قضايا

علي عمرون: الدرس الفلسفي في التعليم الثانوي.. خواطر مقتبسة من فلسفة إميل شارتيي

التلاميذ عندنا في التعليم الثانوي لا يعرفون من الفلسفة سور رسمها يتداولون بعض المقالات الجاهزة التي هي اشبه بالمحفوظات، حيث كل شيء جاهز لإرضاء سحر النظرة الأولى وشهوة الامتلاك؛ وكل شيء معد سلفا للانغماس في الملذات السهلة والركون الى رذيلة الكسل، هؤلاء التلاميذ فقدوا ولا شك متعة أكبر مما كانوا سيكتسبونه بقليل من الإرادة والشجاعة والاهتمام والاقبال على دراسة الفلسفة. فعندما نفتقد روح النظام، وعندما نهمش فضيلة احترام العمل، ولا نعرف قيمة الساعات الضائعة وعندما ننشغل بالمديح الزائف والإسراف في تقدير الذات رغم خيباتنا المتكررة فإننا ولا شك نحكم على الفلسفة بالموت. إنه من المؤلم حقا الحجر على تفكير التلميذ وربط الذاكرة بالتكرار وتقليص الذكاء، وتهميش الخيال الذي دائمًا ما يكون بارعًا وطموحًا. على الرغم من ان كل انسان غني جدا بما يملكه من إمكانات وقدرات وما يصنع التلميذ بليد الذهن هو ضعف الإرادة لا الفكر.
ان الصورة التي يتمظهر بها الدرس الفلسفي في مؤسساتنا التعليمية وتلك المقالات المعلبة المتداولة تعكس تجربة ساذجة وايضا قاتلة للعقل وتلك الامتحانات والاسئلة المبتذلة هي من دون شك قاتلة للتفكير الحر مادامت تشتغل على تنمية عادة الميل الى الفعل السهل انها تشل الإرادة وتقتل ملكة النقد. وكل ما هو معتاد في التعليم وسهل يبدو غير إنساني. ولكن لماذا يتم تحميل التلميذ كل إخفاقاتنا؟
المأساة عندنا تبدأ من الاستاذ الذي هو في الغالب لا يقرأ ولا يكتب ولا يفكر ولنتساءل هنا بصدق هل استاذ الفلسفة مثلا في التعليم الثانوي عندنا قرأ لأفلاطون وأدرك ما ترمي اليه محاوراته؟ هل سافر بخياله وتذوق سحر المتن الافلاطوني؟ هل عاد بذاكرته الى سقراط وأبصر تلك العلاقة الحميمية التي تربط الأستاذ بتلميذه؟ هل هو ملم بموقف ارسطو في السياسة والاخلاق؟ هل مرجعيته في ذلك كتاب السياسة لأرسطوطاليس والأخلاق الى نيقوماخوس ام تلك الملصقات والبطاقات والقوالب الجاهزة؟ هل الأستاذ عندنا يقرأ لجون لوك ودافيد هيوم وعلى دراية بكتاب مبادئ الفلسفة لديكارت او تأملات ميتافيزيقية؟ كيف لأستاذ الفلسفة عندنا ان يشرح لتلامذته مواقف الغزالي وابن رشد وكانط وهيجل...وهو لم يقرأ بعضا من نصوص هؤلاء الفلاسفة العظماء؟ إن أولئك الذين لديهم الفضول الكافي لقراءة أفلاطون، أي متابعة سقراط في منعطفاته وتعرجاته، سوف يندهشون في البداية من هذه الطرق العظيمة التي تؤدي إلى الحكمة وسيحصلون ولا شك على غذاء العقل.
نعم من المؤلم حقا ان ترى وتسمع لصنف من الاساتذة يعيشون في عالم افتراضي سجناء مقيدون يتعايشون داخل كهف لا يرون الا الضلال وافقهم المعرفي محدود واذا ما أردت ان تحرر احدهم من قيوده تجد بضاعته المعرفية مغشوشة وفاسدة وان شئت انظر الى صفحات التواصل الاجتماعي وما يدون هؤلاء من خربشات سيرتد اليك بصرك خاسئا وهو حسير من قبح وهول ما رأى لغة ركيكة ومواضيع مبتذلة سطحية ومنهج عقيم في الطرح والرد فترى الواحد من هؤلاء يهرف بما لا يعرف ينقل بدون سند ويدعي بدون دليل اقلب الصفحات واستمر في التصفح لن تجد في نهاية بحثك الا أستاذا بالاسم يرتدي قميص إمام فقي ومتفيقه يفتي لغيره بدون علم لا يقرأ ..لا يسأل ...لا يسافر بخياله ..ارادته معطلة مشحونة برغبات دونكيشوتية يصارع طواحين الهواء وفي احسن الأحوال تراه يجلس هناك بدون حركة في منزلة بين المنزليتين منزلة التلميذ الكسول الذي اسدل اذنيه واغمض عينيه فهو لا يسمع ولايرى ومنزلة نافخ الكير يحرق ثيابك ويسمم بدنك ويؤذيك في بصرك وسمعك وعقلك.
المأساة عندنا تبدأ من المفتش حيث تحول بعضهم الى ما يشبه الدركي “يأتي للتأكد من أن المعلم قد أعد درسه وعليه ان يقدم الوثائق التي تثبت ذلك. مهنة ولا شك تجعل المرء غبيا وجاهلا. هذا دون استثناء. أعلم أن العديد من المفتشين يظهرون حماسة رائعة. لكن هذا لا يمنحهم أي ذكاء. نأسف لقول ذلك، لكن يجب أن يقال أن أي درس لا يقرأ فيه التلميذ أو يكتب هو درس ضائع. يجب أن نقول لهؤلاء الثرثارين سينتهي بهم الأمر إلى جعل مهنة التعليم صعبة بالفعل ومستحيلة، علاوة على ذلك هم لا يعرفونها"
وأسوأ ما في الأمر ان يتحول المفتش عندنا الى ظاهرة من ظواهر عالم الاشياء محكوم بحتمية التكرار عاجز على ان يحرك نفسه بنفسه او يوقف حركته عاطل عن الحركة وبعض المفتشين الذي يشكلون حالة الاستثناء يجدون انفسهم في وضعية سيزيف يحملون صخرة التدرجات على اكتافهم ويسيرون بها في شعاب ومسالك الفقر ومدن الملح ويصعدون بها جبالا صخورها حادة لا قمم لها ثم تهوي بهم فيسقط الواحد منهم في مهاوي الابتذال والاجترار فمثله هؤلاء كمثل من أتاه الله علما لكن فضل الجلوس الى موائد السلطان والسمع والطاعة لولي النعمة المتفرد بالرأي المتعالي على المكان و الزمان.
ان " المفتش الذي يجلس في الفصل الدراسي كما هو الحال في المسرح يريد أن يسمع درسا جيدا، أو أحد تلك الحوارات المنظمة التي يلقي فيها تليمذان أو ثلاثة إجابات إلزامية يتم تحديد مضمونها وتوقيتها مسبقا. فعل من شأنه ان يفسد الفطرة السليمة لا ينبغي للمفتش أن يستمع أبدا إلى المعلم، ولكن يجب أن يستفسر فقط عما يعرفه التلاميذ. فإذا اضطررت إلى الحكم على فصل يتعلم فيه التلاميذ البيانو، فإنني ولا شك أود أن أسمع الى التلاميذ وليس المعلم"
المأساة عندنا تتجلى في التلميذ الذي سرقت طفولته وافسدته الأسرة وكبله المجتمع بأكذوبة التعليم السهل والنجاح المضمون واقع مضحك مبكي يتحول فيه التلميذ الى رهينة لشهوات ونزوات صناع الإخفاق ومعلمي الفشل. المعرفة الفلسفية عنده تبنى على اعتقادات ساذجة واراء ويقينيات لا مجال للتفكير فيها تبدأ وتنتهي مع بعض المقالات التي تقوم على مسلمة السرد فهي أقرب الى الحكايات الشعبية وعلى حتمية التكرار وتقديس الذاكرة تحارب كل جديد حيث يشتغل حراس المعبد على منع التجديد وغرس قصص وروايات خرافية حول الأستاذ الأسطورة وعلى التلميذ ان يؤمن بها ويصدقها دون تحليل او نقد.
تجاوز العوائق
يمكننا ان نستلهم من فلسفة اميل شارتيه ما يعيننا على إعادة بناء الدرس الفلسفي في التعليم الثانوي بوجه عام والتفكير في غرس الروح العلمية والفلسفية لدى تلميذ المرحلة الابتدائية بوجه خاص فالممارسة الفلسفية عنده تقوم على مسلمة ان الروح مثل اللوغوس تتجلى من خلال نشاطها وانه يجب دعمها من قبل الإرادة فهناك دائما علاقة وثيقة بين الإرادة الحرة وفعل التفلسف وبين إدراك الذات والعالم الخارجي والممارسة الأخلاقية فلسفة تربوية عقلانية من حيث المنهج ونقدية من حيث المضمون ورواقية من حيث الغاية .
في كتابه (اقوال في التربية) يعلمنا (الان) ان الدرس الفلسفي في جوهره تربية على التفكير النقدي الحر والأخطاء التي نقف عليها عندما نستمع الى التلميذ او نصحح له لا تعود الى نقص العقل وانما نقص في إرادة التعلم وغلبة الاهواء فجميع التلاميذ اذكياء متى أرادوا والأستاذ لا يجب النظر اليه على انه خبير في تلقين المعارف بل خبير في الانفعالات يشحذ الهمم من خلال تقدير الجهود وغرس إرادة التعلم والكتاب هو الوسيط الأساسي للحصول عليها من خلال قراءة النصوص الفلسفية المكتوبة ومن خلال الرجوع الى مؤلفين كبار ومن خلال جمل فلسفية مختصرة اكثر ثراء وعمقا فلا يمكن ان يحدث تقدم في الدرس الفلسفي بدون اعجاب واجلال دع التلاميذ يستمعون إلى الأشياء الجميلة، مثل الموسيقى وسماع بيتهوفن ، ذلك هو التأمل الأول. ... دعهم يرون رسومات دافينشي، مايكل أنجلو، رافائيل؛ دعهم يتعلمون اللغة من قبل المؤلفين العظماء، وليس غير ذلك. من خلال أضيق وأغنى وأعمق الجمل، وليس من خلال هراء دليل المقالات الجاهزة. لا يوجد تقدم لأي تلميذ في العالم، لا فيما يسمعه ولا فيما يراه، ولكن فقط فيما يفعله.
- نريد من خلال الدرس الفلسفي أن يشعر التلميذ بجهله الشديد، وبعده الشديد، ونقصه الشديد، وصغره الشديد، نريده أن يساعد نفسه على النظام الإنساني؛ أن يتعلم الاحترام، لأن الاحترام يجعلنا عظماء لا صغاراً. دعه يتصور الطموح العظيم، والعزم العظيم، من خلال التواضع العظيم. دعه يضبط نفسه ويصنع نفسه؛ فليجتهد دائماً، وليتسلق دائماً. ليتعلم الأمور السهلة بالطريقة الصعبة.
- التعلم يقتضي الشدة فهو عمل جدي يجب فصله عن التسلية واللعب والعظمة تبدأ من بناء دروس فلسفية ونظام امتحانات تغرس في التلميذ الانضباط والصرامة اما التيسير بدعوى ترغيب التلميذ وارضاء الاسرة فهي دعوة للكسل ولا أحد ينقذ نفسه من خلال كمال الاخرين بل باكتشاف اخطائه الخاصة وتصحيحها.
- الدرس الفلسفي يبنى في كل الأحوال من خلال الرجوع إلى المصدر والشرب من جوف اليد، وليس من كأس مستعار. خذ دائمًا الفكرة كما صاغها المبدع؛ ودائما ما تكون الأفضلية لما هو جميل على ما هو حقيقي؛ لأن الذوق هو الذي ينير الحكم دائمًا. الأفضل من ذلك، اختر الأقدم ...إن الجمال هو علامة الحقيقة، والوجود الأول للحقيقة في كل إنسان، فنحن نعرف الانسان في نصوص الفلاسفة وفي قصص موليير وشكسبير وبلزاك وفي اشعار المتنبي، وليس في أي ملخص لعلم النفس.
- أفضل ما في العلم هو ما هو أقدم، وأكثر رسوخًا، وأكثر دراية للجميع من خلال الممارسة. إن الخطأ ذو العواقب الجسيمة هو أن نرغب في تعليم التلاميذ من خلال تلخيص أحدث الخلافات بين علماء الفيزياء مثلا.
- إن الواجب الأول للديمقراطية هو العودة إلى المتخلفين، وهم كثيرون؛ لأن النخبة التي لا تقوم بتعليم الشعب هي أكثر ظلماً بحسب المثل الديمقراطي من الشخص الغني الذي يجمع إيجاراته وقسائمه.
- إن جميع وسائل العقل موجودة في اللغة؛ ومن لم يفكر في اللغة فإنه لم يفكر إطلاقا. وبناء على هذه الفكرة، فإننا نفهم بسهولة أن الروح لن تظهر لشخص يعرف لغة واحدة فقط.
- مستقبلنا كله يعتمد على التعليم؛ والتعليم يعتمد على الرسم. فلا شيء يجعلنا نعرف طبيعة الطفل وشخصيته أفضل من الرسم.. الطفل في اللحظة التي يرسم فيها، يصبح سيد يده... لقد لوحظ أن أفضل التلاميذ في المدرسة الابتدائية يرسمون ويحسبون جيدا.
- لقد لاحظت أنه في الثكنات انهم لا يشرح فقط بأسلوب واضح ماهية البندقية؛ ولكن كل شخص مدعو إلى تفكيك البندقية وإعادة تجميعها... هذه الفعل لاوجود له في فصولنا، ربما لأن الاستاذ معجب بنفسه اثناء التحدث؛ ربما لأن حياته المهنية كلها تعتمد على هذه الموهبة التي يبديها للتحدث بمفرده لفترة طويلة.
- يحدث أن المعلمين، وخاصة الشباب منهم، يستمتعون بالخطاب؛ والطلاب ليسوا أقل سعادة بالاستماع؛ إنها خدعة الكسل. ولكن لا أحد يتعلم من خلال الاستماع؛ إننا نتعلم من خلال القراءة...... ومن هنا أعود إلى فكرتي، وهي أننا يجب أن نساعد الطفل، ونرشده ونعيده، وأنه من خلال هذا سوف نتمكن في النهاية من إخراج فكره الخاص، وهو شيء نادر.... أن تكتب، ليس بسرعة، بل على العكس، بحذر النقاش؛ أرسم هوامش جميلة على دفتر جميل؛ نسخ الصيغ الكاملة والمتوازنة والجميلة، هذا هو العمل السعيد والمرن، الذي يصنع العش للفكرة. هناك جمباز الكتابة، الذي يظهر في الشكل والمخطط، والذي يعد علامة على الثقافة
- يجب أن تتغلغل الروح العلمية في كل مكان؛ لا أقول العلم، بل الروح العلمية؛ لأن العلم يشكل كتلة ساحقة؛ وأعماله الأخيرة، عن الضوء، والكهرباء، وحركة الجسيمات، تفترض حسابات معقدة وتجارب خارجة عن المألوف تمامًا؛ ومن الواضح تمامًا أن الأبحاث المتعلقة بالراديوم غير قادرة حتى الآن على تسليط الضوء على العقول الشابة التي ليس لديها الوقت الكافي للدراسة.
- كنت أمارس هذا الأمر مع الشباب، فأسأل على سبيل المثال: "الرواية هي مرآة نحملها على طول الطريق؛ من قال ذلك وأين؟ أو: "أبحث لي عن قول أفلاطون، أبحث لي عما يقوله أرسطو عن المرأة والحاجة إلى الطاع سيكون الأمر مجرد القفز وفتح الكتاب دون تردد ووضع إصبعك على الشيء. لا أريد أية ملاحظات أو بطاقات فهرس أو أدلة؛ لأنه من الضروري القراءة وإعادة القراءة، وأخيراً التعرف على الصفحات الشهيرة .....
- عندما أقرأ هوميروس، أكون في صحبة الشاعر، وفي صحبة يوليسيس وأخيل، وفي صحبة حشد من الذين قرأوا هذه القصائد، وفي صحبة حشد من الذين سمعوا فقط اسم الشاعر. فيهم جميعاً وفي داخلي أصنع الرنين البشري، وأسمع خطوات الإنسان.
***
علي عمرون

 

في المثقف اليوم