قضايا

مراد غريبي: لغتنا العربية بين المعجمية والممارسة الاجتماعية

لا مفر من أن بعض الكلمات عن الذكريات، بدلا من أن تكون توضيحية لجمهور قارئ محتمل، تهدف إلى نوع من فهم الذات. في بعض اًلأحيان لا يكتب المرء ليفهم الآخرين، بل ليفهم نفسه. ربما هذه واحدة من تلك الحالات، في هذه المرحلة من وجودنا كعرب ومسلمين، لدينا بعض الذكريات التي تتكرر وتظهر عندما نفكر في القضايا المرتبطة بأصولنا الثقافية. نشعر أن جذورنا (إذا أردنا إعادة إنشاء مصطلح نباتي) لا ترتبط فقط بآفاق العروبة والإسلام والحضارات الأولى، وهو شيء نتقاسمه من طنجة إلى مسقط، ولكنه يتكون من مصفوفات ثقافية أخرى من تمازج الأجناس العميق والعشوائي عبر محطات تاريخية مضت.

مشهد الذكريات هذا له علاقة بتعليمنا. كل منا أتمم جزءاً من دراسته الابتدائية في مدرسة صغيرة في منطقة في جغرافيا العرب والمسلمين، وسط مجتمع بدوي أو شبه متحضر في المشرق أو المغرب. أعتقد أنه منذ ذلك الوقت فهم بقوة معنى الانتماء والهوية. لقد درسنا بين سكان أوطاننا، وجميعنا أبناء أفراد مجتمعنا العربي، والعديد منا أبناء عمومة أو قرابة بمعنى وبآخر؛ أي أننا درسنا مع عائلتنا. اللغة العربية كانت ولاتزال لغتنا الأم، لقد نسيناها لكننا لم نفقدها كلية. أو بالأحرى جعلونا ننساها. لأن الغازي يقمع ما استعمره. ومع ذلك، فإن لغتنا العربية بقيت في ذاكراتنا، بين القمم والآفاق الطويلة، بما في ذلك الشعر والأدب، كل منا نال وقتا للقراءة المستمرة والحياة الطبيعية بنكهة عربية ولهجة عربية، كان ذلك أمراً أساسياً بالنسبة لكل واحد منا. تطوير لاحق أو أمل منتظر. إذا كان بإمكان المرء العربي أن يحاول تعريف السعادة بلغته الحية الرافضة للموت، فلابد أن ذلك كان من نصيبنا كل على شاكلته. إنها جنتنا الخاصة العربية. لدينا جميعا واحدة لا نستوعب الجنة إلا بلغة سورة الرحمن وآي القرآن الكريم.

إننا نعود إلى اللغة العربية كما نعود للأرض الأم، أجدادنا وأصالتنا وعاداتنا وموسيقانا لا نستذكرها إلا بتعبير عربي بديع، بالفعل. علاوة على ذلك، فإن جزءاً من مجتمعنا العربي العتيق لا ينقرض؛ إنه جزء منا يختفي ويظهر. ولهذا السبب فإن عشق اللغة شكل من أشكال التكريم لها، لاستعادتها، وعدم نسيانها. الذاكرة المثبتة عبر الأجيال من طنجة إلى صلالة كدليل على الدوام.

ومن الذاكرة الحديثة أريد أن أشكر الأصدقاء والمفكرين، الذين لولاهم لكانت هذه المحاولة النصية قد وضعت على الرف. إلى علامة الجزائر العالم الجليل المصلح الكبير الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله، وللمفكر الإسلامي الحر الشيخ محمد الغزالي رحمه الله ، والمفكر الكبير الدكتور علي الوردي رحمه الله ، ثم إلى المفكر والمؤرخ السعودي الدكتور زيد علي الفضيل، وكذلك أحد عمالقة أرض الكنانة الدكتور صلاح شفيع بمطارحاته ومقارباته للدور الحضاري للغة العربية في علومها وفي آفاق القرآن الكريم، دون أن أنسى الدكتور علي القاسمي على محبته الدائمة وإشتغالاته بالبلاغة وكرمه اللامحدود تجاه استذكار الروعة في اللغة العربية؛ وطبعا الدكتور عبد الله إبراهيم وموسوعته عن السرد العربي في تسع مجلدات، وختاما إلى اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية.

وغني عن القول أن الممارسة اللغوية تصل إلى مستوى دينامي عبر الممارسة الاجتماعية المتطورة لهذه اللغة وعندما نقارب اللغة العربية نحن نقترب من صياغة الهوية الثقافية لمجتمعاتنا مما يفرض علينا حفر عميق في مكونات الذاكرة اللغوية وأسس بناء الفعالية الحضارية لهذه اللغة وليس فقط الاستغراق في المصداقية التي لا يختلف عليها اثنان من المنصفين، هناك وعي بمصداقية اللغة العربية لكنه وعي متفرج غير فعال أو متحسر.

 في عالمنا المعاصر اللّغة العلميّة تلك اللّغة الّتي تعمل على نقل معلومات علمية متخصّصة خاصة بقطاع أو مجال علمي محدّد لهوياتها الثقافية والمثيرة للوعي اللغوي الاجتماعي والنهوض الاقتصادي لأنها كالنقد في التعاملات الاقتصادية والتبادل التجاري، هي كذلك تفتح الآفاق في تبادل السلع والأصول الفكرية والثقافية وأهم مجال يكشف لنا عن حيوية لغة هو الترجمة العلمية والتقنية للمنتجات العلمية والتكنولوجية، مثلا مؤخرا بالشارقة مجمع اللغة العربية أنتج المعجم التاريخي للغة العربية وهو منجز مهم بالنسبة للترجمة العلمية ويوحي بضرورة الاهتمام بموضوع الفعالية الإستراتيجية للغة العربية في مستقبل العلوم والاقتصادات المعرفية، عموما ثقوب الذاكرة ليست نهاية اللغة والاحتفاء لربما يكون حفظا لماء الوجه في ظل أعطاب تواصل اللسان العربي في راهننا، لكن لابد من نظم أمور اللغة العربية كممارسة اجتماعية فعالة وليس كفانتازيا ثقافية... ونأمل أن نتفاعل مع لغتنا التفاعل البناء والحيوي الحضاري... بوصفها وسيلة تعبير اجتماعي، علمي، سياسي واقتصادي، ممّا يحتّم دراسة التفكير في إستراتيجية العبور من المعجمية العربية نحو الاستعمالات السوسيوثقافية المختلفة للغة العربية في أوطاننا ومؤسساتنا واتصالاتنا وشبكات تواصلنا من خلال الوعي العملي لآثار البُنى الاجتماعية في الممارسات اللغوية العربية في ظل رهانات التدفق الهائل للمعلومات والتداول السريع للمعارف في زمن الذكاء الاصطناعي ومناهج تكنولوجيات النانو...

***

ا. مراد غريبي

 

في المثقف اليوم