شهادات ومذكرات
علي حسين: سامي زبيدة.. مذاق العراق الذي لا يُنسى

انطلق من حياة عراق الخمسينات، ليُحيط بالمجتمع الشرقي، لا بالدراسات التي اغنى بها المكتبة العربية والغربية فقط، بل بحكايات الطعام التي حاول من خلالها البحث عن علاقة المائدة بالسياسة في شرقنا الاوسطي المضطرب دوماً، إلا ان الشغف بالطعام وذكريات العائلة التي عاشت وسط بغداد، والدولمة التي كانت امه تجيد طبخها لم تنسه ما يجري في هذه البقعة من العالم من صراع سياسي وديني، فهذا العراقي اليهودي المولود في بغداد عام 1937، كان يدرك جيدا ان ثلاث قوى كانت ولا تزال تقف وراء الخراب الذي عم في الشرق الاوسط، الصهيونية، واحزاب القومية العربية، وتيارات الاسلام السياسي .
رحل سامي زبيدة بعد أن اقترب من عامه الـ " 88 "، لم يتوقف عن الكتابة والبحث، يشارك في الندوات التي تسترجع ذكريات العراق المتدثر حاليا في معطف الصراع على السلطة، واحياء النوازع الطائفية، مرة يتحدث عن عشقه للمقام وحكايات الجالغي البغدادي وشغفه بيوسف عمر، ومرة عن الاطباق التي اشتهر بها اهل بلاد الرافدين وجيرانهم، ومرات راصداً لتحولات المجتمع العراقي . كان عنيدا في معارضته للذين يقولون، ان جوهر العراق يكمن في انقساماته الدينية والطائفية، فقد كان يرى ان قيمة العراق الحقيقية تكمن في تاريخه العلماني غير الطائفي .
وصِف بأنه افضل من كتب عن تحولات الاسلام السياسي وصعوده حيث تناول هذه الظاهرة في كتابه "الإسلام.. الدولة والمجتمع" – صدرت نسخته العربية عن دار المدى عام 1995 بترجمة عبد الإله النعيمي -، معتبراً أن ما يكتبه بعض المستشرقين عن الاسباب التي ادت الى صعود التيارات الإسلامية لا يبدو حقيقياً، فهو يرى ان صعود هذه التيارات لا يرتبط فقط بالتوجه الديني، وإنما هناك ممارسات اجتماعية وسياسية لا علاقة لها بالدين ساهمت في صعود هذه التيارات، وقد استكمل مشروعه بكتاب " "أنثروبولوجيّات الإسلام" – صدرت ترجمته عن دار الساقي -، و"الشريعة والسلطة في العالم الإسلامي" – صدرت ترجمته عن دار الكتاب الجديد – وفيهما يواصل مشروعه في دراسة أصول الشريعة الإسلامية وتطورها، والنصوص التي تجسّدت فيها. واكمل مشروعه بكتاب " القانون والقوة في العالم الإسلامي"، ثم كتاب "ما وراء الإسلام: فهم جديد للشرق الأوسط". وكتب في مجال علم الاجتماع السياسي: "العرق والتمييز العنصري في العراق"، و "الأفكار والحركات السياسية في الشرق الأوسط"، وكتاب " الطبق المقدس السلوكيات الفئوية في الشرق الأوسط " – صدر عن دار قناديل - وفيه سلط الضوء على تراث المنطقة ونمط حياتها الثقافي وتقاليدها الشعبية، وكان زبيدة يرى ان الثقافة الشعبية في الشرق الأوسط ثقافة توفيقية متعددة اللغات، ويتراوح تأثير الدين في هذه الثقافة، لكنها قلما يكون رأيها صحيح تجاه أي من الأديان الاخرى، سواء كانت خاصة بالإسلام أو المسيحية أو اليهودية، وأن تعدد ثقافات الشرق الأوسط الحديث، بضمنها الطعام، موروثات للتداخلات التي حدثت نتيجة تعاقب الإمبراطوريات، التي كان أهمها الدولة العثمانية وكان السكان موجودين في الكثير من أراضي الإمبراطورية، وكانت الثقافات متداخلة، ويشمل ذلك تداخل الطعام. واخضع تنوع ثقافة الطهو في الشرق الأوسط إلى العولمة، حاملا معه تأثيرا خاصا، ويخصص زبيدة في هذا الكتاب فصلا عن ثقافة المطبخ العراقية التي تعد في رأيه أقدم من كل ما حوله :" والعراق منذ الأصل غني بسلته الغذائية، وكل ما يجري تصويره بأنه تركي او ايراني او سوري، ما هو في الواقع سوى تقليد صغير لثقافة المطبخ العراقي، وتوجد مصادر كبيرة جدا بهذا الصدد جرى وضع أصولها والتأليف فيها منذ القرن الثالث الهجري فما فوق، أي قبل ظهور الأتراك العثمانيين بألف سنة. العراق فهو منطقة حضرية وامبراطورية، ويعود اصول المطبخ العراقي أو مطبخ بلاد ما بين النهرين إلى السومريين والأكاديين والبابليين والآشوريين. حيث أن بعضاً من الألواح التي وجدت في الآثار القديمة في العراق تظهر وصفات لتحضير الطعام الذي كان يعد في المعابد أثناء الأعياد الدينية وتعتبر هذه الألواح من كتب الطبخ الأولى في العالم العراق القديم، ومتقدمة في جميع ميادين فنون الطهي" .يقول سامي زبيدة :" لقد حاولتُ أن أبيّن أن الثقافة الشعبية في الشرق الأوسط ثقافة توفيقية متعددة اللغات " .
في كتابه الاخير "ما وراء الإسلام: فهم جديد للشرق الأوسط"، يجمع زبيدة مقالات كتبها على مدى مسيرته المهنية يحاول من خلالها "نزع القداسة" عن الشرق الأوسط. والتي يهدف من خلالها الإشارة إلى الأشكال المختلفة للتقاليد والتنظيم الاجتماعي، وتعبيرها في المؤسسات الاجتماعية وأشكال الفن، كما يشير عنوان الكتاب إلى "ما وراء الإسلام". حيث يؤكد زبيدة بأنه من غير المنطقي أن ننظر إلى الطعام والفن والعلم وأنظمة الحكم في جميع دول الشرق الأوسط على أنها إسلامية في جوهرها، كما هو الحال بالنسبة لرؤية تاريخ أوروبا وأمريكا على أنه تاريخ مسيحي في جوهره. وبالتالي، لا ينبغي النظر إلى الإسلام كثقافة وحضارة متميزة تحتاج إلى أن "يفهمها" الغرب. وبدلاً من النظر إلى الإسلام من منظور فرضية صراع الحضارات، أو كنوع من الخصم القديم للحداثة، يشير زبيدة إلى الطرق التي يمتزج بها الإسلام مع الحداثة ويستجيب لها.
في جميع هذا المؤلفات يحلل زبيدة الأحوال التي مر بها العالم الاسلامي من منطلق سوسيولوجيا سياسية عامة، في مقابل هذا الانشغال باحوال العالم الاسلامي والشرق الاوسط نجد سامي زبيدة يفرح كثيرا حين يقال عنه انه امهر من سطر كتب عن حكايات الطعام، الفتى الذي غادر بغداد وهو في السادسة عشر من عمره ليلتحف بـ"جامعة هال" البريطانية لينال منها شهادته الجامعية، ثم حصل على درجة الماجستير من "جامعة ليستر" وساهم مع عدد من الاساتذة البريطانيين في تاسيس قسم السياسة وعلم الاجتماع في كلية بيركبيك بـ"جامعة لندن"، رفض الذهاب الى اسرائيل، كان يرى في هذا الكيان السبب في حرمانه من التجوال في شوارع بغداد . عشق الطبخ ليستعيد ذكريات عائلته، يعترف ان امه كانت السبب وراء شغفه هذا وما كانت تحنويه المائدة التي تعدها من اطباق يتفنن اخل بغداد في صناعتها. ولهذا نجده في كتابه " مذاق الزعتر.. ثقافات الطهي في الشرق الأوسط" الذي كتبه بالتعاون مع ريتشارد تاير – ترجمته الى العربية عبله عودة - يقدّم رؤيته حول كيف أن الطعام لا يُعدّ مجرد وسيلة للبقاء، بل يشكّل علامة ثقافية ودينية ووطنية جوهرية في مختلف أنحاء المنطقة.
تبرز أهمّية "مذاق الزعتر" من كونه صدر في وقت طغت به العولمة على أمور عديدة ومنها الطعام، ممّا أدى إلى ظهور المطابخ الحديثة، وبدلاً من التركيز على الوصفات أو تقنيات الطهي فقط، يستقصي الكتاب كيفية ارتباط ممارسات الطعام بقضايا الهوية، والطبقة، والجندر، والاستعمار، والعولمة. ويرى زبيدة أن "عددا من العناصر والثيمات المشتركة، او التماثلات الثقافية وشكل التنويعات تشكل ثيمات مشتركة، أوضحها وأسهلها، هي تلك التي تخص الثقافة المطبخية: المشاوي، المحاشي، يخنات لحم الغنم بالخضر، المعجنات الحلوة باللوز والفستق " .اما عن علاقة الطعام بالوجدان الشعبي فهو يؤكد أن الطعام يعد علاقة ثقافية بارزة تبرز الحدود الاجتماعية،، ويشير إلى تأثير العولمة على الطعام وتغير طرق الطهي في الشرق الأوسط، ويقول ان "الأمثلة على ذلك كثيرة، ومنها أن كل أنواع الحبوب التي كانت موجودة في الشرق الأوسط مثل الذرة في مصر، والشعير في العراق وإيران، والأرز في جنوب العراق وبعض مناطق القزوين، تم استبدالها جميعاً بالقمح والأرز في السوق العالمية لتكون الغذاء الرئيسي لسكان المنطقة جميعهم، إذ يستعمل الأرز والخبز المصنوع من الطحين الأبيض في جميع الوجبات". ويلفت سامي زبيدة في فصله "الأرز في ثقافة الطهي في الشرق الأوسط"، إلى أن الحدود الجغرافية للبلدان لا تعني بالضبط حدوداً أو فواصل ثقافية "فمثلا نحن لا نستطيع أن نضع العالم العربي كله ضمن ثقافة طهي واحدة متجانسة مختلفة عن ثقافة الطهي في إيران أو تركيا، فالروابط التي تجمع هذه المناطق ليست جهوية فقط بل لها علاقة وثيقة بالطبقات الاجتماعية والدين والبيئة المحيطة، فإذا نظرنا إلى أسلوب الحياة والذي يعد الطهي جزءاً منه بالنسبة للطبقة الراقية في مصر، نجد أنها كانت تتبع أسلوب الطبقة الأرستقراطية العثمانية، وانتقلت بعد ذلك إلى تمثل الأسلوب الأوروبي، أما شيعة المدن العراقية وليس جميع الشيعة وكذلك اليهود فقد تأثروا بالمطبخ الفارسي، بينما تأثر السنة بالمطبخ التركي العثماني مع أنهم جميعا يتحدثون العربية".
نال سامي زبيدة التكريم والاهتمام من بلدان عديدة في العالم، إلا ان بلده العراق استكثر عليه نعي يصدر من جهات ثقافية رسمية ، ظل يردد ان العراق بالنسبة له مصدر للمعرفة، وكما كانت الكتابة الإطار الذي جمعه مع البلد الذي ولد ونشأ فيه، فان التقاليد الشعبية والمجتمعية كانت هي النسيج الذي تتشابك خيوطه بين حياته التي امضى معظمها في بلدان الغرب وسنوات الطفولة والصبا العراقية التي لا تزال راسخة في الذاكرة، حتى قال احد معارفه وهو ينعاه :" ظل سامي زبيدة يسأل عن بغداد بشوق ابنٍ مُنفصل " .
***
علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية