شهادات ومذكرات
علي حسين: نغوجي وا ثيونغو يودع عالمنا المضطرب بعد أن خذلته نوبل

عن 87 عاما رحل، أمس الأربعاء، الكاتب الكيني نغوجي وا ثيونغو، صاحب الملحمة الروائية تويجات الدم التي ترجمها الى العربية سعدي يوسف، وكان من المتوقع أن يفوز نغوجي بجائزة نوبل في الأدب، لكن الجائزة في كل عام تترك معجبيه يشعرون بالأسى والاستغراب وهم يشاهدون الجائزة الكبرى تفلت من بين أصابعه. في واحدة من السنوات توقع الجميع ان يحصل نغوجي على الجائزة، لم يكن هناك منافساً له، وقد انتظرت مجموعة من الصحفيين أمام منزله. وعندما لم يفز، خرج الى الصجفيين ليواسيهم ويفدم له الشاي والكعك.
في السنوات الاخيرة من حياته خيم الموت على نغوجي وا ثيونغو، تم تشخيص إصابته بسرطان البروستاتا، والذي نجا منه، على الرغم من توقعات الاطباء التي أعطته ثلاثة أشهر للعيش. قال انه أضاف السرطان إلى القائمة الطويلة من الصراعات التي تغلب عليها.في عام 2019، خضع لعملية جراحية في القلب، و في نفس العامبدأ يعاني من الفشل الكلوي الذي اودى بحياة احد اخوته. قال ان القصة القصيرة تستهويه جدا، فاول اعمالة الادبية مجموعة قصصية بعنوان "دقائق المجد"، التي اعتبرها النقاد نوع من "السيرة الذاتية الأدبية".
عندما كان نغوجي طالبًا جامعيًا في أوغندا في أوائل الستينيات، كان من كبار المعجبين بالكاتب النيجيري تشينوا أتشيبي صاحب الرواية الشهيرة " الاشياء تتداعى ": " في أحد الأيام التقىت أتشيبي كنت شديد الفرح لدرجة أنني لم اكن اعرف ماذا افعل.يضيف نجوجي: "قلت له لقد كتبت قصة قصيرة - هل ترغب في النظر إليها؟" قال: "نعم! هل لديك؟" وبالطبع لم يكن معي الأمر، لمجرد أنني لم أكتب كتابًا، وفي تلك الليلة عدت إلى البيت، واضطررت لتلفيق ما يسمى بالقصة ".، بعد سنوات سيرسل تشينوا أتشيبي مخطوطة رواية نغوجي الأولى " لا تبكِ ايها الطفل " – ترجمتها الى العربية امينة الحسن – الى ناشره الانكليزي لتصدر عام 1964 ونحظى باشادة النقاد، وستصفه صحيفة التايمز البريطانية بانه "واحد من كُتّاب أفريقيا المعاصرين".
تاخذتا اعمال نجوجي وا ثيونغو القصصية والروائية لنتعرف على الواقع القاسي لحياة القرية من خلال التغييرات التي جاءت مع نهاية الحكم الاستعماري البريطاني لكينيا، كان يأمل ان يتحول الاستقلال الى حياة جديدة: "لقد أصبح مجيء الاستقلال وعدًا بحياة أفضل من أجل الجميع، ليس فقط عدد قليل من الناس، ولكن بالنسبة للجميع، لكن بعد الاستقلال، بدأت أرى أن هناك نوعًا من الاختلاف بين التوقع والواقع. وحاولت أن أوضح ذلك في قصصي القصيرة".
في معظم اعماله الروائية والقصصية يطرح نغوجي موضوعة الاتصال بالأرض التي نجدها في معظم اعماله كانت روايات نجوجي التي كتبها في البداية بالانكليزية غالباً ما تنتقد الاوضاع في كينيا ما بعد الاستعمار وحكامها. لكنه يقول إنه ما ان كتب بلغته الأم حتى تم تهديده واعتقاله: " المسرحية الأولى التي كتبتها بلغتي الأم، وضعت بسببها في سجن شديد الحراسة، ليس من قبل حكومة استعمارية، بل من قبل حكومة أفريقية تدعي انها وطنية ".، أثناء وجوده في السجن، كتب نغوجي روايته الأولى بلغته المحلية، وقد كتب الرواية على ورق التواليت حيث كان ممنوع عليه ادخال الورق والاقلام الى السجن: " ورق التواليت الذي كنت استخدمه في الكتابة لم يكن من النوع اللطيف الذي نشاهده في التلفزيون، لذلك كانت الكتابة عليه صعبة للغاية "، بعد خروجه من السجن، ذهب نغوجي إلى المنفى، حيث عاش أولاً في إنكلترا ثم في الولايات المتحدة حتى رحيله، رفض ان يمنح الجنسية الامريكية قال للصحفيين ذات يوم: " لا أريد أن أفقد جنسيتي الكينية. أحب أمريكا، ويعجبني تمثيل جميع الطوائف والأديان تقريبًا في العالم هنا بشكل أو بآخر. أُعجب بانفتاحها، وبتوازناتها. لكنني لا أحب الإمبريالية الأمريكية ودورها في العالم. أجد معاملة الأمريكيين من أصل أفريقي هنا، والسود عمومًا، مُقلقة للغاية ".
رغم أنه لم يعيش في كينيا منذ مدة طويلة، إلا أنه ما زال يكتب عنها، يقول إن العيش في المنفى نوع مختلف من السجن: " السجن مثل المنفى الداخلي والنفي مثل السجن الخارجي، وكلاهما يمثلان نفس التحديات. كيف تتواصل مع الأشخاص الذين انفصلت عنهم؟ في السجن كتبت رواية وفي المنفى أحاول أن أفعل نفس الشيء، لمحاولة الاتصال بكينيا، من خلال مخيلتي، من خلال كتابتي ".
أما بالنسبة لجائزة نوبل التي يسميها المراوغة، فإن نغوجي يجدها أكثر تسلية من أي شيء آخر. إنه مهتم أكثر بما يسميه "نوبل القلب": "عندما أذهب إلى مكان، وألتقي بشخص ما، ويخبرني أن روايتك أو قصتك القصيرة أثرت في حياتي، هذه لحظة خاصة للغاية عندما أشعر انني كاتب مؤثر في الناس فاقول لنفسي، كان الأمر يستحق ذلك، هذا ما أسميه نوبل القلب، وأنا أقدر ذلك حقًا، " ويضيف: " اهمية نوبل القلب هو أن كل كاتب يمكن أن يحصل عليها، نعم؟"
وُلد نعوجي في عام 1938، وهو ابن مزارع مستأجر في كينيا التي كانت تحتلها بريطانيا، اطلق نداءه المهم الذي قال فيه إن على الأفارقة أن يكتبوا بلغاتهم الأم كجزء من حملة التحرر من القيود العقلية للاستعمار.كان قرار نجوجي بالابتعاد عن اللغة الإنكيزية قرارًا شجاعًا بالنسبة لكاتب ينحدر من إفريقيا، وهي قارة غالباً ما كانت تعتبر غير مهمة بالنسبة للعالم ولغاتها غير مفهومة. كان من الممكن أن يؤدي قراره هذا إلى اختفائه من المسرح الادبي العالمي، ولكنه بدلاً من ذلك عزز سمعته ككاتب من الطراز الاول: "نحن ملتزمون بشدة بقوميتنا المناهضة للاستعمار، وهذا أمر مهم بالنسبة لنا، ولكن الجيل الأصغر سناً تجده لا يحصر شخصياته بالضرورة في إفريقيا. إنهم سعداء جدًا بإحضار شخصيات من أعراق أخرى، وهكذا... هذا أمر جيد لأنهم يكبرون في عالم متعدد الثقافات. "
كتب نغوجي ثلاثة مجلدات من المذكرات، عائدًا إلى الفترات التي غطاها في رواياته. الأولى، "أحلام في زمن الحرب" – ترجمتها الى العربية الروائية لطفية الدليمي ونشرت متسلسلة في صحيفة المدى - تبدأ بأجداده خلال مؤتمر برلين في عام 1885 عندما قسمت البلدان الأوروبية إفريقيا بينها، ثم تحكي عن طفولته كمزارع بلا أرض. أما الجزء الثاني، فيتحدث فيه عن سنواته في مدرسة داخلية تديرها بريطانيا بالقرب من نيروبي وكيف تم هدم منزل عائلته وسجن شقيقه في معسكر اعتقال بريطاني. يروي المجلد الثالث، "ولادة حلم"، السنوات الأربع التي قضاها في جامعة ماكيريري في أوغندا عندما اقتربت كينيا من الاستقلال وبدأ نجوجي في كتابة أعماله الأولى في الأدب.
يؤمن نغوجي ان " الكائنات البشرية تعارض الاعتراف باي مخطط في الوجود، وهو يرى ان الحوادث في حياته جاءت ضمن تسلسل مترابط، وهي التي حتمت عليه ان يقبل تحمل المسؤولية تجاه شعبه، وان لا يخاف من هذه المسؤولية ويؤكد " ان الاشياء التي حدثت في الماضي يجب ان تبقى في الماضي، فالمهم هو المستقبل "، ولكن نغوجي لايريدنا ان نهرب من الماضي بهذه السهولة، بل ان نعيش بدلا عن الضياع والفشل الذي يريد الماضي من خلاله ان يحول الحاضر الى سراب.
يرحل من بين جميع الكتاب بعد ان خذلته جائزة نوبل جائزة نوبل، إلا ان صوته سيقى الأكثر وضوحاً مثلما كتب هو نفسه عام 2005: "الكلمات المكتوبة يمكن أن تُغني أيضًا".
***
علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية