شهادات ومذكرات
علي حسين: في ذكرى ميلاده.. من لا يُحب سبينوزا
(الحرية لا تمثل خطرا على التقوى أو على سلامة الدولة، بل إن القضاء عليها يؤدي إلى ضياعهما معا).. رسالة في اللاهوت والسياسة
(لإبقاء العقل في الطريق السوي، لا بدّ لنا أن نعيش، ولا بدّ بالتالي أن نضع عدداً من القواعد للسلوك... هي:
1- أن يكون كلامنا في مستوى عامة النّاس، وأن نسلك سلوكاً يروق لهم، ولا يمنعنا من بلوغ هدفنا، فنحن قد نجني من ذلك الكثير، بشرط أن ننزل عند رغباتهم قدر الإمكان، هذا فضلاً عن أنّنا سنجد بهذه الطريقة آذاناً صاغية للحقيقة
2- أن نتمتّع بملذات الدّنيا في حدود ما يُساعد على حفظ الصحّة.
3- ألاّ نرغب في المال، ولا في أيّ خير مادّي آخر، إلا بقدر ما يفيدنا في حفظ حياتنا وصحّتنا، وفي الامتثال لطبائع المجتمع التي لا تناقض هدفنا).. "رسالة في إصلاح العقل"
(الرضى بالذات هو الفرح الناجم عن اعتبار الانسان لقدرته الشخصية على الفعل. لكن قدرة الانسان الحقيقية على الفعل، أفضيلته، هي العقل ذاته. وعليه فان الرضا بالذات يتولد من العقل.. يتفق البشر بطبعهم دائما وبالضرورة، شريطة أن يكون عيشهم على مقتضى العقل).. "علم الاخلاق"
كان في الثامنة من عمره عندما شاهد هذا المنظر الذي دفع به أن يتمرد على النظام الإجتماعي والديني السائد آنذاك..كان المشهد في باحة المعبد اليهودي بأمستردام، حيث أخذ عدد من رجال الدين يطؤون بأقدامهم رجلاً كان ممداً عند مدخل باب المعبد.
فسأل الصبي والده: ماذا فعل هذا الرجل ليتلقى هذا التعذيب والإهانة؟
قال الأب وهو يسحب ابنه خارج المعبد: "إنه أوريل أكوستا.. مفكر حر ياولدي"، ثم أخذ الصبي يسأل والأب يجيب ويشرح لابنه كيف تم طرد أكوستا من المجمع اليهودي، لأنه كان يشكك بما جاء في التوراة، وكيف إن الحاخامات يريدون أن يستأصلوا خطايا أكوستا بالدوس عليه بأقدامهم لكي يتخلص من ذنوبه، ويُسمح له من جديد بدخول المعبد.
عندما عاد الصبي إلى البيت، حاول أن يشرح لأمه كيف تم تعذيب أوكاستا، فنصحته بأن يمسح هذه الافكار من ذهنه، وعندما حاول أن يخبر زملائه في المدرسة عما رآه في المعبد تلقى صفعة من الأستاذ الذي طلب منه أن لايتحدث بسوء عن الدين. بعد أيام سَيخبره والده إن أوكاستا أطلق الرصاص على نفسه، بعد أن سعى رجال الدين لمضايقته وإهانته في كل مكان.
بدأ الصبي يفكر في ذلك العالم الغريب، عالم الحمقى الذي سيسميه فيما بعد، وبدا له أن الإنسان يحاول أن يصيب الإنسان الآخر بأذى.. ولاحظ كيف يكره اليهود بعضهم بعضاً، وكيف طُرد أجداده من إسبانيا بسبب كراهية المسيحيين لليهود، لذلك كتب في دفتر صغير عبارة مثيرة: "عندما أكبر، سأحاول أن أجد وسيلة أضع بها حداً لكره الناس بعضهم بعضاً".
في الرابع والعشرين من تشرين الثاني عام 1632 في امستردام بهولندا جاء طفل لعائلة يهودية ميسورة، قالت عنه أمّه فيما بعد:"طفلي مخلوق حسن النيّة، لكن مستوى ذكائه للأسف أقل من أقرانه، وهو خامل طوال الوقت ""
عاش باروخ سبينوزا في طفولته وصباه حياة عادية، فوالده ميخائيل تاجر ميسور، سعى لأن يتعلّم ابنه في إحدى المدارس الدينية، ويدرس الكتب المقدسة وكتباً دينية وفلسفية، حيث كان الأب يطمح في أن يصبح ابنه حاخاماً، لكنه يخيب ظن الأب ففي الثالثة عشرة من عمره عثر في مكتبة المدرسة على كتاب " التأملات"لرينيه ديكارت، وما أن قرأ الصفحات الاولى حتى وجد نفسه مسحوراً بأفكار الفيلسوف الفرنسي. فيما بعد سَيخبرنا إنه وجد في كتب ديكارت أجوبة لاسئلة كان يطرحها على نفسه حول أهمية العقل في حياة الإنسان:"علمني ديكارت أن أعرف معنى الجديد، ووجدت في توطيد الجديد ما يقضي بدحض القديم، لاينفصل الجديد المعرفي عن الحاضر الذي يقضي بتحرير المعرفة من أزمتها، ويسعى الى اطلاق الامكانيات الانسانية."، عندما يبلغ السابعة عشرة من عمره يقرر سبينوزا أن يضع كتاباً عن ديكارت، ويعلن إن سلطة أفلاطون وأرسطو لاتعني له شيئاً، فهي حسب رأيه لا تلائم تقدم العلم والفلسفة:" أعلم حقيقةً إن هذه الأحكام المسبقة تمنع البشر من التفلسف، واعتقد إن من المفيد أن أقوم بفضح هذه الأحكام، وأن أخلِّص منها العقول المفكرة"، وقد جعلت دراسته لمنهج ديكارت من المستحيل عليه قبول كل عبارات التوراة، وأيضا تفسيرات رجال الدين، حيث بدأ يفكر بعلاقة الانسان بالدين والعلوم بطريقة تخالف ما تعرف عليه في وجهة نظر اليهود والمسيحيين التقليدية، وقد أعلن مواقفه بطريقة صادمة لعائلته، الأمر الذي دفع شقيقته الكبرى، والتي كانت تريد أن تحرمه من إرث والده، أن تبلغ السلطات الدينية اليهودية عن"هرطقات" شقيقها، مما جعل كبير الحاخامات في أمستردام يقرر استمالة سبينوزا الشاب، حيث أبدى استعداده لأن يقدم له معاشاً شهرياً ثابتاً لو إنه احتفظ بآرائه لنفسه، ولم ينشرها بين الناس، غير أن الشاب المتحمس رفض العرض، الأمر الذي دفع الحاخامات الى إصدار قرار بمنع جميع اليهود من أن تكون لهم علاقات معه، وأن لا يقرأوا له شيئاً، وان لا يقتربوا منه، وحاول متعصب يهودي أن يقتله، فطعنه بسكين أحدثت جرحاً عميقاً في جسده، ظل يتذكره في كل مرة يقف فيها ضد تعاليم رجال الدين. وهكذا أصبح وهو في الرابعة والعشرين من عمره منبوذاً، حيث قرر مجلس الحاخامات طرده من الطائفة اليهودية، كما أصبح بلا مورد مالي بعد أن حُرِم من ميراث والده، فامتهن صقل العدسات البصرية، وهي المهنة التي ظل يمارسها حتى وفاته، واضطر أن يغادر مدينته امستردام، وتجول في عدد من المدن، ليستقر أخيراً في مدينة ليدن، حيث يعاوده الحنين إلى الفلسفة التي كرس لها كل حياته، وقرر أن يغير اسمه الى بندكت، كي يبتعد عن ملاحقة رجال الدين، مثلما قرر أن لا ينشر أثناء حياته سوى كتابين، الأول قام بجمعه طلبته وهو يتعلق بفلسفة ديكارت، والثاني "رسالة في اللاهوت والسياسة "، لم يضع اسمه الصريح عليها في بداية الامر لخطورة ما جاء بها من أفكار. وأصبح بمرور الزمن معروفاً في الأوساط الفلسفية، حيث عرضت عليه جامعة هيدلبرغ منصب الاستاذية، لكنه رفض المنصب وأصر على الاستمرار بمهنة صقل العدسات، وقدم له لويس الرابع عشر معاشاً بشرط أن يهديه احد كتبه، فرفض العرض أيضاً، وصمّم أن يستمر بحياته البسيطة التي كانت تؤمن له دخلاً متواضعاً، لكنها تساعده في التعبير عن معتقداته دون تحفظ. وذهب إليه الفيلسوف الالماني"ليبنتز" ليزوره في بيته الصغير، وكان شغوفاً بفلسفته فهو يعترف إنه توصل الى بعض الأفكار الرئيسة لفلسفته الخاصة عندما قرأ سبينوزا، ويكتب ليبنتز وصفاً لسبينوزا قائلاً: "التقيت الاستاذ، كان رجلاً متواضعاً يعيش في مستوى الكفاف، لايملك سوى مكتبة كبيرة وأدوات يصقل بها العدسات، زاهد في الملذات، كان بإمكانه أن يملك كل الوسائل التي تكفل له ثراء هائلاً، لكنه تركها بمحض إرادته، فقد كرس حياته للبحث وراء شيء مختلف "
ولما كان سبينوزا قد ولد ضعيف البنية، وكان في أواخر حياته مجبراً على استنشاق الغبار من صقل العدسات، ونظراً لأن العمل الزائد في دراسته قد أجهده، فقد أصيب بالسل، وتوفي في الحادي والعشرين من شباط 1677 في مدينة لاهاي ولم يتجاوز عمره الـ 45 عاما
يحذرنا إسبينوزا من الخوف الذي تشيعه الخرافة في المجتمعات، ووجد ان مهمة الفيلسوف هي محاربة هذا الخوف الذي اطلق عليه صفة "الخوف الخرافي"، لأنه يسلب الانسان وجوده الحقيقي الذي يليق به في الحياة، واذا كان المعلم ديكارت قد اصصدم بالقيود الدينية وهو يدافع عن حرية الفكر الانساني، فإن أسبينوزا واجه مؤسسات الدين مطالبا بمجتمع انساني حر، مطالباً بإعلاء شأن إله حقيقي يتآلف مع المعرفة والتسامح ولايروّع أحدا، وطالب ايضا بتقصير المسافة بين المتدين العاقل والفيلسوف عن طريق دين يصوغه الفلاسفة، دين ياخذ بمبادئ الأخلاق ويرى الله مرجعاً للفضيلة والإحسان، لا مرجعا للحساب والعقاب ومثلما اشتهر ديكارت بمقولته الفلسفية:"انا افكر اذن انا موجود"، قال إسبينوزا:" انا اعبر عن نفسي بحرية اذن انا موجود"، مصراً على ان ديناً ينهي عن التفكير ويسوغ العبودية والخرافة، لاعلاقة له بالله، ولاضرورة له مطلقاً
ويرى فريدريك كوبلستون في موسوعته عن تاريخ الفلسفة، ان ديكارت يصالح رجال الدين وإسبينوزا يثير الناس ضد رجال الدين وضد الانظمة القائمة، ويعتبر كوبلستون ديكارت محافظاً وإسبينوزا تقدمياً، ويرى أن إسبينوزا يستغل دعوة ديكارت الى تطبيق المنهج العقلي احسن استخدام، فاذا كان ديكارت يرى ان العقل هو العدل، فان إسبينوزا كان يرى ان العقل هو افضل شيء في الوجود، وان خير الانسان هو في كمال العقل.
كان الغرض الثاني من رسالة إسبينوزا " في اللاهوت والسياسة " بعد الغرض الاول الذي كان يدور حول الدين، هو التأكيد على ان حرية التفكير هي شرط لتحقيق الدولة العادلة، اذ يرى إسبينوزا ان حرية الفكر تمثل دعامة للرأي العام، ويرى ان الرأي العام هو الراصد لكل ما يحدث في الدولة، فاذا قضي على حرية الفكر قضي على الراي العام واصبحت الدولة بلا دعامة حقيقية، فنرى الحاكم يفعل مايشاء، وتفعل اجهزة الحكم ما تريد دون محاسبة، لذلك يصر إسبينوزا على ان الدولة يجب ان لاتتدخل في الحريات الفردية، لان ذلك يعرض الدولة للخطر، فالحرية هي حق طبيعي للافراد، وكل فرد حر بطبيعته، وكل فرد هو الضامن لحريته، والدولة هي الممثلة لسلطة الأفراد الذين خولوا لها حقهم بموجب عقد اجتماعي، لذلك لايحق لها سلب الأفراد حريتهم والا تحولت الى نظام ديكتاتوري استبدادي، ينصر البعض ويعادي البعض الاخر، وهو يرى ان مهمة الدولة في وضع التشريعات لضبط افعال البشر، لا اقوالهم او افكارهم، فللمواطن الحق في ان يعبد الله كما يشاء وله الحرية في ان يتصوره كما يريد وان لاتقطع رقاب الناس لمجرد اقوال او تصورات لاتؤمن بها الدولة او القائمين عليها، او تتطابق مع رؤية رجال الدين.
ويلخص إسبينوزا تصوره لحرية الافراد في المبادئ الستة التي وضعها في كتابه "رسالة في اللاهوت والسياسة" وهي:
1- لا يمكن سلب الانسان حرية التفكير والتعبير.
2- لا يهدد الاعتراف بالحرية الفردية هيبة السلطة.
3- لا يمثل التمتع بالحرية الفردية اي خطر على سلامة الدولة.
4- لا تهدد الحريات الإيمان بالأديان.
5- لا تستطيع القوانين تنظيم شؤون الفكر.
6- ضرورة الحرية الفردية للمحافظة على السلام.
يرى إسبينوزا ان النظام الديمقراطي هو النظام الكفيل بحماية الحقوق الطبيعية للافراد في الدولة الديمقراطية وان جميع الناس يتفقون على العمل بارادة مشتركة لكنهم لايتفقون على ان يفكروا بطريقة واحدة، واذا شاء الانسان ان يعيش آمناً راغداً في مجتمع منظم يستهوي بنور العقل ووجب عليه ان يخضع لقواعد العدل ويتجنب الأهواء الظالمة.
وفي اللاهوت والسياسة يضع سبينوزا العقل في مرتبة متقدمة ويكفل له التحرر من كل سلطة، ونجده يخضع لحكم العقل حتى الكتب المقدسة إذ اعتبرها شبيهة بالوثائق التاريخية، وبسبب إيمانه الشديد بالعقل نجده ينكر الخوارق والمعجزات التي جاءت بالتوراة والإنجيل.. وبسبب هذه الاراء الصادمة لوحِق إسبينوزا في حياته ومماته، حيث تمّ حرق كتابة"رسالة في اللاهوت والسياسة"ومنِعت من الطبع، واضطر الناشرون أن يغيروا اسم الكتاب ومؤلفه ليعيدوا طبعه بسبب إقبال الشباب عليه، ولم يقف سخط السلطات الدينية على إسبينوزا في حياته، بل استمر بعد مماته، ففي عام 1880 اقترح أن يقام له تمثال في مدينته امستردام، فاحتج المجمع اليهودي ومعه الكنيسة على المشروع وألقى أحد رجال الدين خطبة أكد فيها إن كارثة ستصيب المدينة لو وضع التمثال بسبب غضب الله وسخطه.
يصر سبينوزا أن يجمع ما لا تقبل به الفلسفة، ولا يقبل بالفلسفة في مصطلح واحد هو"الخرافة"، وهو يقيم فكرة الخرافة على مبدأين أساسيين يوضحهما بقوله:"يولد البشر جميعاً جاهلين بأسباب الظواهر التي يتعاملون معها، وتحكم البشر جميعاً رغبة في البحث عن المفيد، ويخترق الحاجة المفيدة عقل قاصر يلقي بالإنسان في أوهام متعددة، منها أن البشر ليس بمقدورهم أن يديروا أمورهم وفق خطة واعية، ونراه يصر على إرجاع الخرافة الدينية الى الجهل بقوانين الطبيعة وإلى أغراض سياسية، إذ أن كل خطاب ديني حسب رأي إسبينوزا هو خطاب سياسي، غايته الطاعة والخضوع، ويرى إسبينوزا إن الدين الذي يتأسس على الجهل والعبودية ينطوي على حالات كثيرة من التعسف والإرهاب، بسبب إصرار رجال الدين على أنهم يحتكرون الحقيقة لوحدهم، وهو يرى إن ثنائية الجهل والإرهاب الديني تمنع الفيلسوف عن التفلسف، وتقمع كل العقول الحرة التي تتطلع الى المعرفة، ولهذا يمثل الدفاع عن الفلسفة عند إسبينوزا دفاعاً عن حرية التعبير، وهو أيضاً يتحول الى إقامة دولة تنقض الخرافة بالفلسفة، وتستبدل الوعظ الديني، بتسامح المعرفة. وينتهي إسبينوزا الى أمرين ضرورين: الأول ضرورة تحرير الإنسان من سلطة رجال الدين، والثاني ضرورة تحرير الدولة من السلطة الدينية.
كانت وصية سبينوزا للاجيال واضحة وتتلخص في هذه العبارة (لا تَسخَر، لا تَتحسَر، لا تكرَه، بل افهم. إن أسمى نشاط يمكن للإنسان أن يحققه هو التعلم من أجل الفهم، لأن الفهم هو الحرية).
***
علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية






