قضايا
عبد السلام دخان، تأويليّة الصورة.. من الاغتراب الوجودي إلى الخلود الرمزي
![](/images/1/abdulsalam_dokhan.jpg#joomlaImage://local-images/1/abdulsalam_dokhan.jpg?width=&height=)
ليست الصورةُ أرشيفًا جامدًا للواقع، بل فعلًا وجوديًّا (un acte existentiel) يختزلُ الزمنَ في ومضةٍ ميتافيزيقية، يعيدُ تشكيلَ أسئلته كلَّما ظننّا أننا أمسكنا بجوهره. إنها تصعيدٌ للعابرِ إلى ملكوتِ الخُلود، حاملةً في طيّاتها تناقضًا جوهريًّا، حيث تُظهر الماديّ عبر تجميده، وتُحرّرُ الرمزيَّ عبر حبسه. هذا الانزياحُ يُثيرُ إشكاليةَ الثنائيات: هل تُشكّلُ الصورةُ انفصالًا عن أصلها الواقعي (l'origine réelle) أم ولادةً لكونٍ موازٍ؟ وهل يمكنُ لعملية "تجميد اللحظة" أن تكونَ وقفًا لزمنها الحيوي (le temps vital) أم تحويلا إلى كيانٍ تأويليٍّ؟
إذا استحضرنا مفهومَ "المدّة" (la durée) لدى هنري برجسون (Henri Bergson)، بوصفها ذلك السيلَ الوجوديَّ الذي يرفضُ التجزئة، فإن الصورةَ تتعارضُ جوهريًّا مع فلسفته. فالصورةُ تختزلُ التدفقَ الزمنيَّ في وحدةٍ متصلبة، كأنها تقتلعُ اللحظةَ من جسدِ الزمنِ لتقدّمها مثل"جثةٍ جمالية". لكنْ، أليست هذه "الجثة" بالذاتِ مفتاحًا لفهمِ الأبعادِ الخفيةِ للوجود؟ هنا يَتصادمُ الفيلسوفُ مع الفنان: الأولُ يرى في التجميدِ تشويهًا للطبيعةِ الزمنية، بينما يرى الثاني فيه اكتشافًا لِما تخفيه الحركةُ من أسرار.
ولا تقتصرُ الإشكاليةُ على الزمنِ فحسب، بل تمتدُّ إلى السلطةِ المعرفية للصورة، خاصةً في عصرِ "المحاكاة الافتراضية" (la simulation virtuelle)، على نحو ما نجد لدى جان بودريار (Jean Baudrillard)، حيث تتحولُ الصورةُ إلى "وهمٍ متجدّد" (un simulacre) يطمسُ الحدودَ بين الحقيقةِ (la vérité) والافتراض. هذا الانزياحُ يُلقي بظلالِ الشكِّ على الميثاقِ الأخلاقي للفن: أينَ يبدأ وينتهي حقُّ الفنانِ في إعادةِ التشكيلِ؟ وهل يتساوق ذلك مع خطرِ التزييفِ (la falsification)؟ وهل تُعَدُّ الصورةُ الرقميةُ الحديثةُ شكلًا من "المقاومةِ الجمالية" (la résistance esthétique ) ضدَّ سطوةِ الواقع، أم انزياحًا نحوَ اغترابٍ وجوديٍّ؟
تكمنُ مفارقةُ الصورةِ في كونها خيانةً مزدوجة؛ تخونُ الواقعَ بانفصالها عنه، وتخونُ الذاكرةَ بتحويلها إلى سرديةٍ متخيّلة. إنها تسرقُ "اللحظةَ الحيةَ" من سياقِها العاطفيِّ لتصهرَها في بوتقةِ الجمال، مُحوّلةً الألمَ إلى لوحةٍ، والفرحَ إلى منحوتةٍ. هكذا تتحولُ الذاكرةُ إلى "فنانٍ خفيٍّ" (un artiste invisible) يخلطُ ألوانَ الماضي بفرشاةِ الحاضر، فيسرقُ منا "الحقيقةَ" ليهبَنا "مجدَ الحكايةِ".
لا ينحصرُ تأثيرُ الصورةِ - في تقديري- على الفردِ، بل يكونُ أشدَّ إيلامًا على المستوى الجمعي. إن سؤالَ مَنْ يمتلكُ الصورةَ يخترقُ تاريخَ الفنونِ، ذلك أن لوحة مثل "غرنيكا" (Guernica) لبيكاسو، لا تزالُ تتوحّدُ مع مأساةِ الحربِ رغمَ تحررها من سياقِها التاريخي. لكنَّ هذا "الخلودَ الرمزيَّ" (l'immortalité symbolique) يُخفي اغترابًا مزدوجًا؛ فالصورةُ تستعيرُ وجعَ الواقعِ لتخلقَ منه أسطورةً، ثم تتنكرُ لأصلِها الإنسانيِّ لتصيرَ "أيقونةً ثقافيةً" (une icône culturelle). أليست "الموناليزا" (La Joconde) -بابتسامتها المُلغزة- شاهدةً على هذا الانزياحِ؟ لقد تحررتْ من مالكِها (ليزا) لتصيرَ مِلكًا للعالمِ، لكنها خسرتْ هويتها لتصيرَ لغزًا. لتظل الصورةُ بذلك"مفارقةً وجوديةً" (un paradoxe existentiel) تمنحُنا وعدا بالخلود، لكنها في مسارها التراجيدي تسرقُ منا "حرارةَ اللحظةِ". تختزلُ الإنسانَ في "لقطةٍ" (un instantané) لتُطلقهُ مثل طائر حر في سماء التأويلِ الفسيحة. ربما تكمنُ هويتها في عَدِّها جسرٍا بين الموتِ والحياة، لتُذكّرنا بفنائنا عبرَ خلودِها، وتُحررنا من ثِقلِ الواقعِ عبرَ إدخالِنا إلى مملكةِ المتخيّلِ، فالصورةُ مثل طائر الفينيقِ، تموتُ في الواقعِ كي تُولدَ في التأويلِ.
***
د. عبد السلام دخان