شهادات ومذكرات

الحسين أخدوش: إبراهيم أوحسين.. الإنسان الشاعر والكاتب الحرّ

(إن الحياة بأسرها نضالٌ، فويلٌ لكل حي يريدُ أن يعيش بلا نضال)... فريدريك نيتشه

أوجعني موتك صديقي العزيز سي إبراهيم! وإذا كنت لم أتخيّل ترجّلك مغادرا الحياة بهذه السرعة، فلأني لم أستوعب بعد هول الصدمة هذه، وأنت الراحل الذي في أوج الشباب والعطاء!؟ نعم..، كان فراقك قاسيا على قلوبنا نحن الذين عشنا معك بضعة أشياء غير ذات بال بالنسبة للكثيرين اليوم، متى علمنا أُفولها في خضم كلّ هذه الانتهازية المستشرية في عوالمنا الراهنة. لذا، كان لزاما أن نتجرّع وجع فراقك المُفزع حقّا؛ إذ إنّ موت الفجأة هذا غير مطاق، وخاصّة بالنسبة لأمثالك الطيّبين الكرماء، الأذكياء من ذوي الفضل، والكرم، والجود. فرحلتك الأبدية هاته إنّما هي في حقيقة أمرها رحيل قبل الأوان؛ فلقد غادرت تاركا الجمل بما حمل، بخصوص مهمّات أساسية للتفكير (الشعر، الأدب، الأعمال الخيرية التطوعية، إلخ)، كنت رافعا لواءها في منطقة سوس بوسط المغرب.

إبراهيم أوحسين.. الإنسان الأصيل الرفيع

هو ذا الأصيل الرفيع دائما، ينتزعه منك القدر انتزاعا، كما لو أنّه من معدن نفيس سرعان ما يتلاشى ويرحل في زمنية تأبى أن تترك المساحات الكافية للفهم. إنّ الله وحده يعلم أسرار هذه الطينة من الناس!

نعم..، غادرنا هذا الإنسان الأصيل الرفيع عن عمر الأربعين ونيّف، وهو العمر الأوج الذي يضيف فيه الإنسان إلى رصيد الحياة أجود ما لديه؛ ولعمري كم كان منتظرًا أن يعطي فقيدنا إبراهيم أوحسين أشياء كثيرة إلى مجالات الثقافة والأدب والفكر، بالنظر إلى ما كان يتحلى به من خصال، وما يقدّمه من تضحيات جليلة في هذا السبيل.

لقد كنت الإنسان الرفيع، ذا القلب الكبير في منطقة أيت ملول: ناظما للشعر ومبدعا للنثر، كاتبا على السجيّة. كنت دارسا ومفكّرا رغما أنف الظروف الصعبة، وبالرغم من أنّك لست "ممن وطئت قدماه الجامعة".  هكذا، كرّست ـ رحمك الله ـ حياتك لمحاولة فهم كيف تُشكلنا ثقافتنا، وتهيكلنا تربيتنا الاجتماعية وتنشئتنا النفسية. ثمّ بيّنت كيف تتناسب تجاربنا المعيشة مع وعينا بما يقع، وأبرزت أنّه طالما نعطي وقتنا كله لهذه الحياة، فلذلك نسلّم لها نفوسنا بلا شعور ولا وعي: أو ليس هذا حال الكثيرين اليوم؟

إبراهيم أوحسين.. ومهمّة الكاتب الحقيقي

كتب إبراهيم أوحسين في مستهل كتابه "البدائي الذي يسكُننا" كلاما دالاٌّ قال فيه: "إنّما الكاتب من لا يشتغل بمنطق المصلح أو التنويري الذي ينتظر نتيجة في سلوك الناس وتفاعلاتهم الاجتماعية، بل يقف عند حدود إلقاء كلمته على المسامع أو مُسطَّرة على ورق، دون انتظار ردّ فعل ـ سلبا أو إيجابا ـ من هنا أو هناك، فذلك يجنّبه بلا شك السقوط في وهدات الغربة الزمنية والمكانية، وفي اعتزالية تتحول مع تراكم الأيام إلى طقس من طقوس الحياة المقدسة" .

يخبرنا هذا القول بقصص عديدة من خيبات الأمل التي تُداهم كتاب عصرهم، وهم غير مفهومين أو غير مُلتفتٍ إليهم. أولئك الكتاب الذين يئسوا من عصرهم الذي جافاهم أو بادلهم بسوء فهم كبير. بخصوص هذه الحالات كتب إبراهيم أوحسين مذكّرا بتجارب مريرة لكتاب كبار لم يُلتفت إليهم ولا استمُع لهم، أمثال: التوحيدي، المعري، ستيوارت تشيس، وآخرون. والظاهر من هذا الأمر، أنّ صاحبنا قد كان مدركا لمأساة الكتابة في زمن التيه والتفاهة حيث نحن اليوم، حيث القلّة القليلة تأخذ المسألة هذه بالجدّية التي تستحقها. ففيروس التفاهة المنتشر عبر المواقع الفعلية والافتراضية معا، قد كشف اللثام عن عدمية نظامنا الاجتماعي الثقافي العام، الذي أصبح الآن خاضعا بصفة كلية للمؤقّت والتسلية الرقمية. ولعلّ هذا التدفق المهول للتفاهة هو يحرمنا فعليا من أن نقرأ أو نسمع لأمثال هذا الكاتب الجاد.

 إبراهيم أوحسين ـ وهو عندنا المنارة التي أبى الموت إلاّ أن يطفئ نورها ـ هو بحقّ واحد من أهمّ الذين استطاعوا إبراز هذه المهمّة الأساس للكتابة والشعر والقصة. وهي المهمّة ذاتها التي جعلها في كتابه "البدائي الذي يسكننا" تنخرط فعليا في سيرورة الإنسان الحياتية، مسكونة بهمّه، ساعية في سبيل جعله أرقى الكائنات الحيّة على وجه البسيطة.  والواقع أنّ من يقرأ أعمال هذا الكاتب سرعان ما سيتأثر بكمية من التدفق السلس للأسلوب ممزوجا بلمسة ناقدة حادّة لما يراه جديرا بالنقد. فإبراهيم أوحسين من طينة الكتاب الأحرار الذين يكتبون كما يشعرون، ويفكرون كما يحسّون دون لفّ ولا دوران. إنّه كاتب على السجية، وكذا يقول لسان حاله وهو ينثر المكتوب نثرا أو نظما للشعر، يصدح بالمكتوب بلا مهادنات في إصداراته المختلفة.

هذه الطريقة في الكتابة تجعل صاحبها يكتب بدمه لا بمداد قلمه كما كان يقول نيتشه، إذ السجيّة وحدّة الإحساس ورهافته، كلّ ذلك يولّد الرغبة في قول كلّ شيء دفعة واحدة؛ فمثل قوة انفجارية، تريد كتابات سي إبراهيم أن تكون، حيث يتخللها الغضب والرفض والتمرد تعبيرا منه عن تمزّق حادّ في كينونته رحمه الله. لقد كان صديقنا المرحوم هذا ملوّحا بيديه دوما وهو يتحدّث أو يناقش، ولأنّه من طينة الذين يفكرون بصوت مرفوع، فإنّي أرى فيه تجسيدا لكلام نيتشه: باسطا ذراعه فوق رأسه؛ هكذا ينبغي على البطل أن يستريح، وهكذا ينبغي عليه أن يتجاوز استراحته أيضا.

فيا صديقي! كم تمنينا أن تكون بجوارنا، ويكون منك الكثير!! نعم، الكثير من تلك الأشياء الفكرية، الشعرية الثائرة الجميلة... ناثرا وناظما ومنظّما لكل شيء ... أمثالك ـ فعلا وقولا ـ هم من ينيرون هذه الدروب المظلمة. وآه! كم كُنتَ قمرا في كثير من الليالي الحالكة! نعم..، هكذا كنت حينها بيننا، أما الآن وقد رحلت، فما لنا إلاّ أن نجعلك حاضرا بيننا!! نعم، حاضرا في سطورك النقدية، حيًّا في إبداعاتك الشعرية والقصصية، الخ. نحن حزينون لفراقك، قلقون في فكرنا، كما كنت قلقا دوما بصدد تراجيديا القيم الجميلة التي كانت تجمعنا معك: المعرفة، الحقيقة، العدالة، الحق، الخ.

هو ذا أنت يا صديقي سي إبراهيم، إنسان إنسانيٌّ جدّا، كاتبٌ يسيرُ نحو المرتفعات حتى وإن خذلتك رداءة اليومي المعيش في يومنا هذا... يداك ممدودتان نحو الضحك كما عهدناك، ومزاجك القويٌّ دائما رغما عن أنف كلّ الظروف، وعيناك المفعمتان بحب الخير..؛ فصعودا أو نزولا، أنت ستكون دائما بيننا، لأنّ كلّ تلك السخرية التي نثرتها بيننا هي التي سنجعلها عربون محبتنا لك.

توفي الكاتب والشاعر إبراهيم أوحسين يوم 12 ماي 2025 رحمه الله موتة مفاجئة، وكان بمثابة الكاتب الحقيقي الذي ألهم العديد من شعراء الجنوب، سواء بشعره العميق أو بأخلاقه الكريمة. أمّا أنا فقد عرفته كاتبا مفكّرا فدا، وإذ كان يفكّر كما كنت أتصوّر التفكير، فقد جعلته من صنف مفكّري الكينونة الذين يكون آخر اهتماماتهم احراز شهادات ونيل ألقابٍ رنّانة زائفة. فرحمة الله تعالى عليك صديقي، أمّا مصيرك السقراطي هذا، فقد جعل ثلّة ممّن يعرفونك حقّ المعرفة يبكون رغما عنهم، تقديرا منهم لروحك الطيبة السخية، ولأعماقك الخصيبة فكرا وشعرا وتخييلا. ولا أقول إلاّ أنّ الكاتب الحقيقي هو حقّا المفكر الحقيقي، أي الإنسان الذي يأخذ روحه معه نحو الأعالي، مهدئا من روعه، مودعا قلبه، ساخرا من كل ما يرى. 

فإلى روحك الطاهرة السلام والرحمة والغفران صديقي، وإنّا لله وإنا اليه راجعون.

***

كتبه الحسين أخدوش / المغرب

في المثقف اليوم