قضايا

عبد الأمير الركابي: الظاهرة المجتمعيه من التشكل الى التحلل (1-2)

عاش الغرب والعالم على مدى يقارب الثلاثة قرون، افتاحية انتقالية آليه انهت العصر الطويل من الانتاجية اليدوية ومترتباتها، ومايتناسب مع طبيعتها على المستويات كافة، وفي مقدمها المجتمعية، ومع الانقلابيه الشامله الالية والممتدة على مستوى المعمورة، لم يحظ الانقلاب المشار اليه بالتقييم اللازم المطابق كحدث مفصلي وانقلابي شامل ونوعي، في حين اضطلع الغرب نفسه بحكم انبجاس الالة بين تضاعيفه بالمهمه المنوه عنها، معتبرا نفسه جديرا بالتوفر على الاسباب التقييميه الضرورية للحظة، بينما كانت الظروف وقتها بصالح ميله الانفرادي وتميزه، مادام العالم ببقية مواضعه الاخرى مايزال خارج مفعول الانقلابة الحاصلة، تلك التي وضعت الغرب بما تسببت فيه من تسريع غير عادي للاليات المجتمعية والعقلية منها، بموقع الغلبة نموذجا وطريقة ادراك.
واليوم اذا ماجرى النظر الى الافتتاحية الانقلابية الالية، فان مايلفت النظر في اشتراطات والسياقات التي ادت اليها ورافقتها حتى الان، تظل تؤشر الى مجموعة عوامل كان من طبيعتها كما وجدت، ان تضع الانقلاب المستجد في حال من القصور وجوانب النقص التوهمي، من اهمها الجانب الموضوعي الذي يحصر التحقق الالي ضمن موضع بعينه من الكرة الارضية دون غيرها، مولدا حالا من اللاتساوي، وحيازة الغلبة القاهرة من قبل موقع دون سواه، مع توفر اسباب الامتداد والهيمنه التغلبية، استنادا لما قد صار متوفرا له من قدرات وامكانات غير عادية.
هذا في الوقت الذي لم يطرا على البال، ولا كان واردا التساؤل حول الغرب وهل هو مؤهل وقادر على التفاعل الضروري مع الحدث الحاصل بين تضاعيفة، وهل اذا تسنى له ان يكون الاول في مجال التعرف على الاله، فانه لابد ان يكون وبالحتم، كفوءا بما يتعلق بالتعرف الضروري على بعد الحدث الحاصل ومنطوياته الكونية الفعليه، ام ان هذا الطور من التاريخ البشري المجتمعي محكوم بان يمر بفترة افتتاح وطور ابتدائي اولي ومتدن على مستوى الادراكية الضرورية واللازمه، وان مايمكن توقعه من الحقبة مدار البحث، هو مجرد عتبه ذاهبه بالانقلابية المستجده الى الاكتمال اللاحق، بعد ان يكون مرورها قد وفر الاسباب والمعطيات اللازمة، وما هو ضروري من الشروط لبلوغ المسار الانتقالي كماهو مهيأ لكي يبلغه؟
هنالابد من اخذ المشروع الغربي المعاصر الموكول الى الانقلابيه الاليه بنظر الاعتبار، باعتباره هو الاخر محطة ابتداء، ليس من شانها، ولاهي منطوية حتما على مايدل على التحولية الحاصلة بكمال عناصرها، ومع النمطية المجتمعية الغربية الارضوية وازدواجها الطبقي كينونة، يكون من الاقرب للمنطق ان ياتي ماقد انتجته اللحظة مدار البحث ـ وهو مايبقى ساريا الى اليوم ـ من قبيل التوهمية والنظر الاني الموكول لنوع مجتمعي غير متناسب مع، ولايتطابق فعالية مع نوع وطبيعه الحدث الانقلابي الحاصل ونوعه وادواته، وبالدرجة الاولى افاق انقلابيته التاريخيه المجتمعية، ونوعها، خارج التعديل والتحسين، او الثورة الانتقالية داخل النوع المجتمعي ذاته، بامل الذهاب الى الحقيقة المتعدية للمجتمعية القائمه، فالاله لها نمط ونوع مجتمعيتها، مثلما كان لليدوية الانتاجية صنف مجتمعيتها الغالبة، وهذا من حيث الجوهر ماهو واقع اليوم.
ومع المخالفة غير المالوفة والخطرة لما معدود بمثابة ثابته نهائية غير خاضعه للمراجعه ولا النقاش، فان اللزوم يقتضي اعادة النظر في الظاهرة المجتمعية من زاوية اذا ماكانت معطى ابديا ثابتا، ام انها مثلها مثل كل ماموجود في الكون والطبيعية، ظاهرة يسري عليها قانون الوجود والفناء، او التحول، الامر المنطقي مع مايفترض من ترسيم تصيري لهذا العالم الوجودي الحي، بدءا من تشكله الاول وسيرورته التفاعلية الصائرة نموا الى الاعلى تقدما واكتمالا، وصولا الى ماينبغي افتراض يلوغه عند نقطة بعينها من المسار المذكور خارج الاعتقادية البديهوية الاعتيادية التي لاترى للمسار المجتمعي ومعه البشري مادته، اي احتمالية غير المعاشه، بلا نهاية، فالتشكلية والانطلاق الاول البدئي، ليس له في الذهن البشري احتمالية تحللية لاحقة، هي لحظة انقضاء الصلاحية، مع افتراض احتمالية التبادلية والتعاقب بافتراض افراز الظاهرة الراهنه مايعقبها من شكل مجتمعية ونوع حيوي اخر.
ومن اهم مايطالعنا لهذه الجهه موضوع الوسيلة المتداخلة مع نوع الوجود المجتمعي عندما تحل اليدوية وسيلة للانتاج، في صيغة مجتمعية هي بالاحرى وتلخيصا (التجمع + انتاج الغذاء) بعد وعلى انقاض طور (الصيد واللقاط)، ومن الواضح مدى الصله بين الحاجة الجسدية الاساس التي تتشكل المجتمعية الاولى في غمرتها وتلبية لها، مع القدر غير العادي من التماثل بيئيا ويدويا، وهما العنصران الرئيسان الطبيعيان، اللذان منهما ومن تفاعليتهما يتولد المبتنى المجتمعي، النوع والنمطية، حيث الغلبة الجسدية ومحركاتها الحاجاتية على العقل لدرجه اخضاعه لمقتضياتها، وهو ما يظل مستمرا مادامت الفعالية اليدوية مستمرة.
فاذا انتقلت المجتمعات الى العنصر الثالث الالة، واقحم على البنية الثنائية ( بيئة + كائن بشري) والتي هي العامل الحاسم التكويني البنيوي المجتمعي على مدى الطور الاول اليدوي، فان المجتمعية تكون وقتها قد بدات الانتقال الى طور مجتمعي اخر عناصره الاساس( بيئة + كائن بشري + آله)، وليس الى حالة "تقدم" ضمن المجتمعية الاولى كما قد كرس الغرب الاعتقاد بخصوص الانقلابيه الالية، مستغلا صيغتها الاولى الافتتاحية "المصنعية" ومعتبرا اياها الصيغة الاخيرة والانتهاء، مدللا بالمناسبة على قصورية ادراكية جوهر للحدث الانقلابي المستجد وحقيقته النوعية، بفعل العجز عن تبين، ناهيك عن ادراك تحوليته وعدم نهائيته النوعية، مع شكله المصنعي الاول.
فالالة ليست المصنع او قوة البخار، او حتى الكهرباء، ولا الدفقة الاولى من الانقلاب المترافق مع بدء الاصطراعية المتاتية عن اقتحام عنصر من صنف وطبيعة اخرى للعملية التفاعلية المجتمعية الاولى ومتبقياتها، من خارجها مختلف عنها نوعا وطبيعة، الامر الذي يلقي باثره على الظاهرة المجتمعية الموروثة كما هي بنيويا من جهه، وعلى الاله العنصر الاصطراعي التفاعلي نفسها، مامن شانه احداث عملية جديدة من التشكل، تترافق مع حالة موازية من التحلل المطرد، تظل تصيب المجتمعية بصيغتها الاولى اليدوية، فاذا بالاله تتحول بالاصطراع، الى التكنولوجيا الانتاجية الحالية، ثم التكنولوجيا العليا المنتظره والموشكه على الانبجاس من هنا فصاعدا، مهيئة الاسباب لتشكل المجتمعية الاخرى، العقلية مافوق الارضية الجسدية، تلك التي كانت ممكنه ومتلائمه مع الطور اليدوي.
عجز الغرب الحديث عن ان يدرك الطبيعة التحولية المجتمعية الالية، والتي تنتهي معها المجتمعية الاولى، فتبدا بالتحلل لصالح المجتمعية العقلية، وهو قد عجز بالذات امام طبيعة الالة ونوع مفعولها، فاعتبره من قبيل لحظة التقدم المجتمعي من اليدوي الى الالي، في حين ان الاله هي وسيله واداة تحول وانقلاب نوعي مجتمعي، يتولد عنه ماقد تولد من انتقال من (الصيد واللقاط) الى (التجمع + انتاج الغذاء) اي ان الاله هي موشر نهاية المجتمعية الراهنه، لاماقد رافقها من توهمات.
ـ يتبع ـ
***
عبد الأمير الركابي

في المثقف اليوم