قضايا

عدي عدنان البلداوي: التقنية الرقمية ومشروع تمكين المجتمع العربي ثقافياً

التطور العلمي موجود قبل هذا القرن، لكن ما يميزه اليوم هو أن عصر التقنية أتاح مخرجات ومنتجات التطور الصناعي والتقني للجميع، فصار بمقدور الجميع على اختلاف إمكاناتهم المادية أن يقتنوا هذه الأجهزة والتطبيقات وأدوات الاتصال والتواصل. موضوعة الاتصال والتواصل قديمة منذ بدأ الإنسان يتعرف إلى الطبيعة والمجتمع وعمل على تطويرها، لكن ما يميزها اليوم هو ان التطور العلمي عمل على تمكين الجميع من استخدام هذه التقنية المتطورة حتى وان كانوا لا يعرفون شيئاً عن علم الحاسبات أو علم الاتصالات، وهيأ بذلك مساحة كبيرة جداً للاستخدام تضمنت وفرة في المعلومات وتدفقاً هائلاً للبيانات وسرعة في الوصول إلى الخبر والمعلومة وحرية في التعبير وحرية في النشر. مما لا شك فيه ان مساحة الاستخدام الكبيرة هذه تحتوي على محتوى ضخم وبالتأكيد لا يخلو هذا المحتوى من مادة جيدة ومادة رديئة ومن خير وشر، وهذه الثنائية قديمة قدم وجود الإنسان على الأرض لكن ما يميزها اليوم هو ان الصراع يجري بعيداً عن محور الإنسانية.

الإنسانية هدف الثقافة، والثقافة مشروع إنساني في المجتمع، لذلك فالتعريف الثقافي الذي يقول إن الثقافة هي ذلك العطاء وذلك الإبداع الذي يقدّمه المثقف للمجتمع، لم يعد كافياً في اعتقادي. بل ينبغي أن تصبح الثقافة هي ذلك العطاء الذي يقدمه المثقف للمجتمع من اجل تمكين المجتمع ثقافياً.

بدون هذه العبارة – تمكين المجتمع ثقافيا – إذا قارنا بين زماننا وبين الماضي، نجد مثلاً في عصر الجاهلية شعراء مبدعين وخطباء مفوهين، لكن المجتمع في ذلك الوقت لم يكن متمكنا ثقافياً، كما إن مجتمعنا اليوم هو مجتمع غير متمكن ثقافياً. الفارق بين الزمنين هو ان الثقافة المعاصرة استفادت من التطور التقني ووظفته لصالح العطاء الذي يقدمه المثقف للمجتمع، فصرنا نجد عنوانات كثيرة للكتب، وأسماء كثيرة لمؤلفين وكتّاب. توسعت حركة النشر، وتنوعت المحاضرات الثقافية وكثرت الندوات والمؤتمرات، وصار بمقدور عدد من الأشخاص المتباعدين عن بعضهم جغرافياً ان يلتقوا في الوقت نفسه في محاضرة الكترونية، كما انتشر الكتاب الالكتروني والكتاب المجاني على مواقع الانترنت. كل هذا ولا تزال الثقافة العربية غير متطورة بما يكفي لمواكبة التطور العلمي التقني المتسارع، واذا كان بعض المثقفين اليوم يُعدّ هذا تطوراً ثقافياً فإني لا اتفق معهم، لأن هذا التطور هو تطور تقني بإمتياز استفادت منه الثقافة.

لكي تتطور الثقافة من المهم جداً لها أن تمر من خلال علم الإنسان – الإنثروبولوجيا - لإشتغاله على دراسة كل ما له علاقة بطبيعة الانسان والمجتمع في الجوانب الحياتية والثقافية واللغوية والاجتماعية.

علاقة الإنسان بالآلة علاقة قديمة تعود إلى ملايين السنين. كانت هذه العلاقة تتحرك في حدود الوجود الطبيعي للإنسان في الحياة، لكن هذا المفهوم تغيّر في عصر التقنية بعد التطور العلمي والتطور الصناعي ودخول الأنانية على خط الإنتاج الصناعي، فتضررت الطبيعة وتعقدت الحياة وازدادت احتياجات الناس، فصارت علاقة الإنسان بالآلة علاقة يراها المشتغلون في هذا المجال إنها وصلت حد تدخل الآلة في حياة الإنسان، وذهب فريق أخر إلى أن التقنية اليوم تتحكم في مصير الإنسان، وحمل القلق بعضهم على التصريح بأن مستقبل عصر التقنية الرقمية سيقضي على إنسانية الإنسان حيث يتحول الإنسان إلى كتلة بشرية فاقدة لمعنى الإنسانية، وتتحول المجتمعات إلى تجمعات فاقدة لمعنى المجتمع، ويتحول العالم الى آلة ميكانيكية متحركة فاقدة لمعنى الحياة , ويشمل هذا القلق الثقافة أيضاً، إذ تتحول إلى مظهر حياتي بينما هي جوهر الحياة وهذا القلق يشمل المثقف والمواطن. فالتطور التقني لم يتوقف عند الخدمات التي يقدمها للمثقف في إتمام بحثه وإعداد كتابه من وفرة وتنوع وتعدد في المصادر إلى تنضيد الكتاب ثم طبعه ونشره، وغيرها من هذه الخدمات الرائعة، فمشاريع الذكاء الإصطناعي تذهب إلى توفير تطبيقات ذكية تصل قدراتها إلى تأليف الكتاب وكتابة الشعر، فهناك تطبيق يمكن من خلاله اعداد كتاب كامل بمجرد ان يقوم المستخدم بترشيح عنوان للكتاب واختيار المباحث او عدد الفصول وعدد الصفحات التي يريدها. وخلال وقت قصير جداً يقدم له التطبيق الذكي كتاباً جاهزاً. سيتسبب هذا العمل في المستقبل في ظهور عدد من المثقفين الرقميين الذين يعرّفون انفسهم من خلال الوسط الثقافي في مجتمعهم وسيتسبب هذا النشاط في ظهور حالات الشك في مصداقية العمل الثقافي المقدّم من قبل الباحث أو الكاتب، ومع كل هذا يبقى الرهان على الإبداع، لأن الإبداع عطاء انساني لا آلي. وهنا تأتي اهمية صناعة وعي ثقافي في المجتمع يعدّه ذاتياً للتمييز بين المثقف المبدع والمثقف المبتدع.

يقسم العطاء الانساني الى نوعين: نوع يًراد منه ان يعرف الناس عن فلان انه شاعر او كاتب او عالم او.. فقط. ونوع ثاني يراد منه تدريب الناس على ممارسة التجربة الابداعية لصاحب العطاء لكي يكونوا مبدعين واصحاب عطاءات منتجة تخدم رقي المجتمع. نحن اليوم بحاجة ملحة الى النوع الثاني من العطاء الإنساني، ويأتي تحقيق ذلك من خلال المفهوم الانثروبولوجي للثقافة حيث الثقافة هي دراسة طريقة حياة الناس وكيف يتعاملون فيما بينهم للبحث عن السبل الآمنة لتطوير تلك الطرق الحياتية بما يحفظ للمجتمع طبيعته وهويته.

في عصر التقنية حيث وفرة البيانات والمعلومات وسهولة الحصول عليها وسرعة الوصول اليها وتوفر الاجهزة ووسائل التواصل التي تخدم ذلك مع ما يمر به المواطن العربي من تغيير في انماط الحياة وطرق العيش وازدياد الحاجة الى المال، لم يعد امامه متسع من الوقت يكفيه للتفكير والتأمل والقراءة، واصبحت التقنية المتطورة هي عالمه وهي مصدر ثقافته وهي ذاكرته، وربما لا ابتعد عن الصواب اذا قلت انها صارت العقل الذي يفكر به، فإذا ما علمنا ان غالبية الشباب العربي اليوم يعتمد اعتماداً كلياً على الانترنت في استحصال المعلومة والخبر وان الشبكة العنكبوتية صارت مرجعيته ومصدره، فإننا معنيون بدراسة طريقة الحياة هذه، لأن عصر التقنية لم يقف، ولن يقف عند حدود التطور التقني الذي يوفر للمستخدم ما يريده من معلومات واخبار ومن رصيد ثقافي، فهناك مشاريع تعمل على ان يتشكل تفكير المستخدم وتتشكل شخصيته من خلال ما يستخدمه من تطبيقات وبرامجيات واتصالات والعاب وبرامج علمية واجتماعية وثقافية وسياسية وتجارية و.. وهذا المحتوى كما اسلفنا لا يخلو من المتضادين - الخير والشر - ولأن الجيل الجديد يعتمد كلياً على الانترنت في تكوين تصوراته فسيصاب بالحيرة حين يرى تضارباً في الآراء وتبايناً ملحوظاً في المعلومات، وهذه الحيرة ستسبب له فقدان الثقة بالمصادر وبالتالي سيتهدد بناء شخصيته، ولأنه لا يجد مشروعاً آخر يعتمد عليه فإنه سيتحول الى مستهلك لا يقوى على شيء، وقد يصبح كل عطائه الذي يشعر من خلاله انه على قيد الوجود هو مقدار ما ينفقه من مال في السوق وكمية وانواع الحاجيات التي يشتراها والاطعمة الجديدة التي يجربها لأول مرة والاخبار الغريبة التي يشاهدها. لذلك أرى ان من بين الجهود الثقافية التي ينبغي بذلها في مواجهة هذا القلق وربما الخطر هو استخدام التطور التقني في مشروع الثقافة الانساني فمسؤولية المثقف اليوم هي اكبر من مجرد تقديم انتاجاته الأدبية والفنية للناس بنشرها على الانترنت وتوفيرها مجاناً من اجل تمكين اكبر عدد ممكن من القراء والمشاهدين لأجل فائدتهم وتعريفهم بتلك الجهود. مطلوب من المثقف اليوم دور اكبر من ذلك اجده متجسداً في قول الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد في قصديته التي كتبها في رثاء الشاعر محمد مهدي الجواهري:

علمتني مذ شراييني برت قلمي

كيف الأديب يلاقي موته حربا

وكيف يجعل منا اعصابه نذراً

حيناً وحيناً نذوراً كلما وجبا

فالمرحلة الحالية هي مرحلة “ النذور”. يذهب خبراء التقنية اليوم الى ان مستقبل التطور التقني الرقمي سيتسبب في عدم قدرة الناس على التمييز بين ما هو حقيقي وما هو مزيف، بين ما هو صح وما هو خطأ. بين ما هو عقلاني وما هو انفعالي. بين ما هو ابداع صادق وما هو تقليد متقن لإبداع الغير. بالاضافة الى ان هناك تقنيات ذكية تخدم هذا القلق المرتقب تُستخدم اليوم على انها تطبيقات تقنية هدفها التسلية واللعب لكنها يمكن ان تتحول الى سلاح خطير يهدد مرجعية الجيل القادم الثقافية والمعرفية والتاريخية فتقنية “ التزييف العميق “ مثلاً يمكنها ان تقدم آراءً وافكاراً واقوالاً وحكماً وفتاوى مزيفة وغير حقيقية أو مفبركة أو حقيقة لكن تم اعادة هيكلتها بواسطة تلك التقنية فحُذف منها كلمة او مقطع او أُضيف اليها كلمة أو مقطع من شأنها تغيير المعنى الحقيقي الذي أرادته الشخصية التاريخية ومثلما استهدفت هذه التقنية الذكية عند إطلاقها أشخاصاً معروفين لأجل إبتزازهم أو التشهير بهم أو الإساءة الى سمعتهم لأغراض تجارية او دعائية او ما شابه، فربما ستستخدم الطريقة نفسها مع شخصيات بارزة عُرف عنها رجاحة التفكير وسلامة الانتاج الثقافي والعلمي من كتب ومقالات وحكم ورسائل عملية وغيرها بحيث يظهر واحدهم عبر تقنية التزييف العميق وهو يقول اليوم عبر هذا التطبيق ما لم يقله في حياته. يخدم هذا التزييف التقني حركة انحراف التاريخ الانساني التي يخدم مشاريع الاقتصاد السياسي والصناعي التي تخطط لإنتاج نظام عالمي غالب على كل الثقافات. ان الحرب اليوم هي حرب الكترونية في تفاصيل الحياة المدنية مثلما هي حرب عسكرية في مواقع القتال وجبهات المواجهة. فالحرب العسكرية تستهدف المقاتلين، والحرب الالكترونية تستهدف المواطنين وفي اعتقادي ان الحرب الالكترونية هي الحرب الأخطر في القرن الحادي والعشرين وان كان النظام العالمي يلوح بحرب عسكرية عالمية فإنني اراها حرباً ثانوية يأتي دورها في إقرار ما تنتجه الحرب الالكترونية ليصحو من سيبقى من الناس حياً على قواعد جديدة ونظم جديدة لا محيص لهم عن الإذعان لها..

***

د. عدي عدنان البلداوي

في المثقف اليوم