شهادات ومذكرات
جمال العتّابي: هاني فحص.. هل يجود الزمان بمثله؟

في تصريح لإحدى الصحف العربية يقول المفكر الإسلامي هاني فحص: كل شراييني وأوردتي نظيفة من التعصّب، أكاد أكون أول رجل دين يكسر الحاجز ويتحدث عن زوجته. حين نقرأ هاني فحص ننتقل معه الى قراءة الدين والسياسة، وإلى المفارقات الفقهية والسياسية، لكأننا نتبع مرشداً يأخذنا من مكان إلى آخر، نعرّج معه على النجف أو على بيروت أو على الجنوب، ولا نشعر بالانقطاع أو الغربة.
هاني فحص أحد رجال الدين القلائل العابرين للإثنيات والطوائف، يكتب ويقرأ خارجهما، كان مفكراً موسوعي الثقافة، أديباً وناقداً وشاعراً، يمتلك ذائقة فنية ورؤية جمالية للعالم. عرف بانفتاحه الديني ونشاطه المدني وغزارة إنتاجه. هو رجل الحوار والعلم، كان موضوع دراسة في الماجستير للباحثة ريام غانم نجيب، صدرت في كتاب عن جامعة الكوفة 2019، جاء الاختيار بناءً على إدراك الباحثة أهمية شخصية فحص الفكرية والسياسية والدينية والاجتماعية، فضلاً عن وضوح مواقفه من القضايا العامة، وسلامة نهجه العلمي، كان حداثياً ومجدداً، إذ يرى فيهما ضرورة يتطلبها العصر، كان لا يخشى القول بالعلمانية من منطلق إسلامي، مؤمناً بأن سبيل الخلاص من العصف الطائفي هو، دولة مدنية ديمقراطية يكون أفرادها مواطنين متساوين، كما استطاع أن يقارب بين العناوين الدينية والسياسية بجرأة عالية ليسبغ عليها روح الحداثة والتطور.
اتجهت الباحثة نحو دراسة المراحل المبكرة من حياة هاني فحص، ثم تناولت مواقفه من التطورات السياسية في بلده لبنان وبلدان المنطقة، فيما كان فصل الدراسة الأخير قد اختص في روافد بنائه الفكري ورؤيته لقضية التقريب بين المذاهب الإسلامية، وقضية الحوار بين الأديان. نشأ هاني فحص وترعرع في أسرة بسيطة معروفة بالتزامها الديني وسمعتها الطيبة، ولد في (النبطية عام 1946) إحدى مدن جنوب لبنان، أكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة فيها، وبدأ اهتمامه بالأدب والفكر في المدرسة، حين كان يكتب ما يشبه الذكريات والقصص القصيرة، دفعه تعلّقه باللغة أولاً الالتحاق بالحوزة الدينية وتعلم الفقه والأدب العربي، كما أراد تحقيق رغبة والده في أن يصبح أحد مشايخ القرية، فكان انتقاله إلى مدينة النجف عام 1963 من أهم محطات حياته، إذ كانت المدينة الأساس في تشكيل وعيه الفكري. فيها درس العلوم الدينية واللغة والفقه والمنطق، فضلاً عن اندماجه بالوسط الثقافي والديني، فكان قريباً من الشخصيات الدينية، التي تدعو للجديد في القضايا الفكرية، فتقدّم من بينهم بفضل ما يتمتع به من ذكاء ومهارة في الحوار، أكمل البكالوريوس في كلية فقه النجف. كان من ضمن مجموعة حاولت أن تنفتح معرفياً على حقول علمية مختلفة وعلى الحداثة عموماً، وتتعاطى الأسئلة التي تجسد القلق المعرفي، دخل في نقاشات وحوارات وسجالات يومية حول الأدب والشعر الحديث خصوصاً، وكتب في النقد الأدبي كما كتب عدداً من القصص القصيرة.
التجارب التي مرّ عبرها تركت آثارها على أفكاره ونظرته البعيدة للأحداث، فعرف بـ (السيد الحداثي) بسبب النزعة الحداثية في آرائه ومواقفه، إلا أن هذا الأمر لم يجعل منه شخصية ازدواجية يمكن لها أن تبتعد عن جذورها الأولى، إنه يدعو إلى أن يكون الفقه متماشياً مع مستجدات العصر وتطوراته، كما يرى الشريعة ليست قوالب جامدة، وليست أحكاماً نهائية.
يعد هاني فحص أحد هؤلاء القلائل الذين جمعوا بين العمق الديني وثقافة العصر، فجاءت آثاره الفكرية غنية ومميزة بالموضوعات المعاصرة مع تقديم رؤية تأصيلية لما توصل إليه من آراء وأفكار، سواءً في الجانب الديني أو السياسي أو الاجتماعي.
عُرف مفكراً ومثقفاً من مثيري الأسئلة، وكان من علماء الدين الذين مارسوا النقد من داخل المؤسسة الدينية، على الرغم من كل ما رافق ذلك من إقصاءات وتكفير، وعلى الرغم من اعتزاله العمل السياسي بقي يعبّر عن آرائه ومواقفه بوضوح وصدق معلن، كان فيها من الجرأة، ولاسيما في القضايا السياسية الإشكالية، ما جعله يسهم في عدد من المؤتمرات الحوارية بين المسلمين والمسيحيين، كما كان أحد علماء الدين الذين دعوا إلى التقريب ونبذ الحساسيات الطائفية، للنهوض بالواقع الإسلامي، من أجل اندماج أهل الأديان والمذاهب في الهوية الوطنية. يذكر أن هاني فحص غادر النجف عام 1972 هارباً من أجهزة النظام الديكتاتوري القمعي، الذي كان يلاحق الناشطين من رجال الدين، يتهم البعض بالتبعية أو الإذعان للسلطة، وإما السجن والاعتقال والتعذيب، وإما الهجرة. عاد إلى لبنان وسعى مع مجموعة من أدباء وشعراء الجنوب، في تشكيل منتدى أدباء الجنوب طموحاً إلى تحرير الإبداع الأدبي والشعري من وصايا الأحزاب، واستمر المنتدى ناشطاً مميزاً حتى بداية أحداث عام 1975. في هذه الأثناء اتصلت به قيادات من المعارضة الإيرانية أملاً في مشاركته ضمن فعالياتها ضد نظام الشاه، وقام فعلاً بدور إعلامي وسياسي، دعماً لها، فاتصل بقادتها في باريس، وحمل رسائل متبادلة بينها وبين ياسر عرفات، ثم رافق عرفات في أول طائرة متوجهة إلى طهران بعد سقوط الشاه، وظلّ يتردد عليها، ثم أقام فيها ثلاث سنوات لغاية صيف 1985.
عاد ليشكّل «المؤتمر الدائم للحوار اللبناني» الذي يعده التجربة الأهم في حياته الفكرية والسياسية، وكان عضواً في العديد من الجمعيات والمنتديات ومراكز البحث فانفتحت أمامه أبواب الصحافة والمؤتمرات المحلية والعربية والدولية مشاركا في العشرات منها. صدر له ثلاثة عشر كتاباً مطبوعاً، كان آخرها «ماضي لا يمضي» عام 2008.
بلا شك، كان فحص شخصية دينية لها موقعها المؤثر والبارز بين علماء الدين المسلمين ورجال الحوار، واختار منذ البداية ألا يكون مجرد عالم دين يفتي ويحلل ويحرم، تجاوز هذه المنطقة، نحو التمسك بصورة المثقف وبنيته العميقة التي عمل على تأسيسها جيداً، بالاطلاع الواسع على التراث العربي والإسلامي والعالمي. كان فقيهاً متحرراً من قيود المرجعيات وحرفية التقليد، والباحث الدائم عن المرجع الصالح للعصر، وللوطن، ودولة العدالة، داعياً إلى نظام مدني في لبنان والدول العربية الأخرى، مستقلاً عن السلطة الدينية، فضلاً عن مواقفه من المرأة والشباب ضمن توجهاته العامة نحو الإصلاح. أظهرت الدراسة أن أهم ما في شخصية فحص، استخلاصه العبر والدروس من تجربته السياسية، عارفاً بأهمية العلاقة مع الآخر المختلف، فكان الداعية على الاعتدال والحكمة والحوار، مدركاً لقيمة وجمالية التعدد والعيش المشترك والانفتاح على القيم السماوية، محباً للسلام واستقرار الأوطان بعيداً عن الحروب والتحزبات والتعقيدات الطائفية. إنه يسجل نهاية سيادة الدول واستقلال الأوطان بالمعنى المطلق أو المقدّس، لاسيما عندما يتحول الحكام إلى جزارين يسفكون دماء شعوبهم. ومن أجمل ما في تراث فحص الفكري قوله: بقليل من الدين تصبح متطرفاً، ولكنك لا تستطيع أن تكون معتدلاً إلا إذا فهمت الدين كله.
كان هاني فحص لبنانياً عراقياً كرّس كتابه الأخير «ماضٍ لا يمضي» لذكرياته عن العراق وبمقدمة عنوانها «إني عراقي أيضاً» يقول فيها: عندما يضيق بي لبنان أو أضيق بحاله التي تكاد لا ترسو على حال، حتى يأتيها القلق من مكان ما ومن كامن ما، أجد احتياطي الذهبي الوطني في العراق، فأعلّق آمالي عليه حتى لا أذهب إلى اللّامكان، من هنا تمسي وطنيتي العراقية واجباً للعراق عليّ، وحقاً لي عليه، هذا لا يعني أني أسير العراق، بل يعني أني نتاج عراقي أيضاً، أولاً وثانياً؟ لا أدري.
كان يوم 18 سبتمبر/أيلول من عام 2014 يوماً حزيناً إذ توافد الآلاف من كل الأطياف اللبنانية والعربية لتشييع جنازة هاني فحص إلى قريته الأولى الجنوبية (جبشيت) بعد أن وافاه الأجل نتيجة مضاعفات مرض الرئة. وإن كان الموت قد غيب فحص شخصاً، إلا أنه سيبقى بصلابة مواقفه وفكره النير خالداً على مر الزمن.
***
جمال العتّابي