أقلام حرة
شوقي مسلماني: يُمهِل ولا يُهمِل
غنّتْ على المجوز والطبلة والطبل والرباب والعود والناي والشبّابة أو المنجيرة أغنيةً ذاعت في أربع أرجاء المعمورة وسُرَّ أو فرِحَ أو إنطربَ بها الملك والأمير والشيخ والفتى الصغير والطفل الرضيع المقمّط بالسرير. وحكايةُ هذه الأغنية أنّ أحدَهم عشق إحداهنّ عشقاً أين منه عشق قيس لليلى أو عشق جميل لبثينة أو عشق كُثير لعزّة أو عشق عنترة لعبلة أو عشق سلفادور دالي لغالا أو عشق شاه جهان لممتاز محلّ أو عشق روميو لجوليات، وإذا الآباء العذريّون صرّحوا بما يتلاطم في أرواحهم وقلوبهم وصدورهم فإنّ صاحبنا آثرَ الكتمان، وما إنقضتْ أشهر قليلة حتى غلبَ عليه ما هو فيه مِنِ إنحباسٍ وتيه وصارَ عقلُه يلعب به وعيناه تغشّانه، ومثالاً رأى في مرّة طاولة صغيرة ظنّها مأدبة لفرد واحد، جرى إليها لكي يمسك منها بنيانه، وهو قريب رآها لا تعدو أن تكون ذات حبيبته وقد إنحنتْ بوضعيّةٍ رياضيّة تلامس كفّاها الأرض، أصابَه ذعر أنّ يكون قد فكّر بإلتهامها، قالَ لروحه المذعورة وهو يُدبِر: "وإحسبيني يا روحي غولاً، هل سمعتِ يوماً أنّ غولاً أكلَ غولتَه"؟. وفي مرّة إستبدّ به العطش، ورأى جرن ماء طافحاً إلى جمامه يتلألأ في عين الشمس، ركض إليه وفي نيّته أن يفرغه في جوفه، ورأى، وهو عند الجرن، وجهها الذي لم يكن غير وجهه منعكساً في الماء، إندهش فيما هي مندهشة، ظنّ أنّها تستحم وغطست خجِلةً، فرّ مبتعداً أن تكون قد ظنّت به الظنون مثل أن يكون مصاباً بداء البصبصة.
وعلى هذا النحو طولاً وعرضاً حتى أصابَه نحولٌ مهول، وحتى برزتْ عظامُه كأنّه مصاب بداء النحافة _ أنيروكسيا. ونهضتْ له روحُه وهي تكاد مثله تلفظ أنفاسَها الأخيرة وقالت: "يا نور عينيّ، ما ذنبي أنا لأنفقَ إذا أنت تريد أن تنفق؟، وإذا أنت تريد أن تنفق إلى أين من بعدك سأذهب وماذا سيحلّ بي؟، لماذا لا تطلعها على ما فيك؟، فإذا قبلتْ قلْ بلغتَ مرادَك وإذا رفضتْ قلْ كما قال عمر بن أبي ربيعة المخزومي القرشي: "سلام عليها ما أحبّت سلامنا، فإن كرهته فالسلام على أخرى"!. قاطعَها لكي تكفّ عن هذه الثرثرة بكلّ ما أوتي من حياة بعدُ فيه وقال: "لا أظنُّكِ تعتقدين أن الشمسَ هي من إختراعك، ماذا لو صارحتُها وهي صدّتني؟، ماذا إذا روّجت، ولو مِنْ باب التباهي، أنّها حبّوبة، محبوبة، مرغوبة ومطلوبة، أو مِنْ باب المراسلة المُشفَّرة لكي يعلم آخَر هي تحبّه أنّ حديدان ليس وحده في الميدان، ولكي يفوز بها عليه أن يُسرِع إليها؟، أو مِنْ بابِ الكلام بكلام وبلغ عاذلاً إستغلّها فرصة للتشويش والتعريض بي وإستعجل مِنْ حقلٍ إلى حقل ومن بيدر إلى بيدر ومن معلف إلى معلف ومن إسطبل إلى إسطبل متقوّلاً إنّها أنكرتْني لأنّي أشهق وأزفر عوض أن أزفر وأشهق أو لأنّ ذيلي عصعوص _ عصاص _ عصّ _ لا نبريش ماء وإنّ يديَّ وقدميَّ حزوز جبنة "لافاش كي ري" - البقرة الضاحكة - وليستا حوافر أو صخوراً؟، وبأسرع مِمَّا تلتهمُ النارُ في الهشيم سأغدو على كلِّ شفة ولسان، وستقولُ العجائز: "ويله، مَن غشّنا ليس منّا"، وسيتبعني الأولاد في الأزقّة قارعين على التنك وصائحين: "الجاسوسْ أَهُوْ أَهُوْ، الجاسوسْ أَهُوْ أَهُوْ"، وإذّاك، يا روحي، كم سألعنكِ، وكم سألعن الداية التي سحبتْ رأسي، وسأتمنّى من أعمق أعماق قلبي لو تظهر الضبع أمّ عامر وتزلطْني مثلما يتمنّى المنفيّون عن أهلهم وأحبّتهم وأوطانهم لو تنشقّ الارض وتبتلع القومَ الظالمين".
وفيما روحُه تتّهمه بالجنون وهو يتّهمها بالحمرنة وهي ترجوه أن يكفّ عن جنونه وهو يقطّب لها جبينَه إستنكاراً لعقلها الذي لا عقل فيه، أو فيما هي تكاد تفرّ منه وهو يكاد يفرّ منها وإذْ محبوبته مُقبِلة على "الدقّه ونصّ" كأنّها ترقص وتحاذيه مُضيّقةً عليه، ويلمسُ بطنُها العامرُ بطنَه الضامرَ، وتقف تحت أنفه، ويفرك عينيه ويتشمّم عطرها ويقول لذاته: "هذه هي محبوبتي سالبة عقلي ولبّي بجسمِها المنطاد وذراعيها وساقيها الخيطان ويديها وقدميها الكَشَاتْبين"، ويضيف لروحه: "أنظري، إنّها تموت بتلابيبي"!. وعوض أن يناغيها سرعان ما يجافيها ويتأخّر عنها. قالت له روحه وقد أخذتها المفاجأة: "ماذا دهاك؟، إنّها أمامك على طبق من فضّة أو ذهب"!. وأشارَ أن تكفّ عن السخف وقال إنّه سيلفّ وسيدور، وهل حضارة الإنسان إلاّ من اللفّ والدوران؟، وإنّه سيسأل أهلَه أن يسألوا أهلَها بعد لفٍّ ودوران، وسيقولون وهم يلفّون ويدورون إنّ إبنهم ولا مثله بالعمل مِنَ الفجر إلى النجر ويحمل على ظهرِه ما ينوء به جمل، وأهلُها سيلفّون وسيدورون وسيقولون إنّ إبنتهم آية، وقولوا لها: "حااااا" وستمشي، وقولوا لها: "هشششششْ" وستقف، وسيعطوني، وسيباركون لي، وستكون أفراح وليالٍ ملاح، وسيدكّ الخلاّنُ الأرضَ بأقدامهم، وسيلوِّحون بمحارمِهم، ولسانُ حالهم يقول وأعمار الكرام تطول: "نحن هنا وسنظلّ هنا"، وسأطلب ألاّ تكون فرقعة أو كركعة لئلا تتأذّى فراشة أو بعوضة، أنا أريد فرَحاً لا ترَحاً، وسيلبّون جميع طلباتي".
وعلى هذا النحو أيضاً كانت روحُه تسمع وترى وتلطم وتولول حتى مِنْ لا مكان برز جحشٌ إسمه جحشان مقبلاً عدواً على خمس سيقان وعيناه على فاتنة الألباب التي كانت في ذهاب وإياب إنتظاراً لحمار الحمير حتى يَفرغ مِنْ حوارِ الطرشان مع روحه. وقفز جحشان، وزقزقَ عصفور، وفاضت القدور، وإستيقظَ نائمٌ من بين النيام متوعّدَاً البرَّ بمزيدٍ مِنَ البعر والزفيرِ والشهيق بعد تسعة أشهر بالتمام والكمال.
وعصرَ يومٍ تصادفا عند بعضِ الماء، قالَ لجحشان بصوت قرضته الجراذين والفئران: "يا حمار الحمير، أنا أخوك وأنت أخي، بأي شريعة تغدر بي؟، كيف طاوعَك ضميرُك، لا صبر بي بعدُ، إعطني خنجراً مسموماً أريد أن أنتحر.. وعلى الدنيا العفا والسلام"!.
وسمعَ رعاةٌ وتسامروا بما سمعوا في العشيّات، ونقل عنهم ركبانٌ الى أبعدِ البلدان، وقامَ شاعرٌ نظّام وشالَ وحطَّ وأنقص وأضاف وحملَ ما صنع إلى ملحِّن عملَ ما عمله، ومعاً إستعرضا مطربين ومطربات ومغنّين ومغنّيات ومؤدّين ومؤدّيات، وصار عقْدٌ مع غنّوجةٍ من الغنّوجات الفرعونية العينين، التفاحيّة الخدّين، العبليّة الزندين، التي صنعتْ فيديو كليب، غنّت وتشخلعتْ وعملتْ حركات سويديّة، وحقّقَ الفيديو نجاحاً، وأكثر من أُعجب به قادة ورؤساء وملوك وقياصرة وأكاسرة قصّوا الألسن، صلموا الآذان، جدعوا الأنوف، سملوا العيون، قطعوا الأيدي والأرجل مِنْ خلاف، وأُمهِلوا ولكنْ لم يُهمَلوا قطّ.
***
شوقي مسلماني






