقر دارها، دلالة على انتهاء مفعول الامتياز الاحترابي الجزيري التاريخي في مجتمع اللادولة الاحادي واقتصاد الغزو، ومايفرضة من مستوى احترابي فوق العادة، ماقد هيأ لعشرات من مقاتلي الجزيرة الحفاة في القرن السابع، ماقد حققوه عالميا وبمقياس زمني استثنائي، في حين تم دحرهم اليوم على يد مصر وجيشها الذي توغل في ارضهم، وهزمهم لمصلحة العثمانيين.

يبقى الاهم الاخطر في تاريخ هذا المكان عجزه الاخطر وليد تميزه، فهو موضع غير قابل لادراك ذاتيته، ومايحكم ديناميات تاريخه، لاعجزا عاديا، بل لعلو كينيونته وبنيته عن الاحاطة العقلية المتاحة للعقل البشري بحالته وحدود ادراكيته الحاليه، وكونه عقل "الانسايوان"، الوثبة المحطة بين الحيوان والانسان، حيث القصورية العقلية تلازم العقل بما هو عليه دون ادراك المنطوى الكامن في الظاهرة المجتمعية، وفي الكائن البشري اجمالا، بانتظار التراكمية التفاعلية التاريخيه والمنجز الانقلابي، على طول زمن الانتاجوية اليدوية، ذلك في الوقت الذي يتكرس فيه وعلى مدى الطور المنوه عنه، مفهوم "الكمال العقلي" فكأن الوثبة التي حصلت وقت الانتصاب واستعمال اليدين هي منتهى وغاية العقل النهائية، الامر المنوط اصلا بنوعية وممكنات الاستيعاب العقلي المشار اليها، وعلى هذا فان مانتحدث عنه لايعود مجرد مسالة تلق لمنجز الاخر الجاهز، وتماه معه من قبل مايمكن ان يكون بنيويا قريبا منه، وان شكلا وبلاديناميات اصطراعية ضرورية.

ومادام وعي الذاتية مفتقدا وغير وارد بعد، فان الانتقالية من الانحطاطية الذاتيه والعجز الى الانحطاطية الاسقاطية المتماهية مع الاخر، والمستعدة للنظر الى الذات بعينه، تكون ضمن الاشتراطات التي اوجدتها حالة النهوض الغربي بماقد صارت عليه امرا متوقعا، مايجعل من الانقلابية المفهومية العقلية شرطا لابد منه، قبل توقع حضور الذاتية وسط الغلبة المفهومية والنموذجية الغربية الكاسحه عالميا.

فهل يمكن اعتماد الاصطراعيه المفهومية محل المادية الارضوية الشائعه الغالبه، باعتبارها المحور الاساس الدائره حوله الاصطراعية الغربية مع هذا الموضع من المعمورة، يعني هذا اننا امام لحظة انقلابية كونيه مختلفه، الانقلاب الالي وبداياتها ضمنه مجرد محطة اولية، فالتوهمية المصرية ومعها الشامية الحداثوية القومية، هي ملحق وانعكاس لتوهمية اصل هي الاوربية وماقد انتجته في حينه من مفاهيم ومنظور ونموذجية، بناء على ذات مفاهيم اليدوية السابقة على الالية، من دون افتراض مايتطلبه الطور الراهن من وثبة اعقالية بشرية نوهية متعدية لتلك الاولى المحكومة للارضوية الجسدية الحاجاتيه، قبل بلوغ محطة تحرر العقل واستقلاله، على طريق انبثاقية "الانسان" محل "الانسايوان".

ويتلازم الجاري الحديث عنه مع جوهر وحقيقة الحدث الالي ومترتباته الاستثنائية، وماكامن خلفه على المستوى المجتمعي الكوني، هذا اذا تجاوزنا المفهوم الغربي على هذا الصعيد، وماقد تمكنت اوربا التي انبجست الالة بين ظهرانيها، من التوصل اليه وادراكه بما خص الانقلابيه الطورية مابعد اليدوية، وكانها مجرد انتقال روتيني شكلي تتابعي من اليدوية الى الاليه وحسب، دلالة على ترسخ القصورية العقلية الارضوية الجسدية، ومامتوقع ان يصدر عنها كميدا وكابتداء ابان حالة انقلابيه نوعية ذاهبة الى زمن آخر، ومرحله من تاريخ التصير المجتمعي البشري مختلفة نوعا كليا.

يحضر الغرب الحالي التوهمي المستمر على القول بالارضوية الجسدوية الانسايوانيه، وهو وقد واجه من توه، الانقلابية اللاارضوية العقلية كابتداء مع الالة بصيغتها الاولى المصنعية، فيعجز عن استكناه منطوياتها المستقبلية، ليحل موضوعيا بين ظهراني منطقة الشرق المتوسطي اللاارضوية الابراهيمه الاولى، موضع الانقلابيه الكونية المؤجلة، كي يخوض اصطراعا حاسما، هو من اكبر الضرورات اللازمه لانتقال الكائن البشري عقلا وواقعا، لعالم مابعد ارضوية جسدوية انتهى اجلها بعدما ظلت مستمرة قبلا، لتوافقها مع اشتراطات الطور اليدوي.

***

عبد الامير الركابي

في المثقف اليوم