قضايا

علي حسين: املأ وقتك بالحياة

تلقى أول صدمة في حياته، عندما لم يعرف الاجابة على سؤال استاذه " هيزيود " عن مصدر الكون. كان أبيقور في الرابعة عشرة من عمره عندما اخذ يهتم بالفلسفة، قبل ذلك كانت الخرافات والاساطير تملا رأسه، حيث كانت أمه تاخذه معها لزيارة الألهة وتقديم النذور.

الدروس التي يتلقها في النحو وعلوم الكون سببت له الضجر، فقرر ان يتابع طريق الفلسفة بمفرده، دون معونة أي استاذ. يكتب لوكريتيوس " في طبيعة الاشياء ": يامن كان بمقدوره أن يبدد الظلمات الحالكة بنور بالغ

الإبهار، فأنت أول من أماط اللثام عن نعم الحياة.

في السادسة عشر من عمره، اخذ أبيقور يبحث عن ما خلفه سقراط من احاديث، فقد استهوته فكرة سقراط عن السعادة التي كان يرى انها جديرة بأن تعاش. كانت بداية الفلسفة قبل سقراط هي إدراك لحالة الاغترب التي يعيش فيها الإنسان. اصر سقراط على أن معنى الحياة هو أن تصير بشكل متزايد سيدا على نفسك، فيما اخبرنا افلاطون أن الحكمة هي ضربٌ من الكمال يخص كل ما يتصل بكيفية عيشنا.

كانت الفترة الأولى من حياة أبيقور عبارة عن صدمات متتالية. ومع كل صدمة كان وعيه يتفتح تجاه الحياة، وسينقذه من حيرته معلمه الافلاطوني " بامفيلوس " الذي يخبره ان الفلسفة نوع من انواع العيش باطمئنان. ليكتشف فيما بعد أن الفلسفة ستكون دليله الى السعادة:" فالإنسان الذي يدعي عدم استعداده للفلسفة بعد، أو أن الوقت قد فات على هذا يشبه الإنسان الذي يقول إنه صغير جداً أو كيبرٌ جداً على السعادة " – أبيقور رسائل وحكم ترجمة جلال الدين سعيد -

عندما صار أبيقور - ولد سنة 324 قبل الميلاد في جزيرة ساموس - في العشرين من عمره قرر أن يصبح فيلسوفاً على طريقطريفته الخاصة.. كان أبوه معلماً يتقاضى راتباً بسيطاً، مما دفع أمه أن تعمل لتعيل العائلة، فكانت تبيع الأعشاب الطبية لمعالجة المرضى، يسافر الى أثينا لحضور دروس الفلاسفة وكان في ذهنه مشروعين الأول البحث عن العماء الذي قال له استاذه " هيزيود " أن كل الاشياء تتولد من هذا العماء.. والثاني تخليص العالم من هذه الفلسفة التي تترك الإنسان جانباً وتنشغل بالكون، لكنه وجد إن النزاع شديد بين الافلاطونيين والارسطيين، فقرر أن يسافر إلى بلدان الشرق باحثاً عن إجابات لأسئلته، دارِساً الحكمة الشرقية، فقد كان أبيقور لا يرتاح لا إلى الخرافات ولا إلى الطبيعيات التي تؤمن بالقضاء والقدر، لأنها كلها تنتزع من الإنسان حريته وتجرده من القدرة على تمييز الأشياء وعلى تحمل المسؤولية. وقد عبر لوكريتيوس عن هذه الإرادة الحرة فقال:" على الرغم من القوة التي تدفعنا من الخارج وتجرنا إلى التهور، ألا تلاحظون وجود شيء بداخلنا، شيء قادر على التصدي لهذه القوة والوقوف دونها " – في طبيعة الأشياء ترجمة علي عبد التواب - . وما أن بلغ أبيقور الخامسة والثلاثين من عمره حتى عاد ثانية الى أثينا حيث قرر أن يشتري بيتاً كبيراً وحديقة لينشئ مدرسة لتدريس الفلسفة، وكان الانضمام الى هذه المدرسة متاحاً للجميع، رجالاً ونساء .. أغنياءً وفقراءً، وكان يهدف من وراء مدرسته إلى نشر أفكاره عن عالم يعيش فيه الجميع بإخاء ومساواة.. وبعكس مدرسة أفلاطون التي كان يسعى صاحبها إلى إنشاء جمهورية مثالية، كان أبيقور يبشر بمدينة شعارها " الاستمتاع بالحياة "، يكتب أبيقور " علينا أن نحرر انفسنا من سجن الشؤون السياسية اليومية "، كان التشابه بين فلسفة أبيقور ومدرسته تشابهاً عميقاً، فلم تكن المدرسة مجرد مكان له ولتلاميذه، بل كانت هي نفسها فلسفة، ونظرية بحد ذاتها، لقد كانت " حديقة للأفكار " رفع فيها شعار " أن نغير أنفسنا، بدلاً من أن نغير العالم ". تكمن قيمة الحياة في تنوعها وجودتها أكثر مما في كمها ومدتها.فإذا كانت قصيرة، وغزيرة، كان وزنها أكثر منها طويلة وخاوية.1403 Abi Qura

كانت المدرسة التي سميت " حديقة أبيقور" ترفع شعار المساواة، فلا فرق بين التلاميذ وأستاذهم، ولا وجود للفروقات الطبقية، فابيقور رحب بمدرسته بالنساء والرجال من جميع الطبقات الاجتماعية، وإذا كان افلاطون اعطى للنساء دوراً ثانوياً في الحياة، فقد أزال أبيقور كل فرق بين الجنسين، فلا كراهية للنساء، ولا تمييز على أساس الجنس، وإنما ممارسة مشتركة حرة للحياة والفلسفة. والحياة داخل المدرسة تتسم بالتقشف، فالطعام اليومي يقتصر على خبز الشعير والقليل من الجبن، وكان الطعام الدسم محرماً لأنه يبعث على الأسى والألم. يكتب أبيقور:" إنني أنتشي من خبزي ومائي..وإني لأعرض عن التوابل واللحوم ". وقد كان الخبز والماء والنبيذ هي مقومات الحياة السعيدة في نظر أبيقور. كانت توصف حديقة أبيقور بانها اشبه بالأخوية التي تجمع مجموعة من البشر تصل بينهم روابط الصداقة وتتشابه اذواقهم، وإيمانهم بفلسفة مشتركة، يعيشون حياة فطرية طبيعية ويتحاورون في قضايا فلسفية، ويتركون العالم ليسير في طريقه:" من بين جميع الاشياء التي تمنحنا الحكمة لتساعد المرء على عيش حياة مليئة بالسعادة، يُعتبر امتلاك الأصدقاء أعظمها على الإطلاق " – الرسائل والحكم ترجمة جلال الدين سعيد -.

تدين فلسفة أبيقور بالكثير من مفاهيمها لسقراط، فهو أول فيلسوف يشير إلى أهمية التطبيق العملي للفلسفة باعتبارها تهدف الى تغيير حياة الإنسان، وأن تكون أولى غايتها الاهتمام بالإنسان، وأصر سقراط على ان الحكمة هي ضرب من الكمال يخص كل ما يتصل بكيفية عيشنا، ولهذا سعى أبيقور وتلامذته إلى إثبات إن الوصول الى السعادة هو هدف الفلسفة، وكانوا يؤكدون على أهمية تحرر الإنسان من العبودية والتسلط والاضطراب. قال سقراط إن الرجل الصالح لا يمكن أن يلحق الأذى بالآخرين، فمفتاح الحكمة هو إشاعة الخير والسلم بين البشر.

اعتقد أبيقور أنه يجب أن تكون الفلسفة عملية. ويجب أن تغيير الطريقة التي نعيش بها. وتبعاً لذلك، كان مهماً أن يمارس مَن التحقوا به، مهنة الفلسفة عوضاً عن تعلمها فقط. بالنسبة لأبيقور، كان مفتاح الحياة هو إدراك أن ما نسعى إليه هو المعرفة الممتزجة بالمتعة. والأهم من ذلك هو تجنب نشر الشقاء بين الناس، ولهذا نجد إن أهم وصايا أبيقور لتلامذته:

1- السعي إلى إلغاء المعاناة من حياة الناس.. إلغاء المعاناة من حياتك.

2- نشر السعادة لأنها ستجعل الحياة أفضل

3- العيش ببساطة، فليس مهماً أن تحصل على أشياء لاتحتاجها. إذا كانت رغباتك بسيطة فمن السهل تلبيتها وسيبقى لك الوقت والطاقة للاستمتاع بالأمور المهمة في حياتك.

ويرى أبيقور إننا لن نستطيع العيش بسعادة ما لم نفهم العالم الذي نعيش فيه وندرك طبيعته، وبعبارة أخرى إننا يجب أن نعرف من نكون،ولماذا نعيش؟ ولهذا يؤكد أبيقور إن بإمكان الإنسان أن يعيش سعيداً لو تحرر من الخوفين الكبيرين الذين يفسدان الحياة: الخوف من الآلهة والخوف من الموت. إن من يعتقد أن الآلهة تراقبه لا يلبث أن تتركز عنده فكرة واحدة: العمل على ارضاء الآلهة، والخضوع لهم وهو في قيامه بذلك ينسى أن ينظم حياته، وأبيقور لا ينكر وجود الآلهة، لكنه يرى انها كائنات خالدة وسعيدة، ولا ينبغي ان نضيف لها شيئا يتناقض مع السعادة ولهذا من الخطا أن نعزوا اليها عواطف مثل الغضب والإنتقام أن:" الدين الشعبي عند أبيقور ليس نفسه عند ماركس: أفيون الشعوب، يوفر لنا عزاءً وهمياً يحعل حياتنا التعيسة بوصفنا مُستغلين امراً لا يطاق إنه على النقيض من ذلك (كابوس الشعب) مصدر دائم للقلق والكرب، ولا يتلائم مع سكينة السعادة " – دون غرايش العيش بالتفلسف ترجمة محمد شوقي الزين – . والذي يخاف من الموت يشعر، في كل لحظة، بمعاناة وهموم تستولي عليه فيزداد به الخوف، لذلك يطالبنا أبيقور بتحرير النفوس من هاتين الفكرتين المؤرقتين.

فلسفة أبيقور قائمة على التسويات، وهو لا يستطيع إنكار التفكير بوصفه عاملاً في السلوك البشري، ومع ذلك لا يسمح له بالسير حسب قانون الخاص لكي يصل إلى نتائجه:" يرد أبيقور كل المعرفة إلى تدفق المشاعر الفردية، ويقرر أنه لا يمكن لنا أن نتجاوز جدران الخلية المغلقة لشخصيتنا الذاتية " – جورج واطنسون نظريات اللذة ترجمة خالد الغنامي –

اذن ما الذي يجب على الإنسان أن يفعله لكي يكون سعيداً؟ إن ذلك لا ينتج من الاكثار من الملذات العارضة، وإنما ينتج من أن الإنسان يحيا حياة متزنة خالية من الألم وهذا ما كتبه الى احد تلامذته:" أليس من الحق أن الهدف لكل أعمالنا إنما هو الهرب من الألم والقلق حتى إذا ما وصلنا إلى ذلك تخلص الإنسان من كل بواعث الاضطراب تخلصاً تاماً وسيشعر انه مغمور في محيط من النعيم " – اندريه كريسون المشكلة الاخلاقية والفلاسفة ترجمة عبد الحليم محمود

يميز أبيقور بين الرغبات الطبيعية والرغبات غير الطبيعية، وبين الرغبات الضرورية والرغبات العابرة، والإنسان الذي يصل إلى السكينة لا يتأثر كثيراً بالمنغصات، بل يتجاوزها، وهو الذي يحافظ على رباطة جأشه أمام الصعوبات، ويعيش بدون ان يعكر حياته بالترهات والانفعالات المريضة.

يقول ديل كارنيجي سل نفسك؟ ثم هيئ نفسك لقبول أسوأ الإجابات ثم اشرع في إنقاذ ما يمكن إنقاذه. وبعبارة اخرى إن السؤال هو الذي يجعلك تعيش حياتك بإطمئنان، ويصف أبيقور الأسئلة بانها: " طبابة النفس، وانها تهدف في نهاية المطاف الى افهامنا بانه يجب ألا نخشى المجهول:".

يُعرف أبيقور الفلسفة بانها نشاط يجلب لنا الحياة السعبدة.إن غاية الحياة هي بالتاكيد السعادة، والطريق الى السعادة يمر عبر المتعة يعلن لوكريتوس في طبيعة الاشياء ان " اللذة مرشد الحياة ". وحتى يبرهن أبيقور على ان المتعة غاية.بعتمد على واقع الاحياء الذين، بمجرد أن يولدوا، يستمتعون بالحياة، ويكرهون الألم، وهذا جزء من طبيعة الإنسان. ويعلن أبيقور ان القاعدة الاولى لفلسفته هي ألا نؤجل ابداً لحظة الاستمتاع بالسعادة:" لقد ولدنا مرة واحدة، ومن المستحيل ان نولد مرتين وسوف لن نكون خالدين ابداً. انت مع ذلك يامن لست ابن الغد، تؤجل الفرح: الحياة تذوي بالزمن، وكل واحد فينا يموت وهو مشغول " – هنري بيا دروس في السعادة ترجمة محمد نجيب -. ولهذا فان الرجل الحكيم لا يخشى الموت، لان الموت انطفاء محض، ولا يخشى الآلهة لانها لا تعنى بشؤون البشر

قضى أبيقور كثيراً من الوقت في الكتابة، كان كثير الإنتاج. ويخبرنا ديوجينس اللايرتي أنه كتب حوالي 300 كتاب، رغم أنه لم يصلنا منها أي كتاب. ما نعرف عنه اليوم هو مستمد في أغلبه من كتابات تلامذته وأتباعهم فيما بعد. فقد كانوا يحفظون كتابات أستاذهم عن ظهر قلب ونقلوا تعاليمه عبر المؤلفات التي ظهرت في العصر الروماني، وكان أشهرها كتاب " في طبيعة الأشياء " كتبه الفيلسوف الروماني لوكريتوس الذي عاش بعد وفاة أبيقور بـ 200 عام.وفي هذه القصيدة – الكتاب – (ترجمه الى العربية علي عبد التواب علي) يرى لوكريتوس إن شقاء الجنس البشري وانهيار أفكاره يرجع الى الخوف من تسلّط الآلهة والفزع من غضبهم، وأن فلسفة أبيقور جاءت لتخليص الإنسان من تلك المخاوف، ومن ثم توطيد الإحساس بالطمأنينة في قلوبهم.

الفلسفة الأبيقورية هي رفض لسباق اللذة المحموم وايضا رفض للتخلي التام عن ملذات هذا العالم، فأن تكون سعيداً، بالنسبة إلى أبيقور، يعني الاختيار بين الأساسي والثانوي، بين الطموحات التافهة وتلك المهمة:" تُقدم الأطباق البسيطة اللذة ذاتها لتي تعطيها الطاولة المترفة عتدما يتم إقصاء الألم الناجم عن الحاجة " – الرسائل والحكم -.

بلغ ابيقور من العمر " 71 " عاما عندما اصيب بمرض الفشل الكلوي الذي ادى الى وفاته عام 271 ق.م، وقد كتب في رسالة الى احد تلامذته:" في اسعد أيام حياتي وآخرها اعاني أمراض المثانة والأمعاء، وهي امراض بلغت من الأذى والتبريح ما بلغت " ويواصل حديثه بقوله:" ورغم ذلك فكل هذه الآلام يوازيها رضا الروح ".

***

كيف بنبغي لنا أن نعيش؟ هذا هو السؤال الذي كان يؤرق مواطنا رومانياً ولد عام 55 ميلادية، وقد وجد نفسه عبداً لاحدى العوائل الغنية، التي تنبهت الى قدرته على الجدال وحدة ذكاءه، فمنحته تعليما فلسفياً، واعادت له حريته، ليصبح فيما بعد احد الحراس الخاصيين للامبراطور نيرون. تتلمذ على يد الرواقي ميزونيوس روفوس، وبعد سنوات سيمنح لقب الفيلسوف، فاخذ يلقي دروس على بعض الطلبة الى ان اعلن الإمبراطور دوميتيان حربه على الفلاسفة فطردهم من روما بحجة انهم كانوا يوجهون النقد الشديد لسياسة الدولة، فققر إبكتيتوس الرحيل الى بلاد اليونان وكان ييبلغ من العمر " 36 " عاماً، ليؤسس هناك مدرسة فلسفيةً شبيهة باكاديمية افلاطون، وقد كان إبكتيتوس ايضا، قد جذبته افكار سقراط التي كانت تستند على طرح الاسئلة، فرفع إبكتيتوس شعار " تساءل عن كل شيء ". يكتب توني روبينز في كتابه ايقظ قواك الخفية ان:" نوعية حياتك تحددها نوعية اسئلتك "، كان السؤال المهم الذي طرحه إبكتيتوس هو:" ماذا عسانا أن نفعل في الحياة ؟ " يكتب في المختصر:" المهمة الأساسية في الحياة هي تحديد الامور وتقسيمها حتى يمكنني ان أحدد بنفسي وبكل وضوح أيها خارجية لا يمكنني التحكم فيها، وأيها يتعلق بالخيارات التي يمكنني التحكم فيها. وأين أذن سابحث عن الخير والشر، ليس في الامور الخارجية التي لا يمكنني التحكم فيها، بل في داخل نفسي بين الخيارات التي قمت بها " – المختصر ترجمة عادل مصطفى –. يرى إبكتيتوس ان الممارسة الاكثر اهمية في الحياة هي التفرقة بين ما يمكننا تغييره وما لايمكننا تغييره، ما نملك تاثيراً عليه وما لا نملك تاثيراً عليه. فلن يجعلك أي قدر من التمني تزداد طولاً أو قصراً. أو أن تولد في بلد مختلف، فإن تمكنا من التركيز على استبيان الاجزاء من حياتنا التي تقع ضمن نطاق تحكمنا والتي لا تقع ضمن هذا النطاق، فلن نصبح أكثر سعادة فحسب، بل سنمتلك افضلية على الآخرين الذين فشلوا في إدراك انهم يحاربون في معركة لا يمكنهم الفوز بها.إن اكثر ما اشتهر به إبكتيتوس هو تميزه بين الاشياء التي تتعلق بنا والاشياء تلك التي لا تتعلق بنا. فاشياء التي تتعلق بنا (الفكر، الرغبة، الحب والكراهية) يمكننا التحكم بها بإرادتنا. وهنا تكمن سعادتنا، وينبغي علينا استثمارها. اما الاشياء التي لا تتعلق بنا (الحظ، المرض والموت، العالم الخارجي) فينبغي استقبالها مثلما تأتينا باعتبارها ليست من صنعنا. إن فلسفة إبكتيتوس تُعلمنا مبدأ التخلي عن الرغبات والتطلعات المفتعلة. ويلخص إبكتيتوس افكاره بعبارة مهمة " العيش فن ويمكن تعلمه مثل كل فن ".

صاغ الشاعر الايطالي داني استعارة مهمة حول الرغبات غير المهمة التي تقلقنا في الجزء الثاني من كتابه " الكوميديا الآلهية. حيث نجد الشاعر تائه في غابة الأثم المظلمة، وفجأة يرى جبلاً تعلوا قمته فوق الضباب وتغمرها اشعة شمس الصباح. بدأ الجبل في غاية الجمال، حتى ان دانتي اطلق عليه " الجبل السعيد "، وتصور انه السبيل الأمثل للخروج من الغابة المظلمة، ومن ثم شرع في تسلقه، لكن جهده ضاع سدى، فقد خرجت عليه الوحوش التي طاردته واجبرته على الرجوع عند السفح. لعل الجبل يمثل رغباتنا، ولهذا يجد الإنسان نفسه يحاول تسلق الجبل عدة مرات اثناء حياته، وتسلقه يُعبر عن الميل الى قياس مدى سعادتنا عن طريق مقارنة حياتنا بحياة الاخرين، بدلاً من قياسها عبر تحديد ما نشعر به يكتب إبكتيتوس:" من المستحيل ان نربط بين السعادة والتوق لما لا نمتلك ". لم تكن فلسفة إبكتيتوس تسعى الى تقليل او تصفية الرغبات، لكنه يسعى الى تعليمنا كيفية ضبط وتعديل هذه الرغبات التي قد تؤثر على انسجام النفس، لقد تمثلت رؤية إبكتيتوس في القول ان معظم الاشياء التي يسعى اليها الناس ليست خيرا في حقيقة الأمر، وان الفشل في الحصول عليها ليس بالأمر الذي يعد فشلاً او شراً. في مقدمة كتابه " رسالة في اصلاح العقل "، يؤيد سبينوزا رؤية إبكتيتوس هذه:" بعدما علمتني التجربة أن أكثر صروف الدهر تواتراً في حياة الإنسان إنما هي غي معظمها تافهة وباطلة، وبعدما أتضح لي أن الأشياء التي كانت في نظري موضوعاً للخشية أو سببا من أسباب الخوف لا تنطوي في ذاتها على الخير ولا على الشر، إلا إذا اعتبرنا ما تثيره هذه الأشياء في النفس من حركة، عقدت العزم اخيراً على البحث فيما إذا كان يوجد شيء يكون خيراً حقيقاً يستطيع أن يعلن ذاته وان يستطيع وحده أن يؤثر في العقل.. ويُمكنني من الاستمتاع على نحو متواصل بالسعادة القصوى والأبدية." – رسالة في اصلاح العقل ترجمة جلال الدين سعيد -.

ان مفهوم سبينوزا للسعادة يقترب من إبكتيتوس لها، فليس المراد من تقنية الرغبات هو تجنب الاستمتاع بالحياة، بل هو فهم ما الذي يكون ذا قيمة، وما الذي لا يكون كذلك. أن كل من إبكتيتوس وسبينوزا يعتقدان أن الانسان عليه ان يدرك ان الاشياء التي تزعجنا او تخيفنا ليست بالاشياء المهمة. وعلى العكس من ذلك، يدرك الإنسان أن ما يكون مهما إنما هو إدراك الطريقة التي تعمل بها حياتنا. يكتب إبكتيتوس :" لا تُضمن السعادة عبر تلبية رغبات قلبك، بل عن طريق محو تلك الرغبات منه ".

هاجم سقراط السفسطائيين الذين كانوا يقولون بان اللذة طريق السعادة، فهم يعتقدون ان الطبيعة البشرية لا تعدو ان تكون شهوة ومتعة، فقط كان سقراط يرى ان السعادة تقوم على السيطرة على الرغبات، وقد ربط بين السعادة والمعرفة، فطلب السعادة يقوم على سيطرة العقل على شهوة الرغبات.

يؤكد إبكتيتوس أن للناس جميعا قدرة على الفضيلة، وان الله وهب جميع الناس القدرة على أن ليصبحوا سعداء، وليصبحوا بشراً قادرين على ضبط النفس:" فلو انك تراخيت في يقظتك وحذرك لخسرت كل شيء، فمن داخلك يأتي الدمار، ومن داخلك يأتي الغوت والمساعدة " – المختصر ترجمة عادل مصطفى –

ظل إبكتيتوس يُلقي دروسه بينما هو يعيش عيشة التقشف والبساطة، في منزل ليس فيه سوى حصير ومصباح من الطين، وكان يعيش وحيدا أعزب إلى أن تبنى طفلاً، واستعان بامرأةً فقيرةً لترَبّيه، وفي سنواته الاخيرة اصيب بالتهاب المفاصل الذي تسبب له بالعرج، عاش حتى عام ١٣٨ميلادية، وكان يبلغ من العمر 88 عاماً.

إن جوهر فلسفة إبكتيتوس يتلخص بعبارة أن تكون إنسانا"، يجب على المرء أن يُراعي عمليات التفكير الخاصة به، و"التحرر من الخداع والحكم المُتسرع، وبشكل عام كل ما يتعلق بالموافقة ".

يُوصي إبيكتيتوس التلاميذ بالامتناع عن استخدام مصطلحي "الجيد" و"السيء"، ليس لعدم تطبيقهما في الحياة البشرية، بل لسهولة إساءة استخدامهما. لذا، ينبغي على المرء "كبح" الرغبة والنفور، واستخدام الدافع والدافع المضاد فقط، بشكلٍ واضحٍ وخالٍ من التزييف العاطفي لمكافحة بعض العادات السيئة الفردية، ينبغي على المرء ممارسة السلوك المعاكس: على سبيل المثال، إذا كان المرء سريع الانفعال، فعليه أن يُعوّد نفسه على تحمل الإهانات بصبر. إن الفحص الذاتي المنتظم قبل النوم، هو ممارسة مُستعارة من افكار إبيكتيتوس :" يُمكن للمرء من تصحيح الأخطاء قبل أن تترسخ " – المختصر ترجمة عادل مصطفى -

يكتب زيغمونت باومان:" نخن سعداء طالما لم نفقد الأمل في السعادة، نحن في مأمن من التعاسة طالما ما يزال الامل يدقُ أبوابنا. وبالتالي فأن مفتاح السعادة وترياق البؤس هو في الحفاظ على الأمنل في السعادة حياً باقياً" – فن الحياة ترجمة محمود احمد -.

يمكن تلخيص فلسفة إبيكتيتوس بالنقاط التالية

1- السيطرة على النفس، فانت مالك وسيد مشاعرك

2- لديك حياة واحدة فقط ولا فائدة من خسارتها في ترهات يمر بها الآخرون.

3- تجنب الافراط، فالحياة تقتضي كل يوم ان يكون آخر يوم في حياتك. لاتضيع الوقت في اشياء لن تفعلها

4- انت وحدك المسؤول عما تشعر به وعن ردود أفعالك

5- لا فائدة من القلق بشان الاشياء التي لا تتحكم فيها..لا تقلق بشأن ما ليس لك تاثير عليه

6- الاحداث المؤسفة فرصة لتطوير مناقبك بغض النظر عن العواقب. اعتق الفشل على انه افضل معلم يمكنك الحصول عليه.

7- الحظ غير موجود، هذا العالم هو افضل ما يمكن الحصول عليه، ووجودنا يساهم في هذا المشروع الكوني.

8- لا أحد يشعرنا بالسوء، نحن من يقرر كيف نشعر. لا نلوم أحد على، فنحن مسؤولون عنها وحدنا.

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

.....................

* فصل من كتاب " الفلسفة طريقا للسعادة.. فن الحياة من أبيقور الى آلان باديو " يصدر قريبا عن دار أُثر السعودية.

 

في المثقف اليوم