قضايا
حاتم حميد محسن: باولو فريري والتحرير عبر التعليم

يُعد الفيلسوف والتربوي باولو فريري Paulo Freire من أبرز المفكرين في نظرية التدريس (البيداغوجيا) والعدالة الاجتماعية. من بين أعماله التي نالت الشهرة هو كتاب نظرية التدريس للمضطهدين، الذي صدرعام 1970 والذي كان لأفكاره صدى في مختلف التخصصات، خاصة في التربية والفلسفة والنظرية النقدية. اتجاه الكاتب في التعليم كان متجذرا في الإلتزام بتحرير الانسان، والتأكيد على الحاجة لتمكين المظلومين وتحدّي أنظمة الهيمنة. كان إرث المؤلف بارزاً في الحركات التعليمية التحويلية عبر العالم والتي تأثرت بأفكاره.
وُلد باولو في مدينة ريسيفي البرازيلية عام 1921 وعاش ظروف الفقر والجوع والتهميش أثناء فترة الكساد الكبير. شكّلت حياته العائلية المبكرة ضمن الطبقة العاملة فهمه لـ اللامساواة والعلاقات بين السلطة والتعليم. هذه التجربة أصبحت أساسا لعمله اللاحق، حيث نظر للتعليم كأداة فعالة للتغيير الاجتماعي.
تلقّى فريري تدريبا في القانون لكنه بسرعة انتقل الى التعليم والبحث التربوي، حيث عمل بشكل رئيسي مع البرازيليين في الأرياف الفقيرة. عمله المهني المبكر ركز على حملات تعليم الأبجدية للبالغين وهي المبادرة التي تطورت الى فلسفه تعليمية ثورية.
بيداغوجيا المضطهدين
اعتماداً على تجربته في العمل بالمناطق البرازيلية الفقيرة، طوّر فريري نظرية تتحدى الطرق التعليمية التقليدية وتنتقد الهياكل السياسية المجتمعية الواسعة التي تحافظ على اللامساواة والاضطهاد. هو رأى التعليم كوسيلة لإيقاظ الوعي، الذي بدوره يمكّن المظلوم من تحدّي ظروفه وتحويلها. في جوهر بيداغوجيا فريري نجد نداءً للفعل، واعتبار التعليم كممارسة للحرية يجب ان توقظ المضطهد وتشعره بقدرته على التحول. هو يجادل بان التعليم لا يجب فقط ان يكون ناقلا للمعرفة وانما يجب ان يغرس الوعي النقدي الذي يمكّن المظلوم للتصرف ضد اللاعدالة. في عمل كهذا، يصبح التعليم فعلا تحريريا يتحدى القدرية والسلبية التي تكرسها أنظمة القمع في أوساط المهمشين.
كتاب بيداغوجيا المضطهدين كُتب عندما كان الكاتب في منفاه السياسي في شيلي بين عامي 1964-1969 بعد انقلاب المجلس العسكري وتسلّمه السلطة في البرازيل، فكان أهم مساهماته في نظرية التعليم. الكتاب يستطلع ديناميكيات الاضطهاد ويجادل بان التعليم يجب ان يكون فعلا للتحرير وليس تدجينا. لهذا فان مفهوم فريري لتغيير الوعي يُعد اساسياً. تغيير الوعي conscientisation هو العملية التي يصبح بها الفرد واعيا بالقوى الهيكلية التي تقمعه ويكون قادرا على تغيير تلك الهياكل. وبطريقة اخرى، انها العملية التي بواسطتها يفهم الافراد الوقائع المجتمعية- السياسية لعالمهم، وبهذا يتخذون خطوات لتغييرها.
هذه الفلسفة لاقت صدى خاصا في سياقات ما بعد الاستعمار، حيث الانظمة التعليمية غالبا ما تعكس الافكار الاستعمارية للقوة والمعرفة. أعمال فيريري أصبحت نهجا لحركات التحرير في افريقيا وامريكا اللاتينية وغيرها، حيث أثّرت في الاصلاحات التعليمية لتفكيك الهياكل الاستعمارية.
نموذج فيريري التعليمي اختلف بشدة عن طرق التعليم التقليدية التي انتقدها واعتبرها كنموذج "تعليم مصرفي" فيه يُعامل الطلاب كوعاء فارغ يودع فيه المعلم المعرفة، وبهذا يحافظ على استمرارية أنظمة اللامساواة عبر كبح التفكير النقدي. في هذه العلاقات، يكون الطلاب سلبيين، يقبلون المعرفة كحقيقة ثابتة تأتي من الأعلى الى الأسفل ولا تشجع الاّ نادرا على السؤال او الانخراط النقدي مع المادة. يرى فيريري هذه الديناميكية انعكاس للهياكل التنظيمية للمجتمع القمعي، حيث يتعلم المضطهدون القبول بظروفهم دون سؤال: انقسام المدرس- الطالب يعكس هذه العلاقة بين المظلوم والظالم، فيه يسيطر المعلمون على تدفق المعرفة كالمستبدين، ينكرون على الطلاب فرصة ان يصبحوا افرادا نشطين في تعليم انفسهم.
مقابل هذا، يفترض فريري نموذج "تعليم مثير للمشكلة"، يحطم الحواجز الهيراركية بين المدرس والطالب. هنا، المدرس ليس صاحب معرفة فائقة، وانما متعلم مشارك ينخرط في حوار مع الطلاب. هذا الاتجاه الحواري يهدف الى خلق بيئة تعليمية اكثر مساواة، حيث تُبنى المعرفة بالتعاون. عبر الانخراط في حوار نقدي، يشارك كل من المدرس والطالب في رحلة مشتركة من الإكتشاف، يفكران في تجربتهما المُعاشة ويحققان في القوى السوشيوسياسية المؤطرة لواقعهم. هنا التعليم ليس نقلا لمحتوى ثابت بعيد عن السؤال، وانما هو عملية من الاستنطاق. في هذا النموذج، يصبح التعليم عملية استفسار متبادل يُشجع فيها الطلاب على السؤال والانخراط نقديا مع العالم الذي حولهم. هذا التأكيد على الحوار مرتبط بعمق بجذور الكاتب الفلسفية في الوجودية والماركسية.
كتاب بيداغوجيا المضطهدين يدعو القرّاء لإعادة التفكير بالغرض من التعليم في المجتمعات التي تسودها اللامساواة، مجادلا ان التعليم ليس فقط اداة للحراك الاجتماعي وانما قوة للتحرير الجمعي ايضا. في رؤية فريري، التعليم هو فعل تحدّي ضد القمع مرسخا وعيا نقديا وطارحا أساسا لإنعتاق الانسان.
واجه الكتاب عدد من الانتقادات. البعض يرى ان انقسام المظلوم-الظالم لفريري هو شديد التبسيط، يتجاهل تعقيدية العلاقات الاجتماعية في السياقات الليبرالية. آخرون يثيرون اسئلة حول التطبيقية الميدانية لأفكاره خاصة في أنظمة التعليم الرسمي وما تتطلبه من مناهج صارمة وتقييمات نمطية لا تترك مساحة لذلك النوع من الحوار المفتوح للتفكير. الحوار والتفكير النقدي يمكن ان يكونا عائقا للتنفيذ في بيئات ذات وقت محدود وموارد محدودة. كذلك، نقده لهياكل السلطة تأثّر بالماركسية وعُرض بايديولوجية شديدة، تعزل اولئك الذين خارج الاطر اليسارية.
بيداغوجيا للتحرير
بيداغوجيا لأجل التحرير لفيراري صدر عام 1987، بالاشتراك مع ايرا شور استمر بتعميق عمله المبكر. في كتابه، يتحول الاهتمام من النظرية الى التطبيق، مركزا على الكيفية التي يمكن ان يساهم بها التعليم بقوة في تحرير كل من المضطهد ومربيه. مع ذلك تبقى فلسفة فيريري متأسسة على عقيدته بان التعليم لا يجب ان يكون ناقلا سلبيا للمعرفة وانما عملية تشاركية ديناميكية تعمل على تمكين الوعي النقدي.
في جوهر بيداغوجيا التحرير فكرة ان التعليم هو فعل سياسي. فيريري يتحدى الفكرة بان التعليم يمكن ان يكون محايدا. في أنظمة التعليم التقليدي، المدرسون عادة يرغبون التمسك بوهم الحيادية، معتبرين أنفسهم كسلطة موضوعية. مع ذلك، يجادل فيريري بان مثل هذا الموقف يديم ديناميكية السلطة القائمة ويعزز الوضع الراهن. لذا لكي ينجز المعلمون تحريرا حقيقيا، يجب عليهم الاعتراف بولائهم السياسي وبالطبيعة السياسية المتأصلة في ممارساتهم. يدعو فيراري المعلمين ليصبحوا "عمال ثقافيين"، يفككون الهياكل القمعية من خلال التعليم. العلاقات بين المربي والطالب يُعاد تصوّرها كتشاركية يفكر فيها كلا الطرفين نقديا حول تجاربهما والعالم الذي حولهما. يصر فيريري على ان هذه المعاملة بالمثل لا تُضعف دور المربي وانما تغيّره، تسمح للمربي بتسهيل التعليم الذي يشجع على التفكير النقدي والوعي الاجتماعي.
تتأسس بيداغوجيا التحرير على نقد فيريري المبكر للنموذج المصرفي للتعليم. فيريري وشور يدعوان مرة اخرى الى اتجاه "حواري" يركز فيه التعليم على المحادثة والتعلم المتبادل.
لكن مفهوم فيريري لـ "praxis" او التطبيق العملي هو أساسي في هذا العمل اللاحق. يرى فيريري ان التطبيق العملي يجمع بين كل من التفكير والفعل. هو يجادل بان التعليم يجب ان يستلزم التفكير الذي يقود الى اجراءات ملموسة تتحدى القمع. لا يكفي فهم ألية القمع، حيث ان المربي والطلاب يجب ان يعملوا جنبا الى جنب لتغيير واقعهم الاجتماعي. هذا الاتجاه يربط التعليم مباشرة بالنشاط، ويقترح ان التعليم لا يكتمل مالم يؤد الى جهود ملموسة نحو التحرير الاجتماعي.
وبينما يقدم بيداغوجيا التحرير رؤية قوية لتعليم تشاركي تحرري، هو ايضا لم يسلم من النقد. النقاد مرة اخرى يرون ان اتجاه فريري مثالي عندما يطبق على ظروف التعليم الرسمي المقيّد بمنهج صارم وانظمة تقييم رسمية. كذلك، ربما يُنظر الى وصف فريري للموقف السياسي للمربي كتحدي للحيادية في بعض الانظمة التعليمية، خاصة في الديموقراطيات الليبرالية. مع ذلك، يبقى هذا الكتاب مساهمة قيّمة وهامة لنظرية التعليم، خاصة في سياقات يُنظر اليها كأداة للعدالة الاجتماعية. مرة اخرى، يركز فيريري على الطبيعة السياسية للتدريس وأهمية الحوار في صفوف الدراسة وهو الذي كان له صدى واسعا في الحركات المعاصرة لإنهاء الاستعمار وتفكيك انظمة المعرفة القمعية.
بيداغوجيا التحرير يبقى نصا محرضا على التفكير الذي يستدعي ادة تفكير راديكالية في العملية التعليمية. اصرار فريري على الطبيعة السياسية للتدريس والتعليم يتحدى وهم الحيادية، مجادلا ان المربين والطلاب يرون انفسهم كمشاركين نشطين في خلق المعرفة والتحول المجتمعي. من خلال مفهوم praxis، يؤكد فيراري على وجوب ان يتبنّى التعليم عملا هادفا لتفكيك انظمة القمع.
وعلى الرغم من الانتقادات لمثالية الكتاب والتحديات التطبيقية، يستمر بيداغوجيا التحرير في إثارة المربين الملتزمين بالعدالة الاجتماعية، عارضاً رؤية يكون فيها التعليم ليس فقط ناقلا للمعلومات وانما منشغلاً في الصراع الاكبر لأجل الحرية الانسانية والمساواة.
التزام فيريري بالتعليم الحواري التحولي كان له تأثيرا مستمرا، وان افكاره جرى احتضانها من جانب المربين والنشطاء ومنظمي الجاليات وفلاسفة العدالة الاجتماعية في جميع انحاء العالم.
بعد ان أمضى حياته في تعزيز التعليم للفقراء في العالم، توفي فيريري على اثر سكتة قلبية في عام 1997 في ساوباولو. لكن عمله يستمر بإثارة اولئك الباحثين عن خلق عالم أكثر مساواة من خلال قوة التفكير النقدي والفعل الجماعي. اليوم، تبقى أفكاره مرادفة للتعليم كفعل للحرية، مجسدة الأمل بان المعرفة والحوار يمكن ان يقودان لإنعتاق بشري حقيقي.
***
حاتم حميد محسن