أقلام فكرية

غالب المسعودي: الأنوقراطية الزومبي وفلسفة النيوكولونيالية في الألفية الثالثة

تأطير تحديات الهيمنة في القرن الحادي والعشرين

يشهد النظام السياسي العالمي في الألفية الثالثة تحولات عميقة، تبرز فيها أنماط جديدة من السيطرة والهيمنة تتجذر في آليات بنيوية وفلسفية معقدة، متجاوزة الاعتماد الضروري على الاحتلال العسكري المباشر. الهدف هو تحليل العلاقة الجدلية بين ظاهرة أنوقراطيات الزومبي (الأنظمة السياسية التي فقدت فعاليتها الحيوية) وفلسفة النيوكولونيالية التي توفر الغطاء الأيديولوجي والأدوات العملية لاستدامة الهيمنة العالمية. يقوم التحليل على دمج المفاهيم النظرية في علم الأنظمة السياسية المقارن (كالأنظمة الهجينة واختطاف الدولة) مع النقد الفلسفي للأيديولوجيات الحديثة.

 تشريح أنوقراطيات الزومبي

ينبع مصطلح "أنوقراطيات الزومبي" من المفهوم الأوسع لـ "أفكار الزومبي"؛ وهي السياسات أو الأفكار غير الفعالة التي تستمر في البقاء في النظم السياسية بالرغم من إثبات فشلها الواضح في الواقع. هذا الاستمرار يمثل إشكالية عميقة في صنع القرار.

إن الدافع وراء بقاء هذه الأفكار لا يقتصر على "مكائد النخب السياسية" أو الدعاة السياسيين فحسب، بل هو نتاج للعبة معقدة يشارك فيها عدد كبير من الفاعلين، بمن فيهم "المواطنون العاديون".

عند تطبيق هذا المفهوم على النظم السياسية نفسها، فإن أنوقراطية الزومبي هي النظام الذي يحتفظ بالشكل الخارجي والمظاهر الإجرائية للديمقراطية، ولكنه فقد قدرته الجوهرية على إنتاج سياسات ناجعة تخدم المصلحة العامة، وأصبح مجرد جسد سياسي متحرك، ولكنه فاقد للروح.

الأنظمة الهجينة: الإطار المفاهيمي للأنوقراطية

الأدبيات المفاهيمية التي تدرس الأنظمة الهجينة لا تزال حديثة نسبياً، وتشير الدراسات إلى أن البحوث لم تأخذ اهتماماً كافياً بعد لبناء مفهوم مشترك ناضج بين مختلف الباحثين. على الرغم من ذلك، فإن الأنظمة الهجينة، التي تمثل حوالي 22.2% من بلدان العالم، تتميز بوجود درجات متفاوتة من الاستبداد الانتخابي.

الاستبداد الانتخابي: يتسم هذا النمط بوجود انتخابات غير تنافسية أو مُحددة سلفاً، حيث تضمن النخبة الحاكمة بقاءها عبر التحكم في العملية الديمقراطية.

الأنوقراطية: تُوصف بأنها أنظمة مختلطة وغير مستقرة، تجمع صفات استبدادية وديمقراطية، حيث قد توجد هيئات تشريعية تُنتخب عبر تصويت شعبي، لكن انتخابات المناصب فيها تكون غير تنافسية ومحددة سلفاً.

إن الأنظمة الهجينة ليست مجرد أنظمة غير مكتملة ديمقراطياً، بل إن بنيتها المفككة (الأنوقراطية) تجعلها عرضة للاختراق والفساد. يفتقر هذا النوع من الأنظمة إلى الاستقرار الذي يوفره الاستبداد الكلاسيكي وإلى الشرعية والمساءلة التي توفرها الديمقراطية الكاملة، مما يخلق بيئة من الفوضى المدارة والمستدامة التي يتم استغلالها من قبل القوى النيوكولونيالية والشركاء الداخليين.

الأصول الأيديولوجية للنيوكولونيالية

تعتمد النيوكولونيالية في الألفية الثالثة على إطار فلسفي وأيديولوجي معقد يوفر الشرعنة اللازمة للسيطرة غير المباشرة.

تقوم الكولونيالية ورديفتها النيوكولونيالية على مفارقات تنبع من التناقضات الداخلية في الأيديولوجيا الحداثية نفسها. فبينما تؤسس الحداثة مرجعياتها على المفاهيم الإنسانية النبيلة كالحرية والتنوير وحقوق الإنسان والديمقراطية، يشير واقع الحال إلى مجموعة من التناقضات التي أدت إلى صياغة شمولية للوعي الإنساني.

ان القراءة المتعمقة لمشروع الكولونيالية وما بعدياتها تجد أن الغاية الكامنة هي "الحفاظ على الأفق الاستهلاكي". تمحور هذا التحول الفلسفي حول انزلاق "كوجيتو الاستهلاك" ليحل محل "كوجيتو العقل المجرد". هذا التحول يحصر الإنسان في دروب المنفعة والمصلحة البحتة، مقدماً تبريراً هوبزياً للصراع، حيث تتربص الذوات ببعضها البعض تربصاً ذئبياً. وعليه، تجد النيوكولونيالية مبررات وجودها في هذا التركيز المفرط على المنفعة، حيث تعمل على تعديل حركة الإنسان على "عبادة التقدم"، وهو مقصد ضبابي يُستخدم لتبرير الهيمنة.وان التبعية ليست مجرد نتيجة ثانوية للاستغلال، بل هي هدف أيديولوجي محدد. يهدف "كوجيتو الاستهلاك" إلى تحويل المواطنين في أنوقراطيات الزومبي إلى مجرد مستهلكين، لضمان استمرار الطلب على التقدم الغربي ، مما يضمن التبعية المضمونة والهيمنة الثقافية والاقتصادية المستمرة.

 العولمة في الألفية الثالثة وتشرِيع السيطرة

تعتبر العولمة أبرز سمات الألفية الثالثة، وتُصوَّر كـ "قرية كونية". لكن هذا التحدي يحمل عواقب خطيرة، حيث وُصفت العولمة بأنها "حافلة دون سائق"، مما يهدد بآثار سلبية أبرزها فقدان السيادة الوطنية، وعدم الاستقرار، وعدم المساواة. إن العالم الثالث كان وما يزال يعلق الآمال على الدولة كراعٍ لمصالحه، لكن آليات العولمة عملت على تقويض الدور الاقتصادي للدولة، على الرغم من أن دعاة العولمة يبشرون بأنها ستحمل بذور التقدم.

في سياق هذه الهيمنة، تغيرت استراتيجيات السيطرة بعد الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، حيث تم "إعادة تدوير" مناطق العالم التي خرجت منها فلول الكولونيالية عبر توحيد القانون الدولي تحت مظلة المنظمات الأممية. هذا التوحيد، الذي يسمح بهيمنة القوى الكبرى على المشهد الإنساني والاقتصادي والسياسي، هو في الواقع "ضرب من الكولونيالية الجديدة". هذا يؤكد أن النيوكولونيالية لم تعد مجرد ممارسات غير قانونية، بل هي نظام حكم عالمي مؤسس ومشرعن عبر الهياكل الدولية التي تضمن مصالح القوى المهيمنة على حساب سيادة الدول الأضعف.

يرى الكثير من المراقبين أن الفجر الذي وعدت به السوق الحرة الأمريكية دول العالم هو في النهاية فجر كاذب، وإذا استمرت العولمة في مسارها الحالي، فستكون وبالاً ليس على الأقطار النامية وحدها، بل على كامل المنظومة الاقتصادية العالمية. إن الفشل المتوقع لهذا المشروع يمثل آلية لتجريد الدول الضعيفة من قدرتها على المقاومة، مما يمهد الطريق للتدخل النيوكولونيالي باسم إنقاذ الاقتصاد أو إدارة الأزمة.

 الفكر الفلسفي في مواجهة الهيمنة

إن الفلسفة التي تتجاهل الحركة العلمية ولا تتفاعل مع التحولات الكبرى في عصرها محكوم عليها بالجمود التدريجي وبالتالي بالتلاشي. لذا، يفرض القرن الحادي والعشرون على الفلسفة أن تكون "حكمة مؤسسة على المعرفة" تستلهم وتستند إلى علوم ومعارف عصرها.

لمواجهة الهيمنة الأيديولوجية للنيوكولونيالية، يجب أن تتبنى الفلسفة دوراً نقدياً وفعالاً. هذا يتطلب الخروج من الموقف الهيغلي السلبي (بومة منيرفا) الذي يرى أن الفلسفة لا تفرد جناحيها إلا بعد أن يرخي الليل سدوله، مما يمنحها دوراً نظرياً يكتفي بفهم الواقع الذي يسبقها. هذا الموقف هو انصياع للجمود السياسي.

في المقابل، يجب التحول إلى الموقف النقدي الماركسي/الغرامشي، حيث يرى ماركس أن الفلاسفة قصروا دورهم على تفسير العالم بطرق عدة، بينما المهم هو تغييره. يتطلب هذا الموقف خروج الفلسفة من برجها العاجي لـ "تغيير ما هو كائن نحو عالم أقل ظلماً وأكثر عدالة إنسانية". في هذا التحول، ترتدي الفلسفة وجه الأيديولوجيا وتتنكر اليوتوبيا بأقنعة العلم.

 الفساد كجسر للهيمنة

تتجلى العلاقة بين أنوقراطيات الزومبي والنيوكولونيالية في آلية الفساد وهشاشة النظام. الفساد في الأنظمة الهجينة هو سمة هيكلية تضمن تضارب المصالح وإعطاء الأولوية للمصلحة الخاصة على حساب المصلحة الجماعية.

إن اختطاف الدولة يمثل عملية هادفة لإنتاج الهشاشة. هذه البيئة المثالية من الفساد المرتفع وضعف النظم القضائية ووسائل الإعلام الحرة، توفر للنخبة التابعة مساحة للاستثمار في اختطاف الدولة (الفساد المبرمج)، وفي الوقت نفسه، توفر للقوى النيوكولونيالية شريكاً موثوقاً (وإن كان فاسداً) يضمن مصالحها التجارية والسياسية طويلة الأمد. لا يوجد انفصال بين الضعف الداخلي والسيطرة الخارجية؛ بل الفساد هو الجسر البنيوي الذي يربط بينهما، مما يضمن أن الدولة الـ "زومبي" ستظل موالية للمركز العالمي.

 الخلاصة

يُظهر التحليل أن ظاهرة "أنوقراطيات الزومبي" ليست مجرد فشل داخلي في الحكم، بل هي حالة بنيوية ناتجة عن التلاقي المقصود بين الضعف المؤسسي وفلسفة النيوكولونيالية. هذه الفلسفة، المدعومة بأيديولوجيا "كوجيتو الاستهلاك" وتشرعنها المؤسسات الدولية والديون الخارجية، تستغل نقاط الضعف الداخلية لترسيخ السيطرة الاقتصادية والسياسية غير المباشرة.

***

غالب المسعودي

.......................

المصادر

بوحناش، نورة. (2020). في مداخلة للباحثة نورة بوحناش. جريدة النصر

الدواي، عبد الرزاق. (2007). عن ملامح الفكر الفلسفي في مطالع القرن 21. مجلة حكمة

الزبيدي، حسن لطيف كاظم. (2018). العولمة ومستقبل الدور الاقتصادي للدولة في العالم الثالث. شبكة الألوكة

(2023). الفيلسوف والسياسة.. بين اللفياثان والروح الجميلة. مجلة الفيصل، العدد 568

(2023). الأنظمة السياسية الهجينة: مقاربة مفهومية نظري. المجلة الجزائرية للأمن والتنمية

(2024). منظمة أوكسفام تكشف أن النخب الاقتصادية والسياسية. عربي بوست (arabicpost.net)

(2022). النخبة وتأثيرها في تكوين واستقرار المجتمعات وتشكيل نسق الحكم والفكر. (“النخبة وتأثيرها في تكوين واستقرار المجتمعات وتشكيل نسق الحكم والفكر”) ديمقراطيك أكاديمي (democraticac.de)

المصادر الأجنبية/المنظمات الدولية

ASEESTANT. (n.d.). State Capture, Hybrid Regimes, and Security Sector Reform. [المصدر: aseestant.ceon.rs]

IPPA Public Policy. (2019). Zombie Ideas: Why Failed Policy Ideas Persist. [المصدر: ippapublicpolicy.org].

UNODC. (n.d.). Anti-Corruption Module 3 Key Issues. [المصدر: unodc.org].

 

في المثقف اليوم