قضايا

عدنان عويّدِ: أوهام السرديات الكبرى في حركة التحرر العربيّة

(إن نظاماً (فكريّاً) للطبيعة والتاريخ يشمل كل شيء، ويعين نهاية كل شيء مرة واحدة، ليتناقض بالضرورة مع القوانين الأساسيّة للفكر الديالكتيكي (الجدلي)، ولكن هذا لا يمنع أبداً، بل بالعكس يفرض أن تخطو المعرفة المنظمة لمجموع العالم الخارجي من جيل إلى جيل خطوات جبارة)... أنجلز

قليلة هي المنعطفات التاريخيّة الهامة التي تؤدي إلى تحولات نوعيّة في الفكر والممارسة عند الذين يعملون على مجال الفكر والسياسة، ليكتشفوا فيما بعد أن الكثير من الرؤى والأفكار التي كانوا يناضلون من أجلها وقدموا لها التضحيات الجسام عبر عشرات السنين، أنها مجرد شعارات لم تحقق ما يسمح لها بالتفاعل مع  الواقع الذي طرحت فيه، الأمر الذي يدفع حملتها أو المنظرين لها إلى إعادة النظر بما طرحوه، وتبيان مواقع الصح والخطأ فيه.

أكثر من قرن ونصف من الزمن قد مرت على طرح مشروع النهضة العربيّة من قبل الكتاب والمفكرين العرب من جهة، ومن قبل القوى السياسيّة العربيّة ممثلة بأحزابها القوميّة والتقدميّة من جهة ثانية، هذا المشروع الذي مثلته كتابات هؤلاء النهضويين العرب الداعية إلى ضرورة خروج هذه الأمّة من مازق تخلفها وفواتها الحضاري، متبنيه في طروحاتها شعارات حداثويّة كانت أوربا الليبراليّة قد تبنتها، فجاءت دعواتهم تقليداً لهذه الشعارات الليبراليّة ممثلة في الحرية والعدالة والمساوة التي ناضل المجتمع الغربي من أجل تحقيقها مئات السنين ضد أعدائها من قوى الظلام والاستبداد ممثلة آنذاك بسلطات الكنيسة والنبلاء والملك.

نعم... منذ بداية الربع الأول من القرن التاسع عشر، هذه البداية التي عُرفت ببداية عصر النهضة العربيّة، وهي البدايات التي تأثر فيها العديد من الكتاب والمهتمين العرب النهضويين بأفكار الحريّة والعدالة والمساوة التي طرحتها الثورة الفرنسيّة، وما تضمنته هذه الشعارات من قضايا تتعلق بالحريّة الفرديّة وحريّة المرأة والرأي والرأي الآخر والمواطنة ودولة القانون وغير ذلك، أو ما يمكن اختزاله بقضايا النهضة والتقدم، أو الحداثة .

نقول: منذ تلك البدايات وأسئلة النهضة تُطرح من قبل الكتاب والنهضويين العرب مسلمين ومسيحيين، كالطهطاوي، والأفغاني، ومحمد عبده، والكواكبي، وفرح أنطون، وشبلي شميل، وأديب اسحق، وطه حسين، وسلامة موسى، وصولاً إلى مفكري النهضة العرب المعاصرين، أمثال الجابري، والتيزيني، وعبد الله العروي، وياسين الحافظ، وغيرهم الكثير.

ومن هذه الأسئلة: (لماذا تقدم الغرب وتخلف العرب؟. ما لحل؟. من أين نبدأ؟.... وغير ذلك من هذه  الأسئلة.

إن المتابع لمجريات الواقع العربي منذ تلك الفترة حتى اليوم، يجد أن هذه الأسئلة ذاتها بقيت في الحقيقة تجتر نفسها أو يعاد التنظير لها من قبل الكتاب والمفكرين العرب النهضويين حتى تاريخه في العديد من الكتب والمحاضرات والمقالات والندوات التي أقيمت لهذا الشأن، مسلطين ضوء النقد على الواقع لعربي بكل ما يحمله من قضايا التخلف الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي، التي حالت وتحول دون تحقيق النهضة والتقدم والسير في ركاب الأمم المتقدمة. وما سؤالنا اليوم أيضاً، (هل الإسلام هو الحل؟.) إلا أحد هذه الأسئلة التي يأتي طرحها تحت ظل هذه الظروف المأساويّة التي نعيشها بعد أن فشلت كل المشاريع النهضويّة السابقة، وهي مشاريع حركة التحرر العربيّة ممثلة في القوميّة والاشتراكيّة والليبراليّة.  ليأتي مشروع (الحاكميّة هي الحل) الذي راح "الإسلام السياسي" (الإخوان والقاعدة وفصائلها من داعش والنصرة وغيرها) يطرحها كبديل نهضوي انطلاقاً من مقولة (لن تصلح هذه الآمّة بعد أن فسد أمرها إلا بما صلح به أولها- ولا بد من العودة إلى النبع الصاقي).

إن قراءة أوليّة وسريعة للكثير من الإجابات التي قدمت كحلول لأسئلة النهضة منذ بداية القرن التاسع عشر حتى اليوم، نجد بعضها يقول بأن تحقيق القوميّة العربية هو الحل، في الوقت الذي فشلت فيه كل التجارب الوحدويّة، بينما نجد بعضها الآخر يجد الحل في تبني الاشتراكيّة، في الوقت الذي فشلت فيه أيضاً كل التجارب الاشتراكيّة، وهناك من راح يعوّل كثيراً على الأيديولوجيا الإسلاميّة، وخاصة بعد فشل المشروعين القومي والاشتراكي، بل وحتى الليبرالي الذي روج له المستعمر أثناء احتلاله للعديد من البلاد العربيّة أولاً، والقوى السياسيّة التي استلمت السلطة بعد خروجه ثانياً، هذه القوى السياسيّة التي لم تستطع أن تحقق استقلالاً فعليّاً للبلاد، حيث ظلت قوى كومبرادوريّة مرتبطة بالقوى الاستعماريّة وتعمل وفقاً لمصالحهما معاً وليس لمصالح الشعب، كونها عاجزة في الحقيقة عن تحقيق مصالح الشعب بسبب فقدان الظروف الموضوعيّة والذاتية التي تسمح لها بتحقيق ذلك، الأمر الذي أدى إلى محاصرة هذه الليبراليّة واجهاضها عبر انقلابات عسكريّة رفع قادتها شعارات نهضويّة وتقدميّة، تحولت فيما بعد هذه الشعارات إلى نظريات سياسيّة وفكريّة في قضايا النهضة العربيّة، التف حولها الجماهير لتعطيها أو تمنحها  شرعية الحركات الثوريّة أو الثورات الشعبيّة، بعد أن تحولت هذه الحركات العسكريّة إلى أحزاب سياسيّة منحت نفسها صفة (الديمقراطيّة الثوريّة)، واعتبرت نفسها قائدة لحركة التحرر العربيّة ووصيّة على تحقيق نهضة هذه الآمّة وتجاوز عوامل تخلفها.

عموماً نستطيع القول: إن كل المشاريع النهضويّة التي طرحت في الحقيقة على الساحة الفكريّة والسياسيّة العربيّة بعد فشل المشروع الليبرالي، قد انطلقت من المشاريع النهضويّة الثلاثة وهي: القومي والاشتراكي والإسلامي، بغض النظر عن طبيعة الكثير من المفردات الأساسيّة والجزئيّة التي تضمنتها هذه المشاريع الأيديولوجيّة مثل الحامل الاجتماعي لها، ودرجة التداخل الطبقي في هذه الحوامل، ودرجة حدّة تناقضه وصراعه، وكذلك درجة نضوج الظروف الموضوعيّة لتحقق هذه المشاريع، ثم البعد الأخلاقي والقيمي عموماً في بنية المجتمع العربي، وهناك أيضاً تأثير خصوصيات الواقع العربي، والعلاقة الجدليّة بين العام والخاص والداخل والخارج، يضاف إلى ذلك حالات الجهل والأمّية والتخلف البنيوي في مستويات الواقع الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، وغير ذلك من قضايا تتعلق في تحريض الفعل النهضوي أو عرقلته لكل مشروع من هذه المشاريع النهضوية الثلاثة.

نقول: إن الكثير من الكتاب والمفكرين النهضويين العرب وكذلك الأحزاب "الديمقراطيّة الثوريّة" التي تبنت هذه المشاريع النهضويّة فيما بعد، غالباً ما تناولوها من منطلق أيديولوجي، أي اتخذوا من الأيديولوجيا منطلقاً في تحليل أزمة النهضة أو طرح الحلول لتجاوزها، وذلك يعود برأيي إلى جهل معرفي (ابستمولوجي) في طبيعة هذه الأزمة والظروف الحقيقيّة الداخليّة منها والخارجيّة التي تكمن وراءها، ثم آليّة عملها، كون الأيديولوجيا في المحصلة هي مجموعة الرؤى والأفكار والقوانين والمبادئ التي تعبر عن واقع أمّة ما أو مجتمع ما أو طبقة ما في مرحلة تاريخيّة محددة، وبالتالي فهي عندما تُستخدم كعتلة نهضوية في مجتمع لم يحوز بعد على الظروف الموضوعيّة والذاتيّة التي تستطيع استلهامها أو تكون هي المنتجة لها، ستظل حكماً في حالة مفارقة للواقع، أي تظل بعيدة عن متطلبات الواقع، وهنا ستتحول إلى وسيلة نهضويّة تُستخدم قسراً لتغيير الواقع، وبيد حوامل اجتماعية قد لا تعبر عن مصالح الجماهير كونها غير حواملها الحقيقيّة، أو تجد فيها هذه الحوامل بعضاً من مصالحها الأنانيّة الضيقة، الأمر الذي سيزيد من تعقيد هذا الواقع وتعميق أزمته بدلاً من إفراجها. وهذا ما تجلى بكل وضوح في محاولات التطبيق العملي القسري (وفقاً لسرير بروكست)، أي محاولة ليّ عنق الواقع العربي من قبل هذه الحوامل كي ينسجم مع هذه الأيديولوجيات القوميّة أوالاشتراكية أو اليوم الإسلاميّة .

إذن إن التعويل على أي مشروع فكري (أيديولوجي)، متعالي على الواقع - أي لا يشكل وعياً مطابقاً للواقع -  من أجل تجاوز تخلف هذا الواقع وخلق نهضة فيه، هو غير قادر بالضرورة على تفسير هذا الواقع وتحليل أواليّة عمله (الميكانزيم)، وبالتالي هو محاولة لليّ عنق الواقع وفرض حلول لمشاكله من الأعلى، أي تغييره برؤى فكريّة ذات طابع شمولي مجردة يعتقد حملتها أن هذه الرؤى الشموليّة، الفوق تاريخيّة، هي وحدها القادرة على تقديم الوصفات الجاهزة لكل زمان ومكان دون أي مراعاة لخصوصيات الواقع وطبيعة حركته وتطوره وتبدله، أي فرض الحلول من خارج أواليّة عمله، وهذا ما سيساهم بلا شك في تعميق أزمة هذا الواقع والسرديات الكبرى المتعاملة معه معاً. وهذه المسألة المنهجيّة كان قد اشار إليها إنجلز كما بينما في بداية هذه الدراسة بقوله: (إن نظاماً (فكريّاً) للطبيعة والتاريخ يشمل كل شيء، ويعين نهاية كل شيء مرة واحدة، ليتناقض بالضرورة مع القوانين الأساسيّة للفكر الديالكتيكي (الجدلي)، ولكن هذا لا يمنع أبداً، بل بالعكس يفرض أن تخطو المعرقة المنظمة لمجموع العالم الخارجي من جيل إلى جيل خطوات جبارة). (1).

يظل السؤال المشروع يطرح نفسه علينا ما الحل أمام سقوط هذه السرديات الكبرى التي ساهم في إسقاطها أنظمة عربيّة متهالكة على السلطة بما تحققه لهم من جاه وغنيمة؟.

أقول: دولة مدنية بدستور يقره الشعب يعبر عن مصالحه بما يتضمنه من مفردات تحمي المواطن وتؤمن أمنه واستقراره ولقمة عيشه.. دستور يؤمن بالمواطنة، والتعددية السياسيّة وتداول السلطة، ومؤسسات ينظم سير عملها قوانين خاصة بكل مؤسسة، احترام للرأي والرأي الآخر وحريّة في التعبير الذي لا يتجاوز مصالح الوطن وأمنه...احترام للمرأة ومكانتها في المجتمع والدولة معا...

***

د. عدنان عويّدِ - كاتب وباحث من سوريّة

....................

الهوامش:

1-  (د. أميل توما- الحركات الاجتماعية في الإسلام0 دار الفارابي – بيروت- 1981. ).

 

في المثقف اليوم