قضايا
عبد السلام فاروق: القوة الناعمة.. سر البَهاء المَفقود ومِفتاح الغد المعلق!

في غمرة التحولات الاجتماعية والسياسية التي تشهدها المنطقة، يطفو على السطح سؤال جوهري: كيف يمكن للقوة الناعمة أن تعيد تشكيل الهوية، وتصنع وعيًا جمعيًا قادرًا على تجاوز التحديات؟ هذا السؤال كان حاضرًا بقوة في أولى جلسات اللجنة المشكلة لبحث مستقبل الإعلام والدراما المصرية، برئاسة وزير الثقافة الدكتور أحمد فؤاد هنو، والتي التقى أعضاءها مؤخرا السيد رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي، في خطوة تقرأ كمحاولة لاستعادة بريق "الرسالة الثقافية" التي طالما تميزت بها مصر.
الدراما.. ماء الوجه وسر الهوية
لا يمكن فصل الحديث عن الدراما المصرية عن تاريخها العريق الذي شكل وعي أجيال، من "رصيف نمرة 5" إلى "ليالي الحلمية"، حيث كانت الشاشة الصغيرة مساحةً لطرح الأسئلة الساخنة، وتشريح الواقع بجرأة، دون أن تفقد روحها الفنية. اليوم، حاول هذا اللقاء الرسمي أن يستعيد تلك الروح، لكن في سياق مختلف؛ فالعالم لم يعد يحتمل الخطابات المباشرة، والجمهور صار أكثر اغترابا وانقساما بفعل ثورة المنصات الرقمية. ما الذي يمكن أن تعنيه "إعادة صياغة الشخصية المصرية" في ظل هذا المشهد المعقد؟
اللجنة، كما أشار رئيس الوزراء، تسعى إلى وضع خطة عشرية تستند إلى دراسة تأثيرات الدراما خلال العقدين الماضيين. ربما يكون هذا التوقيت مناسبًا لمراجعة حقيقية؛ فالفجوة بين إرث الدراما الذهبي وبين ما يعرض ليست سرًا. فبينما قدمت السنوات الأخيرة أعمالًا جريئة مثل "أوان الورد" التي ناقشت قضايا الريف بعمق، أو "الاختيار" الذي مزج بين التشويق والخطاب الوطني، لا تزال هناك شكوى متكررة من سيطرة "الكوميديا السريعة" والمسلسلات التي تلهث وراء الإثارة على حساب المضمون.
إحدى الإشكاليات التي تثيرها مثل هذه المبادرات هي العلاقة بين التوجه الاستراتيجي للدولة وبين حرية الإبداع. فحين يعلن رئيس الوزراء أن الحكومة مستعدة لدعم الأعمال "الهادفة"، يبرز سؤال عن معنى "الهدف" هنا: هل هو تعزيز القيم الاجتماعية، أم ترسيخ رواية سياسية محددة؟ التاريخ يخبرنا أن أفضل الأعمال الفنية هي تلك التي ولدت من رحم المبدع الحر، لا من توجيه بيروقراطي. فلو كان "المصير" ليوسف شاهين – الذي ناقش سيرة ابن رشد في مواجهة التطرف – قد خضع لـ "خطة عشرية"، هل كان سيصل إلى نفس العمق؟
الاجتماع أشار إلى ضرورة "خلق نماذج درامية تصبح قدوة للأجيال"، وهنا تكمن مفارقة؛ فالنماذج الأكثر تأثيرًا في الدراما المصرية كانت شخصيات معقدة، تحمل تناقضاتها الإنسانية، مثل "حمادة" في "ضمير أبلة حكمت"، أو "علي عبدالعال" في "الراية البيضا". القدوة لا تُصنع بالخطابات المثالية، بل بالحكايات التي تلامس الواقع بصدق.
اللافت أن اللجنة طرحت فكرة استخدام الدراما للترويج السياحي، مستندة إلى تجارب دول أخرى. الفكرة ليست جديدة؛ فمسلسل "صاحب السعادة" القديم كان بوابةً للتعريف بمعالم الإسكندرية، لكن الخطر يكمن في تحويل الدراما إلى "دليل سياحي" يُفقدها روحها كفن. السياحة الحقيقية التي يمكن أن تصنعها الدراما ليست تلك التي تظهر المعابد والفنادق فحسب، بل تلك التي تبيع "الروح المصرية" بمزاجها المتفرد، وحكاياتها الشعبية، وتناقضاتها الإنسانية.
في خضم الحديث عن الدراما التلفزيونية، طُرح ضرورة الاهتمام بالمسرح والثقافة عمومًا. هذه النقطة بالذات تستحق التوقف؛ فالمسرح كان دائمًا المختبر الحقيقي للأفكار الجريئة، ومنه انطلقت نجومية كثير من المبدعين. إهماله يعني حرمان الدراما من مصدر حيوي لتجديد الدماء. كما أن الثقافة لا تقتصر على "الدراما الهادفة"، بل تشمل الأدب، والموسيقى، وحتى الفنون الشعبية التي تذوب فيها الهوية المصرية.
النهاية.. أو البداية
الحديث عن خطة عشرية يبعث على التفاؤل، لكن التجارب تحذرنا من أن الخطط الثقافية الطموحة كثيرًا ما تتحول إلى أوراق تناقش في المؤتمرات، ثم تتراجع أمام أول اختبار. التحدي الحقيقي ليس في وضع التصورات، بل في آليات التنفيذ: كيف سيتم دعم المبدعين الشباب دون شروط تخنق إبداعهم؟ كيف تقاس "الهوية المصرية" في الأعمال الفنية؟ وهل ستتحمل الدولة نقدًا قد يوجهه عمل درامي لسياساتها، حتى لو كان "هادفًا"؟
اللجنة أمام مهمة شائكة: أن تلتقط الخيط بين ماضي الدراما العريق ومستقبلها المجهول، دون أن تقع في فخ الحنين إلى الماضي، أو الانبهار بالتكنولوجيا على حساب المضمون. النجاح لن يأتي إلا بشرطين: الأول، أن تتحول التوصيات إلى سياسات ملموسة، كتخفيض الضرائب على الأعمال الجادة، أو دعم دور العرض المستقلة. والثاني، أن تظل الدولة "حاضنة" للإبداع، لا "وصية" عليه.
في النهاية، تبقى مصر كـ"الجوهرة" التي تتحدى الصدأ ببريقها.. بريق صنعته دراما أذهلت العالم، وسرد أسس لوعي أمة.. فكيف نعيد لهذه الجوهرة رونقها الجذاب، وهي تتأرجح بين ثقل التراث وصخب الحاضر؟
لن تنتصر القوة الناعمة إلا إذا أدركنا أن الدراما الناجحة ليست تلك التي تجمل الواقع، بل التي تغوص في أعماقه.. تترك الجراح مكشوفة، لتنبت منها زهرة الأمل.. مصر التي نشتاق إليها ليست تلك التي تركب "الزمان" بحلي الماضي، بل تلك التي تحمل في يدها مفتاح الغد.. مفتاح من نحاس صنعته أساطير الأمس، وينتظر أصابع الأطفال ليفتحوا به أبوابًا لم نعرفها بعد..
هكذا تصنع الأمم أحلامها .. بالقلب أولًا، ثم بالعقل..!
***
د. عبد السلام فاروق