اخترنا لكم
إبراهيم بورشاشن: الإنسان كائن عاقل؟

ما رأي القارئ الكريم لو أننا جعلنا عنوان هذه المقالة على صيغة سؤال فقلنا: هل الإنسان فعلاً كائن عاقل؟، خاصة أن لهذا السؤال ما يبرره على صعيد الفكر النظري.
تعددت تعريفات الإنسان، منذ أن بدأ سقراط يهتم بتحديد ماهيات الأشياء، وقد ورث أرسطو هذا المنزع، وعندما أراد أن يحدد ماهية الإنسان، جعل هذه الماهية نطقاً، فكان تعريفه الشهير «الإنسان حيوان ناطق»، تعريفاً بالجنس والفصل، على أساس أن الحيوانية جنس الإنسان، والنّطق هو ذلك الفصل الذي يفصله عن دائرة الحيوانية العجماء، فاعتبر أرسطو النّطق جوهر الكائن البشري. وقد نُظِرَ إلى النّطق من جهتين، جهة داخلية تختص بالتّفكير الذي ليس هو سوى حديث المرء مع نفسه، وجهة خارجية تختص بالكلام، باعتباره المعاني التي جاءت على ترتيب الملفوظات، والتي يريد المرسِل إيصالَها إلى مخاطَبه. وقد ظل هذا التعريف علَماً فلسفياً على هذا الكائن الفريد، حتى أننا وجدنا ديكارت يشرع أبواب العصر الحديث بـ«الأنا المفكر»، الدّال على الهوية الحقيقة للوجود الإنساني، فأصبح الكوجيطو دالاً على الماهية الحقيقة للإنسان، إذ لا وجود حقيقي للإنسان إلا من خلال التفكير فـ «أنا أفكر، إذن أنا موجود». وقد اعتبر ديكارت العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس بالتساوي، ووضع له قواعد تنظم مناهج نظره، حرصاً منه على تسديد العقل وتحريكاً له نحو التّفكير الصّحيح.
وعندما جاء باسكال وتأمّل الإنسان، كان مما قاله: «أستطيع أن أتصور إنساناً بلا يد، ولا رأس، لكني لا أستطيع تصور الرجل ولا فكر له، فهو عندئذ حجر أو جماد»، وعندما تساءل: ما الإنسان؟، لم يجده سوى «قصبة مفكرة»، فالإنسان من حيث جسمه هو كالقصبة سريع السّحق، وأهون شيء يمكن أن يميته، «لكن الإنسان وإن سحَقه الكون، كما يقول باسكال، فهو لا يبرح أعظم قدراً مما يقتله، لأنه يعرف أنه يموت». إن قدر الإنسان عند باسكال في الفكر، ومن هنا يدعو، متّبعاً أستاذَه ديكارت، إلى العمل على حسن التفكير، إذ «كل قدر الرجل في فكره، والفكر إذن شيء عجيب لا يضاهَى من حيث طبيعته». كما يقول باسكال في خواطره.
وينتقد كلود ليفي ستروس هذا المنحى بانتقاده النّزعةَ الإنسانية التي حدّدت الإنسان في إطار ضيق جداً، في نظره، حين اعتبرته «كائناً مفكراً»، واعتبرته المصدرَ والمرجعَ لكل شيء، ويرى أن ما حصل في القرن العشرين من حروب طاحنة، بفظاعاتها الكبرى، ليس سوى نتيجة لأخطاء النّزعة الإنسانية، وريثة عصر الأنوار، في «تأليه العقل»، داعياً إلى تعريف الإنسان تعريفاً جديداً يُرى فيه «كائناً على قيد الحياة»، دفاعاً منه عن كل أشكال الحياة والمجتمعات الإنسانية.
حقاً، لم يكن تعريف الإنسان بأنه كائن مفكر هو التّعريف الوحيد للإنسان، فقد وجدنا مَن يعرِّفه «حيواناً سياسياً»، على أساس أنه الوحيد الذي ينظم حقلَه السياسي، ووجدنا مَن يعرفه «كائناً أخلاقياً»، على أساس أنه الوحيد الذي ينطلق من مبادئ أكسيولوجية ينظم بها سلوكَه الفردي والجماعي. ووجدنا مَن يعرفه «كائناً تاريخياً» على أساس أنه الوحيد الذي ينقل خبراته إلى الأجيال. لكن الرّجة التي سوف يحدِثها كلٌّ مِن شوبنهور بـ «إرادة الحياة»، وفرويد بـ «اللاشعور»، وداروين بـ«نظرية التطور»، سوف تعيد النظرَ في ماهية الإنسان بشكل يكاد يكون جذرياً، وسيترتب عن ذلك ظهورُ فلسفات جديدة ونظريات أخلاقية تُنظِّر لهذه الرجّة العلمية التي حدثت في الاقتصاد والبيولوجيا والتحليل النفسي. وما نراه اليوم من تغيرات في مجال الأكسيولوجيا ليس إلا نتيجةً لهذه الرجّة الكبرى في النّظر إلى الإنسان.
***
د. إبراهيم بورشاشن
عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 8 أغسطس 2025 01:02