قضايا
محمد البطاط: مفهوم الاستشراق عند إدوارد سعيد
إذا كان مفهوم الاستشراق في أبرز وأكثف دلالاته يأتي ليعبر عن قيام مجموعة من الغربيين بدراسة الشرق في لغاته وآدابه وفنونه وعقائده ومجتمعاته ومختلف الجوانب الأخرى من حياة الشرقيين، فإن للمفكر الفلسطيني ذائع الصيت إدوارد سعيد (1935-2003م) مفهومه الخاص الذي ينطلق عبره الى بيان الهيكل العام للمنجز الاستشراقي، إذ يُقدم مجموعة من التوضيحات للإستشراق، يعتمد بعضها على بعض، وتتسم بالترابط، أيسرها وأكثرها قبولاً انه عبارة عن مبحث أكاديمي، فالمستشرق كل من يعمل بالتدريس أو الكتابة أو إجراء البحوث في موضوعات خاصة بالشرق، سواء كان ذلك في مجال الانثروبولوجيا، أي علم الإنسان، أو علم الاجتماع أو التاريخ أو فقه اللغة، وسواء كان ذلك يتصل بجوانب الشرق العامة أو الخاصة (الاستشراق ص44).
ثم ينطلق سعيد الى معنى اعم واشمل يتصل بالتقاليد الأكاديمية للمعنى الأول، وهو ان الاستشراق أسلوب تفكير يقوم على التمييز الوجودي والمعرفي بين ما يسمى "الشرق" وبين ما يُسمى بـــ"الغرب"، وهكذا فقد قَبلَ عدد هائل من الباحثين – من بينهم شعراء وروائيون وفلاسفة وأصحاب نظريات سياسية واقتصاديون ومديرون امبرياليون- التمييزَ الأساسي بين الشرق والغرب بعدّه نقطة انطلاق لوضع نظريات مفصلة وإنشاء ملاحم وكتابة روايات وأوصاف اجتماعية ودراسات سياسية عن الشرق وأهله وعاداتهم وأفكارهم ومصيرهم ...الخ (الاستشراق ص45)، هنا يبرز الاستشراق كمحورية تمايز بين "الأنا" الغربية التي تدفع المستشرقين الى ان يستشعروا التمايز، بمختلف إسقاطاته، إبان سعيهم الى دراسة الشرق والكتابة عنه، أي البحث عن كل ما يختلف عن الأنا، فإذا كانت الأنا مفكرة/متعقلة فإن الآخر سيكون غير ذلك، إذا كانت الأنا متحضرة، فان الآخر سيكون بعيداً عن التحضر وهكذا.
وبناءً على المعنيين السابقين يصل سعيد الى المعنى الثالث، والذي يجعله يموضع الاستشراق في عمق السياسة، فالاستشراق عبارة عن أسلوب غربي للهيمنة على الشرق، حسب تعبيره، وإعادة بنائه، والتسلط عليه، إذ انه وسيلة مهمة لتدبير شؤون الشرق، بل وابتداعه (الاستشراق ص46)، لا يكتفي تحليل سعيد بالتوصيف التقليدي للإستشراق المنبثق من النظر إليه كمجموعة غربيين يقومون بدراسة الشرق وما فيه، إنما يعمد الى إعطاء تراتبية ديناميكية تهدف الى الكشف عن ملابسات العلاقة الجدلية الماثلة بين الشرق والغرب، فالاستشراق من وجهة نظره ليس مجرد دراسة تخصصية تهدف الى الإطلاع ونقل تصورات معينة عما جرى ويجري في طرف آخر من العالم، بمقدار ما يعني ميكانزم لإنشاء معرفة بالآخر متعانقة مع السلطة، أي رغبة الإرادة الغربية في ان تهيمن على الآخر/الشرقي، وبطبيعة الحال ستتصيّر المعرفة الغربية، بالتعاضد مع مختلف الفواعل التي يوظفها الغرب في سعيه الى دراسة الشرق وفرض اسقاطاته عليه، ضرباً من ضروب الدوغما/الجمود الفكري المانعة من الانعتاق من أُسارها للذين يريدون تقديم التفسيرات الموضوعية في قراءاتهم للموضوعات التي يعالجونها، ولهذا يتوصل الى ان "من الأفضل لنا ان نفهم الاستشراق باعتباره مجموعة من القيود والحدود المفروضة على الفكر أكثر من كونه مجرد مذهب إيجابي"(الاستشراق ص99).
ولابد من القول ان مصطلح "الاستشراق" قد شهد الكثير من الجدل بين الناظرين إليه من زاوية ايجابية وبين مخالفيهم؛ تبعاً للفهم الذي يفهم به كل طرف موضوعة الاستشراق، حتى ان المؤتمر التاسع والعشرين للمستشرقين الذي عقد في باريس صيف 1973م، والذي صادف الذكرى المئوية لأول مؤتمر دولي للمستشرقين المجتمعين في المدينة نفسها قرر إلغاء كلمة "الاستشراق" كما ينقل ذلك برنارد لويس في كتابه (مسألة الاستشراق)، وصار تجمع المستشرقين يُطلق عليه (الجمعية الدولية للدراسات الأسيوية وشمال إفريقيا)، وأصبحت مؤتمراته تحمل اسم (مؤتمر العلوم الإنسانية الخاصة بمناطق العالم الإسلامي) ، كما دعا جون اسبوزيتو، العالم الأمريكي وأستاذ الأديان في جامعة جورج تاون الى ان يُطلق على الشخص الغربي المشتغل بشؤون العالم الإسلامي "العالم المتخصص في الإسلام Islamist" بدلاً من ان يُطلق عليه إسم "مستشرق" في ضوء ما ينقل رضوان زيادة في كتابه (سؤال التجديد ص396)، في الجانب الآخر هناك من يعتقد ان قضية نهاية الاستشراق وإلغائه مجرد فكرة طوبائية، وسيظل هناك شرق وغرب، وستظل المعرفة بينهما ملتبسة لا يُؤسسها ولا يبنيها إلا الصراع، ربما يمكن مقاربة المسألة من جهة المضمون، وليس من جهة التسميات، فالإشكالية التي يواجهها مصطلح "الاستشراق" لا تنبع من جوهره كمصطلح، بمقدار ما تنبع من المفاهيم التي لازمته وجعلته يكشف عن أنماط الهيمنة والإنشاء غير الواقعي والضغوطات الدينية وحمولاتها التي صبغت المنجز الاستشراقي، وعلى هذا الأساس إن لم يرافق الاستشراق تغيير في آلية إنتاجه كخطاب، وفي طبيعة العلاقة بين الشرق والغرب ونظر كل طرف الى الآخر، فإن تغيير المسميات لن يغير من تعقيد الأمر شيئاً.
وعلى العموم يمكن القول ان المفهوم العام لمصطلح الاستشراق يحمل جملة من الدلالات:
أولاً: ان فلسفة التوصيف الاستشراقي تقوم على التقسيم الجغرافي، أي قيام مجموعة من الغربيين بدراسة الشرق، وبالتالي لا يعني ان لا يتصف الأوربي، على سبيل المثال، بأنه مستشرق لكونه أضحى مسلماً، كما لا يعني ايضاً ان يوصف الشرقي بالمستشرق لمجرد كونه ليس بمسلم.
ثانياً: على الرغم من نسبية تعبيري "شرق" و"غرب" إلا انه يمكن القول ان الاستشراق يكشف عن توجه من يعيش في غرب الكرة الأرض صوب الجهة الشرقية من لحاظ شروق الشمس.
ثالثا: لا ينحصر الاستشراق في الحضارة الإسلامية، إذ ان الشرق اعم منها بكثير فيشمل الحضارات الهندية والصينية واليابانية الخ...
رابعاً: لا ينحصر الاستشراق بدراسة الجوانب الدينية في حياة المسلمين أو غيرهم، إنما هو أعم من ذلك فيشمل الأديان واللغات والتقاليد والعادات الخ..
***
د. محمد هاشم البطاط






