قضايا
مجدي إبراهيم: عذوبة التفكير
الحقيقة الوحيدة التي بين أيدينا هى أن نعمل وننتج، وألا نضيع أوقاتنا هدراً أو عبثاً..
يموت الإنسان راضياً عن نفسه يوم أن يكون قد أدّى رسالته في هذه الحياة.. والعظماء من الناس يشعرون بقيمة الحياة، فيمضون إلى تأدية الرسالة التي نيطت بهم على أكمل وجه، وعلى أتمّ عمل تنتهي به غاية الطاقة يؤدّيه بنو الإنسان.
لا يموت العظيم إلاّ وفي نفسه راحة، وفي قلبه اطمئنان.
العظماء هم هم أنفسهم أبناء القدر الذي حركهم إلى الأعمال الخالدة فبعث إليهم - من حيث يشعرون أو لا يشعرون - برسائل التبعة والتكليف والمسؤولية الملقاة على عواتقهم مفروضة كواجب من قبل السماء.
من المؤكد أن الإنسان في جميع الأحوال ليس إلا الروح التي تتردد في جسد، وعلى قدر عظمة الأرواح تكون عظمة الأعمال، والأعمال العظيمة أرواح عظيمة ما في ذلك شك، وعلى كبر النفوس تأتي خوالد الآثار. يموت الإنسان وتطويه أسباب الفناء ومع ذلك قد لا يشعر أنه قد أدّى رسالته التي فرضتها عليه الأقدار ، لكنه مع هذا كله قد يستقبل الموت - من بعد هذا الشعور - بقلب راض وخاطر سليم؛ لأنه كان بذل غاية الطاقة من عمل العاملين على الإخلاص.. أي مفارقة تلك.. أهى همّة العاجز الذي لا يبالي ولا يكترث لخطوب المنون؟
كلا.. الأمر أبسط من ذلك.. إنها فقط علّة التفكير.
حقيقةً إنه لا يفزع من حق بعد أن أدّى واجباً، ولا من حقيقة بعد أن قطع أشواطاً من الحياة عاملاً فيها بما يرضي الله ويرضي النفس، وإن لم يكن في الوقت نفسه يرضي الآخرين، فكما يكون رضى الناس غاية لا تدرك، فكذلك يكون رضى النفس ورضى الله أيضاً غاية لا تنال بسهولة ويسر إلاّ أن تكون المعرفة أساس هذا الرضى ومنبعه في فجاج الفكر وقرارة الضمير.
وهيهات للمرء أن يبلغ مستطاعه من معرفة الله ما لم يكن من قبل قد عرف نفسه.
أخوف ما يخاف عليه إذ ذاك هو دعوى امتلاك الحقيقة كونها غائبة عنه، غير أنه أقدر على البحث عنها وأخلق أن يجهد نفسه في البحث عنها بكل ما أُوتى من قدرة. والموت حق، والحق لا يظهر للعيان، ولا يتمُّ الكشف عنه في غير جهد من ترقية الذات.
الحقيقة الوحيدة الموكدة هى أن سبيل البحث عن الحقيقة أفعل في النفس من سبيل الكشف عنها ظاهرة لعيان المُبصرين.. أعني أن البحث عن الحقيقة أولى بالإنسان من دعوى امتلاكها؛ لأنه لا توجد حقيقة يستطيع أبناء الفناء امتلاكها.
لقد كان المفكر الألماني (لسنج Lessing) (١٧٢٩- ١٧٨١) يقول : إنّ متعة الإنسان ليست تنحصر في امتلاكه للحقيقة، وإنّما تنحصر في الجهد الذي يبذله من أجل العمل على بلوغها، ولا تنمو ملكات الإنسان بامتلاك الحقيقة أبداً بل بالبحث عنها، كما أن كماله المتزايد لا يتمثّل إلاّ في هذا المظهر وحده، أي مظهر طلب الحقيقة والبحث عنها ليس إلاّ.
هذا هو الجانب الإيجابي من علّة التفكير : ترقية الذات الإنسانية والبلوغ بها الى مستوى الكمال من خلال عملية البحث ذاتها، ليس أكثر.
على أن امتلاك الإنسان للشيء يميل به إلى الركود والتكاسل والغرور ويفضي به إلى الدعوى العريضة تقوم فيه بغير دليل. الأمر الذي يُفسّر لك معاناة الأوساط العلمية والثقافية الآن، كل شئ متاح، كل مطلب سهل. البحث العلمي بقضه وقضيضه تحصل عليه بضغطة زرّ على شبكة المعلومات، والمصنفات العلميّة ما أكثرها على الأنترنيت، والمقالات والبحوث، والمجلات، والسرقات، والتفاهات، والركاكات، وسقوط القيم في مستنقع آسن....
كل هذا أو نحوه يُخرّج أجيالاً ممسوخة تفتقر إلى البحث عن الحقيقة من جوانب ترقية الذات في عملية البحث ذاتها. وفاقد الشيء لا يعطيه، هذا سبب مباشر في انهيار منظومة التعليم والمتاجرة فيه بالسحت، واستغلال الطلاب والمساومة على نجاحهم أو رسوبهم بتوزيع المذكرات المسروقة.
لذلك، تجد أحدهم يحصل على الدكتوراه وهو أفسد الفاسدين أخلاقياً، مجرّد نماذج ممسوخة، فقيرة في طلب الحقيقة من طريق البحث أو من طريقة عذوبة التفكير التي يكون البحث أصلاً أصيلاً في الشوق إليها.
السهولة لا تشكّل ذاتاً علمية راقية ولا تنمي ملكات الإنسان الإبداعية، والحصول على المعلومة بيسر لا يعطي الفرحة الغامرة التي يتعذّب بها المفكرون حين يظفرون بعذاب التفكير دوماً في سبيل البحث عن الحقيقة والشوق إليها، مع الفارق الهائل طبعاً بين الحصول على المعلومة، ونحت الرأي والرؤية.
ولو أن الله - هكذا يقول لسنج - وضع الحقائق كلها في يميني، ووضع في يساري شوقنا المستمر إليها، وإن أخطأناها دائماً، ثم خيرني، لسارعت إلى اختيار ما في يساري قائلاً له : " رحماك يا الله، فإنّ الحق الخالص لك أنت وحدك".
***
بقلم: د. مجدي إبراهيم