قضايا

عماد خالد رحمة: الفلسفة والكتابة الإبداعية

جدل التماهي والاندغام في فضاء المعنى

إن الوقوف عند تخوم العلاقة بين الفلسفة والكتابة الإبداعية هو ولوجٌ إلى منطقة شديدة الخصوبة، معتمة ومضيئة في آن، حيث تتشابك أسئلة المعنى مع أنفاس المخيلة، وحيث يتداخل العقل الجدلّي الصارم مع النَفَس الشعري المنفلت من قيود النسق والتعريف. وإذا كانت الفلسفة، في أحد وجوهها، هي السعي الدؤوب إلى القبض على الحقيقة عبر المفهوم والحُجّة، فإن الكتابة الإبداعية – شعراً كانت أو سرداً – هي تمرّد دائم على اكتمال المفاهيم، وهدم صبور لجدران النسق المغلق. وبين هذين القطبين، ينشأ فضاء لا حدّ له، يسع التأمل، والمجاز، والتساؤل، والهدم، والبناء.

إن التداخل والاندغام العميق والرائع حدّ التماهي بين الفلسفة والكتابة الإبداعية لا يمكن النظر إليه بوصفه مجرد مجاورة عابرة بين شكلين من أشكال التعبير، بل هو، في حقيقته، انصهار في جوهر العملية الفكرية نفسها؛ حيث يتحوّل النص الإبداعي إلى نص فلسفي بامتياز حين يُحاور الكينونة، والعدم، والزمن، والمعنى، والغربة، والمطلق، ويصبح النص الفلسفي ضرباً من الإبداع حين يتخفف من صرامته البرهانية، ليمنح المفهوم جسداً لغوياً نابضاً، وصورة موحية، وانفعالاً جماليّاً خفيّاً.

وما الكتابة الإبداعية – في أعماقها البعيدة – سوى موقف أنطولوجي قبل أن تكون فعلاً جمالياً؛ إنها وقوف على حافة العالم، على أرض لا يمكن الاطمئنان لثباتها، إذ هي أرض "تميد" و"رجراجة"، كما عبّر السائل، فلا اليقين العقلي يُقيم فيها طويلاً، ولا المعنى يستقر على حال. وحده المبدع الأصيل، الممسوس بروح التساؤل الفلسفي، القادر على الكتابة في هذا الفضاء الزلق، دون أن يتهاوى في التفاهة، أو ينحسر في تكرار الأشكال المستهلكة.

هنا، في هذه المساحة الروحية العظيمة، يتكشّف سرّ الكتابة التي تنبض بالفلسفة: إنها كتابة تُنصت لما هو خلف الظاهر، لما يتجاوز المباشر، لما لا يقبل الحسم، ولا يرضى بالخاتمة. فكما أن الفيلسوف العظيم هو الذي يظلّ مفتوحاً على السؤال، غير مكتفٍ بالجواب، فإن الكاتب المبدع هو الذي يسكن النص لا ليُغلقه، بل ليظل بابُه مشرعاً لرياح المعنى.

ليست الصرامة المفهومية وحدها ما يصنع الفكر، كما أنّ الجمال الأسلوبي وحده لا يصنع الإبداع. ما يخلقه حقاً هو هذا الاشتباك العميق، الخلاق، المرهق، الذي يجعل الفيلسوف شاعراً بالقوة، والشاعر فيلسوفاً بالفعل؛ فهيدغر، حين يكتب عن الكينونة، يصبح شاعراً على غير قصد، وكافكا، وهو ينسج عوالمه الغرائبية، يمارس أنقى أشكال التفلسف، دونما حاجة إلى جهاز المفاهيم الصارم.

إن قدرة المبدع على الكتابة في العمق، في التنظير غير المباشر، دون أن يسقط في هوة التنظير الجاف، أو يغرق في سطحية التزويق، هي التي تمنحه تلك الهالة الخاصة، حيث تبدو الكلمة مشبعة بقلق المعنى، مشحونة بانتظار السؤال. إنه يكتب في فضاء الخطر، في المنطقة الرمادية بين "القول" و"اللا قول"، بين ما يمكن التعبير عنه وما يظل عصياً، صامتاً، متوارياً خلف اللغة.

والحق أن الفلسفة نفسها لم تَخلُ يوماً من هذا النزوع الإبداعي؛ فأفلاطون كتب حواراته لا كرسائل منطقية، بل كمسرح للحوار الحي، واللاتناهي، والإيرونيا المربكة، ونيتشه هدم المفهوم بجماليات الأسلوب، فجاءت فلسفته ضرباً من الأدب، أو لعله أدبٌ قد تلبّس بروح الفلسفة حتى ذاب فيها. بل لعل الكتابة الإبداعية – شعراً ورواية ومسرحاً – هي التي ورثت اليوم وظيفة الفلسفة الكبرى: أن تقف على حدود المعلوم، أن تشكك في اليقين، أن تفتح المعنى لا أن تغلقه، أن تطرح السؤال لا أن تجيب.

إن الكتابة الحقة، في نهاية الأمر، لا تكون إلا فلسفية بقدر ما هي إبداعية، ولا تكون فلسفية بحق إلا بقدر ما تنفتح على اللامتوقع، على الإيحاء، على المغايرة، على تجاوز منطق التصنيف والنهايات. ولهذا السبب، تظلّ العلاقة بين الفلسفة والكتابة الإبداعية علاقة اندغامٍ وتماهٍ، لا فصام فيها ولا قطيعة، ولا يمكن أن تكون إلا كذلك، ما دام أن الوجود نفسه – وهو موضوعهما الأعمق – لا يقبل الحسم، ولا يعترف بنهاية أخيرة للحقيقة.

ففي هذا الفضاء الذي يتداخل فيه التنظير مع الإبداع، والتجريد مع المجاز، يصبح المبدع الحق هو الفيلسوف الذي يكتب بجمال، والفيلسوف الحق هو المبدع الذي يُفكّر بشغف.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

 

في المثقف اليوم