قضايا

علي الطائي: إنسانيةُ الآلة... وآليةُ الإنسان

كلنا ندرك، من خلال قراءةِ التاريخِ البشريّ، التحولات الجذريةَ والتطورَ المطّردَ في كلّ مفاصلِ الحياةِ، والطبيعة. وهذه التحولاتُ لم تأتِ دفعةً واحدةً أو في زمان قصير. بعض علماءِ الإنسانِ والباحثين في مجال التطور البشري، بل وعلماء الآثار والانثروبولوجي، على درجةٍ عالية من اليقين بأن الإنسانَ مرّ بمراحلَ تاريخيةٍ مختلفةٍ أخذت منه آلاف السنين حتى وصل إلى هذه الدرجة من التطور. إذن حقيقة تطور الإنسان بمعارفهِ وآلاته وفنونهِ وآدابه وتفكيره حقيقةٌ لا يمكن التعتيمُ عليها أو إنكارها. وكلنا نعلمُ أن الإنسانَ سبقَ الآلة زمنياً. ومن خلال الاستغراق في البحثِ عن وسائل تريحه في عمله وتجواله، اخترعَ العجلة، وآلات نقل الأخشاب والأحجار الثقيلة من مكانٍ إلى آخر. ولما يتمتع به من عقلٍ، أخذ يتطلع إلى التطور دون قصدٍ منه، بل استجابة للحاجة وتحقيق لما يستدعيه أمرُ الدفاع عن سلامته وراحته. تطورت المعارفُ وترسخت في أذهانِ صناعِ الحضارات القديمة نزعة الاختراع أو البحث على الأقل عن وسائل الدفاع، وممانعة غضب الطبيعة. ولا نريد الإطناب في هذه الجنبة التاريخية حتى لا تضيع الفكرةُ الأهم والمبتغى الأعم.  وصل الإنسانُ في تطوره إلى محاولة خلق إنسانٍ آليّ يحاكي الإنسانَ الحقيقي، فاخترع الروبوت الذي يشبه البشر جسماً لا روحا واستعان به على قضاء مهماته في البيت أو في المصنع. الهدفُ من هذه المقالة، هو إبراز ما وصل إليه الإنسان المعاصر من تطور، وهل أنه حقق ما يصبو إليهِ من راحةٍ وصفاء بال، أم أنه زاد الطين بِلَّةً كما يقول المثلُ العربي القديم؟ وهل أفادته الآلة أم زادت من تعاسته؟

لو استعرضنا ما وصل اليه الطب في الوقت الحالي من استخدام للآلة والروبوتات في إجراء العمليات الجراحية المعقدة في جسم الإنسان، وما قدمته المعامل ومراكز الأبحاث في كثير من بلدان العالم المتقدم من أدوية ولقاحات ضد الأمراض التي كانت تحصد ملايين البشر قبل مئات من السنين، ووسائل الفحص والتشخيص الدقيق للأمراض، لوجدنا أن الآلة بدأت تأخذ مكان الإنسان الحقيقي وكأنهم يقولون لنا إن عصر الآلة الذكية قد حان، لكنهم لم يتساءلوا إلى أي حدٍّ سوف تصل إليه هذه الآلة؟ وهل أنها سيقدَّر لها أن تتحكم في مصير الإنسان وتأخذ مكانه من خلال الاستقلال بالتفكير وعمل ما تشاء؟

هذا سؤال ربما يجاب عنه من خلال ما سيقدمه الإنسان في السنين القادمة من صراعه المحموم من أجل الغلبة والسيطرة على الآخرين. نسمع مراراً في الأخبار أن العامل في اليابان يموتُ واقفا على آلته بسبب الإرهاق والتعب الشديد. و"أظهر تحقيق حديث في الصين أن ضغوط العمل الكبيرة تؤدي إلى وفاة 600 ألف شخص سنويا بسبب الإرهاق المفرط، أي بمعدل 1600 وفاة يوميا"[1]. وهذه الظاهرة أصبحت تدعى في اليابان باسم "كاروشي"[2] أي الوفاة بسبب الإرهاق الشديد. ومن التدقيق في مثل هذه الأحداث يتبين لنا أن الآلة استعبدت الإنسانَ ووظفتهُ بدلا من مساعدته في العيش براحة. وهذه الآلة ساعدت البشر كثيرا ولا غنى له عنها، لأنها وفرت له مصدرا من مصادر العيش والاستقرار. حينما أستقل سيارتي وأقصد مكانَ عملي، أشعرُ وكأنها تحملني في حضنها كما تحملُ الأم وليدها. تبردني في الحرّ، وتدفئني في البرد. ولا أغلو حين أقول: إن علاقة حب تنشأ بيني وبينها ومن جانب واحد بالطبع. وكأنني أتكلمُ بلسان حالها فأقول: بسطتُ ظهري إليك وأنا في خدمتك ما دمت لم تقصر معي بالوقود والصيانة!! هذا القلمُ الذي أكتبُ به رسائلي وكتبي وأنجز به كل معاملاتي، أجده جديراً بالاحترام والتقدير وكأنه بشر يجلس معي ويقدم إلي المساعدة في كل وقت. جهازُ الحاسوبِ الذي يصحبني أكثر من تسعِ ساعات في اليوم رفيقاً مخلصاً يساعدني بصمت شديد، ويخدمني متى احتجته أو طلبت منه الخدمة. ولن أكون مغاليا حينما أصفهُ بأعز الأصدقاء أو الرفقاء. وهناك أمثلةٌ لا حصرَ لها يمكنكم التأمل فيها ما شئتم.

كل هذا الذي تقدمه الآلات هو من أفضل ضروب المنفعة التي يلهثُ جلّ البشرِ خلفها دون التفاتٍ أو شعور. وقيمة كل شيء تكمن في مقدارِ ما يقدمه من نفع وفائدة، أو ما يدعوه علماء الفلسفة بالخير المحض. وما دام الخير كامن وظاهرٌ في كل هذه الآلات والأشياء، فإنها تندرج في قاموس الضروريات التي تلبس مثالية الخلق الإنساني التي بحث عنها الفلاسفة المثاليون، أو الباحثون عن الخير والسعادة، وبناة المدن الفاضلة عبر التاريخ. حينما نتحدث عن إنسانية الإنسان، فإننا نقصد منها الرحمة والتعايش وفائدة الآخرين، وإلا فمتى كان الإنسانُ إنسانياً؟ أو قل رحيما لأخيه الإنسان. سنة التدافع التي سنها الخالق في البشر ظهرت في سلوكياتهم عبر التاريخ بأشكال كانت تتسم بالظلم والدموية والإلغاء، وحب السيطرة، والإفناء. هذا التزاحم لا يوجد في الآلات، فهي تحت سيطرتنا وكأن الإنسانَ ابتكرها حتى يستعين بها على السيطرة على الآخرين، كأنواع الأسلحة المدمرة. وهذا هو الجانب المظلمُ من الآلة تماما كالجانب المظلم للإنسان. إذن كأنني بالآلة ظل البشر والخالق لها.

***

بقلم د. علي الطائي 

........................

[1] خبر في "الجزيرة نت" بتاريخ 3-10-2013.

[2] ويكيبيديا. الموسوعة الأضخم على الشبكة العنكبوتية. مادة "كاروشي".

 

في المثقف اليوم