قضايا
مراد غريبي: المثقف العربي في زمن الاستلاب الرقمي.. الوظيفة والرهانات
في زمن تتسارع فيه وتيرة التحولات الرقمية، يجد المثقف العربي نفسه أمام معضلة وجودية لا تقتصر على التكيف مع أدوات جديدة، بل تطال جوهر وظيفته الحضارية ذاتها. تسعى هذه السطور إلى استجلاء التحديات البنيوية التي فرضتها هيمنة الخوارزميات الرقمية والذكاء الاصطناعي على المشهد الثقافي، حيث باتت آليات الإنتاج والتلقي الثقافي محكومة بمنطق خوارزمي يُعيد تشكيل علاقة المثقف بالمعرفة والجمهور والفضاء العام. هذه تنطلق المقاربة من فرضية محورية مفادها أن المثقف العربي لا يواجه مجرد تحديات تقنية إجرائية، بل يواجه أزمة أنطولوجية ومعرفية تمس صميم أدواره التنويرية والنقدية والتوجيهية التي شكّلت تاريخياً هويته الفكرية. هذا المأزق يستدعي إعادة النظر في الاستراتيجيات الثقافية التي يمكن أن تمكّنه من استعادة فاعليته، عبر تطوير نماذج هجينة تجمع بين إتقان الأدوات الرقمية المعاصرة والمحافظة على الاستقلالية النقدية، مع بناء جماعات فكرية رقمية قادرة على مقاومة منطق الاستلاب الرقمي الذي يهدد التنوع الثقافي والكرامة الإنسانية.
لقد شهد عصرنا الراهن تغيرات جذرية في صورة المشهد الثقافي والمعرفي، حيث أصبحت الخوارزميات الرقمية والذكاء الاصطناعي تُعيد تشكيل طرائق إنتاج المعرفة وتداولها واستهلاكها. في هذا السياق، يصادف المثقف العربي تحديات غير مسبوقة تمس جوهر وظيفته التنويرية والنقدية التي عُرف بها تاريخياً. فالخوارزميات، بوصفها مجموعات من التعليمات البرمجية التي تحكم عمل المنصات الرقمية، أصبحت تمارس سلطة غير مسبوقة في تحديد ما يراه الأفراد ويقرؤونه ويستهلكونه ثقافياً. هذه السلطة الخوارزمية ليست محايدة، بل تعكس منطقاً اقتصادياً يقوم على تعظيم المشاركة والتفاعل، بغض النظر عن القيمة المعرفية للمحتوى.
علما أن هذه التغيرات ولدت إشكاليات جوهرية منها: كيف يمكن للمثقف أن يستعيد دوره الفاعل في زمن تهيمن فيه الخوارزميات على توزيع المحتوى الثقافي وتشكيل الوعي الجمعي؟ وماذا عن الرهانات التي تهدد دوره في مواجهة هذا التسونامي الرقمي العابر لجغرافيات المشهد الثقافي؟ وماذا عن وظائفه التقليدية في عصر الطفرة المعلوماتية والهيمنة الرقمية؟
إن فحص الوضعية الإشكالية للمثقف العربي في عصر الخوارزميات المتصاعدة والمتزايدة، من خلال تحليل التحولات البنيوية في المشهد الثقافي الرقمي، واستكشاف الوظائف الجديدة التي يُطالب المثقف العربي بأدائها، والرهانات القلقة التي تواجهه في سعيه لاستعادة موقعه المركزي. حيث ننطلق من فرضية أساسية مفادها أن المثقف العربي لا يواجه مجرد تحديات تقنية، بل يواجه أزمة وجودية تمس طبيعة وظيفته وعلاقته بالجمهور والمعرفة ذاتها.
حيث نعتمد في هذه الورقة على مقاربة نقدية تحليلية تستند إلى الأدبيات الحديثة في الفلسفة الرقمية وعلم الاجتماع الثقافي وأخلاقيات التكنولوجيا، مع التركيز على السياق العربي المعاصر.
1. الخوارزميات وتجديد المشهد الثقافي
إن ظهور الخوارزميات الرقمية مثل نقطة تغير عميقة وجوهرية في كيفية تدفق المعلومات والمحتوى الثقافي في الفضاء العام، تُظهر الأبحاث المعاصرة أن خوارزميات التوجيه في المنصات الرقمية تعمل على خلق "فقاعات معرفية" تحصر المستخدمين في دوائر ضيقة من المحتوى المتشابه، مما يُقلص من التنوع الثقافي ويُضعف من إمكانية الحوار العميق والنقد المستنير. هذا الواقع صاغ تحولاً في طبيعة الاستهلاك الثقافي، حيث يتحول المتلقي من باحث نشط عن المعرفة إلى مستهلك سلبي يتلقى ما تقدمه له الخوارزميات دون وعي نقدي كافٍ.
كما يمكن ملاحظة أن المحتوى السريع والسطحي والمثير عاطفياً يحظى بانتشار أوسع مقارنة بالمحتوى العميق والتحليلي الذي يتطلب جهداً ذهنياً من المتلقي. هذا النسق الخوارزمي يُشكل تحدياً جوهرياً للمثقف العربي الذي اعتاد على تقديم تحليلات معقدة ونقد عميق، إذ يجد نفسه في منافسة غير متكافئة مع منتجي المحتوى السريع الذين يتقنون قواعد اللعبة الخوارزمية.
وفي هذا السياق، يشير الباحث الفرنسي (Maël Pégny ) ماييل بيني في دراسته الهامة حول "أخلاقيات الخوارزميات" إلى أن الأنظمة الخوارزمية لا تكتفي بتنظيم المحتوى، بل تُعيد تشكيل الذائقة الثقافية ذاتها وفق منطق اقتصادي استهلاكي.
علاوة على ذلك، يضيف الباحث الفرنسي أنه الخوارزميات أصبحت تنتج استقطاباً حاداً في الآراء، حيث تُعزز المواقف المتطرفة وتُضعف الأصوات المعتدلة والنقدية التي كانت تُشكل تاريخياً جوهر العمل الثقافي، هذا الاستقطاب يُهدد إمكانية الحوار الثقافي العميق ويُحول النقاش العام إلى مواجهات أيديولوجية حادة تفتقر إلى التأمل النقدي , وفي السياق العربي تحديداً، تُضاف إلى هذه التحديات مشكلات الرقابة السياسية والفجوة الرقمية التي تحد من قدرة المثقف على الوصول إلى جمهوره بفعالية.
2. المثقف بين الوظيفة التقليدية والموجات الرقمية
تاريخياً، ارتبطت وظيفة المثقف عموما بما في ذلك المثقف العربي بثلاثة أدوار رئيسية:
1. الدور التنويري في نشر المعرفة والوعي،
2. الدور النقدي في فحص السلطة والبنى الاجتماعية،
3. الدور التوجيهي في صياغة الرؤى المستقبلية للمجتمع.
غير أن هذه الوظائف تواجه اليوم تحديات بنيوية نتيجة الموجات الرقمية الكاسحة. كان المثقف يُعتبر وسيطاً معرفياً بين النخبة العلمية والجمهور الواسع، يقوم بترجمة المعارف المعقدة وتبسيطها دون إخلال بعمقها، لكن مع ظهور محركات البحث والذكاء الاصطناعي، أصبح بإمكان أي فرد الوصول إلى كميات هائلة من المعلومات بسهولة. هذا الواقع يُثير تساؤلاً جوهرياً:
هل ما زال المثقف ضرورياً كوسيط معرفي في عصر الوفرة المعلوماتية؟ الإجابة تكمن في التمييز بين المعلومة والمعرفة؛ فالخوارزميات توفر المعلومات، لكنها لا تُنتج المعرفة النقدية المنظمة، هنا تكمن وظيفة المثقف الجديدة: ليس كمصدر وحيد للمعلومة، بل كمُنظم للمعرفة وناقد لها ومُسائل لمصادرها ومنطقها. حيث يُشكل الدور النقدي للمثقف أحد أهم وظائفه التاريخية، اذ يقوم بفحص السلطة السياسية والاقتصادية والثقافية، وكشف آليات الهيمنة والاستلاب. لكن في الفضاء الرقمي، يواجه هذا الدور تحديات متعددة. فكما سبقت الإشارة، الخوارزميات تُنتج استقطاباً حاداً، كما أن سرعتها وطبيعتها الفورية تتعارض مع طبيعة النقد الثقافي الذي يتطلب وقتاً للتأمل والتحليل والصياغة الدقيقة. بينما المثقف الذي يأخذ وقته في إنتاج نقد عميق قد يجد أن الموضوع قد تجاوزته الأحداث السريعة، وأن الجمهور قد انتقل إلى قضية أخرى توجهه إليها الخوارزميات.
في حين الدور التوجيهي، فقد ارتبط تاريخياً بقدرة المثقف على التأثير في الرأي العام وتوجيه النقاشات الاجتماعية نحو قضايا جوهرية. لكن في عصر الخوارزميات، تتوزع هذه القدرة على عدد هائل من الفاعلين، من المؤثرين الرقميين إلى الخوارزميات ذاتها التي تُحدد ما يظهر وما يختفي. هذا الواقع يضع المثقف أمام خيارين صعبين:
1. إما أن يتكيف مع منطق الخوارزميات ويُنتج محتوى يستجيب لمتطلباتها، وبذلك يُخاطر بفقدان عمقه النقدي،
2. أو أن يحافظ على استقلاليته ويُخاطر بالتهميش والنسيان.
هذا المأزق يُشكل أحد أخطر التحديات التي تواجه المثقف العربي أي مثقف في عالمنا المعاصر، ويتطلب إعادة تفكير جذرية في استراتيجيات العمل الثقافي
3. رهانات المثقف في عصر الخوارزميات الضوئية
يواجه المثقف في عصر الخوارزميات عدة رهانات جوهرية تحدد مستقبل وظيفته وفعاليته الثقافية والاجتماعية:
1) الرهان الأول يتمثل في قدرة المثقف على إتقان الأدوات الرقمية دون أن يُستلب لأنساقها، وهذا يتطلب فهماً عميقاً لكيفية عمل الخوارزميات وآليات توزيع المحتوى في المنصات الرقمية، مع الحفاظ على الاستقلالية النقدية. أي المثقف مطالب بأن يصبح "وسيطاً رقمياً واعياً" يستخدم التقنية كأداة لتوسيع نطاق تأثيره دون أن يُخضع محتواه لمتطلبات السطحية والسرعة، كما تُشير الدراسات الحديثة إلى أن المثقفين الذين نجحوا في الحفاظ على تأثيرهم في الفضاء الرقمي هم أولئك الذين طوروا استراتيجيات هجينة تجمع بين العمق النقدي والقدرة على التواصل الفعال عبر المنصات الرقمية.
2) الرهان الثاني يكمن في تطوير نقد ثقافي وفلسفي للخوارزميات ذاتها، المثقف مطالب بفحص الأسس الأيديولوجية والاقتصادية والأخلاقية للأنظمة الخوارزمية التي تُشكل الوعي المعاصر، هذا النقد يجب أن يتجاوز الرفض الرومانسي للتقنية أو السطحي المعمم أو القبول الساذج بها، ليتوجه نحو فهم معمق ونقدي للسلطة الخوارزمية وآليات عملها وتأثيراتها الاجتماعية والثقافية. وتبرز أهمية هذا النقد في سياق ما يُسمى بـ"الاستلاب الرقمي"، حيث يفقد الأفراد قدرتهم على التفكير المستقل ويصبحون محكومين بمنطق الخوارزميات في اختياراتهم الثقافية والفكرية.
3) الرهان الثالث يتعلق بقدرة المثقف على بناء جماعات نقدية في الفضاء الرقمي تقاوم آليات الاستقطاب والسطحية، هذا يتطلب خلق فضاءات رقمية بديلة تُشجع على الحوار العميق والنقاش العلمي المعمق والاستراتيجي، بعيداً عن أدبيات الخوارزميات التجارية. فتجارب عديدة في العالم العربي وبالغرب تُشير إلى إمكانية بناء مجتمعات رقمية نقدية من خلال منصات بديلة، ومجموعات قراءة رقمية، ومساحات حوارية تُدار بمنطق مختلف عن منطق الخوارزميات السائدة.
4) الرهان الرابع يرتبط بدور المثقف في صياغة وتعزيز أخلاقيات رقمية تحمي الكرامة الإنسانية والتنوع الثقافي في مواجهة هيمنة الخوارزميات المُعولمة. وهذا يتطلب نقاشاً فلسفياً وأخلاقياً حول قضايا الخصوصية، وحقوق البيانات، والعدالة الخوارزمية، والتحيزات المُدمجة في الأنظمة الذكية. والمثقف العربي، على وجه الخصوص، مطالب بتطوير رؤية نقدية تأخذ في الاعتبار الخصوصيات الثقافية والقيمية للمجتمعات العربية والإسلامية في مواجهة الهيمنة الثقافية المُضمنة في الأنظمة الخوارزمية المُصممة ضمن مخابر وسياقات غربية.
أمام هذه الرهانات، يحتاج المثقف العربي إلى بناء تصور استراتيجي متعددة الأبعاد والآفاق:
أولاً، استراتيجية التعليم النقدي الرقمي، حيث يقوم المثقف العربي بتطوير برامج ومحتوى تعليمي يُساعد الجمهور على فهم كيفية عمل الخوارزميات وتطوير مهارات نقدية للتعامل معها (وهنا لابد من فتح فضاءات بين المثقفين والمختصين بعالم الرقميات والذكاء الاصطناعي من العرب والمسلمين).
ثانياً، استراتيجية المحتوى الهجين التي تجمع بين العمق الفكري والقدرة على التواصل الفعال في الفضاء الرقمي.
ثالثاً، استراتيجية بناء الشبكات النقدية من خلال التعاون مع مثقفين آخرين ومؤسسات ثقافية ومنظمات المجتمع المدني لخلق تكتلات نقدية قادرة على مواجهة الهيمنة الخوارزمية.
رابعاً، استراتيجية النقد الفلسفي للتقنية من خلال الانخراط في النقاش الفلسفي والأخلاقي حول تأثيرات الذكاء الاصطناعي والخوارزميات على الوجود الإنساني والثقافي.
مستخلص
إن المثقف العربي في زمن الخوارزميات العابرة للثقافات، لا يواجه مجرد تحديات تقنية أو مهنية، بل يواجه تحدياً وجودياً يمس جوهر دوره ووظيفته في المجتمع. والإشكال لم يعد حول ما إذا كان المثقف قادراً على البقاء، بل حول الشكل الجديد الذي يجب أن يتخذه ليظل فاعلاً ومؤثراً، يعني الرهان الحقيقي يكمن في قدرة المثقف على تجاوز ثنائية الرفض أو القبول، نحو موقف نقدي إبداعي يستفيد من الإمكانيات التي تتيحها التقنية الرقمية في خدمة مشروع ثقافي تنويري، مع الحفاظ على الاستقلالية النقدية ومقاومة الاستلاب الرقمي.
إن استعادة المثقف لدوره الفاعل يتطلب تطوير وعي نقدي مزدوج:
1. وعي بآليات عمل الأنظمة الخوارزمية وتأثيراتها الثقافية والاجتماعية،
2. وعي بالاستراتيجيات الممكنة للتكيف الذكي دون الاستلاب.
وهذا يعني بحث عن مثقف جديد، منشغلاً بقضايا مجتمعه، رقمياً في أدواته، نقدياً في منهجه، إبداعياً في استراتيجياته.
لأن أغلب القراءات الاستشرافية تؤكد أن المستقبل لن يكون للمثقف الذي يرفض التقنية ويتحصن في برجه العاجي، ولا للمثقف الذي يستسلم كلياً لسلطة الخوارزميات ويفقد عمقه النقدي، بل للمثقف القادر على خلق توازن إبداعي بين التجذر في التراث النقدي والانفتاح على أدوات العصر، بين العمق الفكري والفعالية التواصلية، بين الاستقلالية والتأثير.
المثقف العربي اليوم مندهش ومصدوم أمام منعطف حضاري حاسم، حيث تتمحور معركته الفكرية حول بناء خطاب نقدي أصيل يستلهم عمقه من الجذور الثقافية والقيمية للمجتمعات العربية والإسلامية، دون أن ينغلق على ذاته أو ينعزل عن التحولات الكونية المعاصرة. إن هذا المشروع النقدي يتجاوز مجرد الاستجابة الدفاعية لهيمنة النماذج الغربية، كما يرفض الانبهار والاندهاش الساذج بالمنجز التقني الذي يفرغ الذات من عمقها الحضاري.
المطلوب هو تأسيس موقف نقدي بنّاء يستثمر الأدوات الرقمية والتجارب العالمية استثماراً واعياً، بما يمكّن من إنتاج نماذج ثقافية رقمية بديلة تحترم التنوع الحضاري، وتصون الكرامة الإنسانية، وتنمّي ملكة التفكير النقدي المستقل. هذا الخيار كإستراتيجية يتطلب تجاوز أزمة الهوية اللغوية والفكرية التي تعاني منها الثقافة العربية في زمن العولمة الرقمية، وإعادة الاعتبار لدور المثقف كفاعل حضاري يُسهم في بناء خطاب معرفي أصيل يتفاعل مع العصر دون أن يذوب فيه.
كما عبر الفيلسوف كارل بوبر في كتابه أسطورة الإطار فإنه: "من أعماق الصدام الثقافي تأتينا أقوى وأمضى الصور للطريقة التي يؤدي بها هذا الصدام بالبشر إلى أن يفكروا تفكيراً نقدياً"، فالرهان الرقمي ليس مجرد تطور تقني، بل هو حدث أنطولوجي ومعرفي وأخلاقي يفرض علينا إعادة تأسيس الفكر النقدي كشرط مبدئي لازدهار المجتمع العربي وتطور الحضارة العربية والإسلامية.
***
مراد غريبي






