شهادات ومذكرات
رائد جبار كاظم: خضير ميري.. الفيلسوف الذي لم يمنحه العمر انجاز فلسفته
لم أكن على علم مسبق بتاريخ رحيل الكاتب والروائي والمسرحي والشاعر العراقي المبدع خضير ميري (1964 ـ 2015)، في الثاني عشر من شهر كانون الأول، إلا اليوم وأنا أكتب هذه السطور مساء الجمعة 12/12/ 2025، حينما علمت أنه اليوم يمرّ عقد على وفاته المبكرة في عقده الخمسين من عمره (رحمه الله)، حيث أقتادتني الصدفة لذلك التاريخ وأنا أقلب صفحات الأنترنيت باحثاً عن منجز ميري الثقافي والفكري للأطلاع عليه، من باب المصادفة أيضاً، مما دعاني للكتابة والأستذكار في هذه الذكرى لهذا الإنسان النبيل والأثير والمبدع، الذي كانت سنوات عمره عبارة عن مظلومية وحرمان وسجن وتعذيب ومنفى وحصار وعذابات مستمرة طوال سنوات حياته التي عاشها بمرارة قاسية أودت بحياته مبكراً. يقول عنه أستاذه الكبير سامي عبد الحميد (ت2019) : (طبيعي أن يموت (خضير ميري) قبل الأوان وقد أتلف أعصابه وأنهك دماغه وهو في عز شبابه).
ومما يلفت النظر إن تلك الحياة القاسية والمرة التي عاشها ميري من جهة لم تكن سنوات فراغ وضياع بل كانت مليئة بالقراءة والدراسة والكتابة والتأليف، في حقول معرفية متنوعة، في الفن والأدب والفكر والفلسفة والدين والسياسة، مستثمراً سنواته القاسية في صياغتها وكتابتها في رؤى ابداعية وفكرية، في قصة أو رواية أو مسرحية أو كتاب فلسفي، وهو المتبحر والمتنور في تلك السياحات والمساحات الثقافية جميعها. فقد أستطاع لملمة شتاته وأحزانه وآلامه ليودعها فكراً وأدباً وفناً وثقافة وتأليفاً عالي المستوى، بدلاً من التسكع والأنحراف والضياع الذي يمارسه أخرين قد تعرضوا لنفس الصدمات والظروف، وهذا ما دعانا لتسليط الضوء على تجربة ميري ونقلها للآخرين، ومحاولة أستذكار شخص مثقف حر ومبدع في الثقافة العراقية المعاصرة، والأهتمام بتراثهم الفكري والثقافي وتخليد ذكراهم بين الناس. وهذا واجب ثقافي وأخلاقي مقدس.
لقد شكلت تجربة ميري الفكرية والحياتية، سواء في السجن أو في مستشفى الأمراض النفسية أو مستشفى الأمراض العقلية أو في المهجر، تجربة ثرية حولها الى منتج ابداعي ثقافي وفكري كبير سطره في كتاباته ومؤلفاته المتعددة، والتي منها : (الاشكالوية والمعنى في السؤال الفلسفي عن (1993)، "الجنون في نيتشه" (1999) و"الفكر المشتت: تعقيب على فوكو" (1997). ومن أعماله الأدبية "صحراء بوذا" (2001) و"سارق الحدائق" (2007). رواية "أيام الجنون والعسل" (2000)، التي حاول من خلالها استعادة تجربة المصحّة العقلية، وتحولت الى عمل مسرحي عراقي فيما بعد، و"تصريحٌ بالجنون: رحلتي من التعذيب إلى المصحة العقلية" (2004). و"نصوص وشذرات" (2013)، و"الذبابة على الوردة" و "أحلام عازف الخشب"، و"كتاب الجيب للمحكومين بالاعدام" و"جن وجنون وجريمة"، وغيرها من الكتابات، لكننا للأسف خسرنا وفقدنا فيلسوفاً لم يكمل مهمته ولم ينجز مشروعه الفكري بعد، فقد باغته الموت مبكراً وهو لم يزل في ريعان عطائه.
والذي نلاحظه على كتابات ميري الأدبية صبغتها وصيغتها الفلسفية العميقة، حيث نجد أن هنالك فلاسفة كانت لهم تجارب مع الجنون، كتابة وتجربة وتفكيراً، سواء مع الفيلسوف الألماني نيتشة (ت1900م) أو مع الفيلسوف الفرنسي فوكو (ت1984م) وفلاسفة وكتاب آخرين. فقد كانت نهاية نيتشة الى المصحة العقلية كما هو معروف في نهاية حياته، وظروفه النفسية هي ما أودت به الى الأنهيار العصبي، ونيتشة الذي يمثل أكبر فلاسفة العصر الحديث.
بينما كتب فوكو كتابات كبيرة وخطيرة ومهمة أهمها كتاب (تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي) وكتاب (ولادة العيادة) وكتاب (المراقبة والمعاقبة)، كما أنه قرأ وتابع في مجال علم النفس كثيراً. ومن هنا نلاحظ محاولات خضير ميري في الاقتراب من نيتشة وفوكو وتحويل تجربته العقلية والنفسية العميقة الى تجربة معرفية وفكرية خاضعة للبحث والقراءة والتحليل في الثقافة العربية المعاصرة.
لم تكن معرفتي بميري معرفة عميقة، ولم ألتقه كثيراً، فقد كانت المرة الأولى التي ألتقيته في بيت الحكمة، في عام 2002، في مؤتمر فلسفي عربي عقده قسم الدراسات الفلسفية، كان قد حضره نخبة من الباحثين والمفكرين والمثقفين من داخل العراق وخارجه، وحينها حدث خلاف بحثي وجدل فكري بين مفكرين شاركا في المؤتمر، هما طه عبد الرحمن ومطاع صفدي، إذ كان لميري كلمة في تهدأة الأمر بين الأثنين، على ما أذكره في حينها. وبعد التغيير عام 2003، كان لميري ظهوراً ثقافياً واعلامياً أكبر وأكثر من السابق، سنوات ملاحقته ومطاردته من قبل السلطة الحاكمية آنذاك، فقد كنت أشاهد ميري عن بعد في شارع المتنبي وكذلك في لقاءات ثقافية وأدبية وفلسفية، ولكنني لم أقرأ له ولم تربطني به أي علاقة معرفة سابقة، ولكنني كنت قد سمعت عنه حينها إنه كان سابقاً في المصحة العقلية (الشماعية)، فتفاجأت بالأمر كثيراً وقلت في داخلي (معقولة هذا مخبل؟!)، لما فيه من سمات العبقرية والثقافة والأسئلة الفلسفية العميقة، لكنني أدركت بعد فترة أن هؤلاء المتمردين انما يخرجون ويتمردون على واقعهم السيء الذي يعيشونه، من جراء السلطات السياسية والدينية والثقافية والاجتماعية المتسلطة والمستبدة التي يعانون منها، وما على المثقفين والمفكرين سوى الثورة والتمرد على تلك الظروف والحكام والأفكار الخاطئة في المجتمعات التي تحكمها.
لقد كان ميري (ديوجيناً وسقراطاً وبهلولاً )، يحمل فانوساً بيد وفأساً بيده الأخرى، يعري بكلماته وكتاباته سلطة الحاكم الدكتاتور ووهم الحقيقة الثقافية وزيف الفكر الذي يعيشه البعض، ممن يتخفى خلف كواليس الحياة والفكر والمعرفة، لقد حاول كشف الوجه الحقيقي للحياة ونقله الى الآخرين، ولكنه هيهات أن يقبل الناس بذلك، فما عاشه ميري ورأه إنما هي تجربة عارف مجنون عاشق متفرد لا يمكن أن تصل كلماته وحكمته لمن لم يتذوق ذلك الوجد وتلك المرارة ولم يحرقه لهيب العرفان.
***
ا. د. رائد جبار كاظم






