شهادات ومذكرات

جون أبدايك: مسيرة حياة "أوليفر"

بقلم: جون أبدايك

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

لم يكن والداه يقصدان الإساءة إليه؛ بل كانا يقصدان أن يحبّاه، وقد أحبّاه بالفعل. لكن أوليفر جاء في وقت متأخر ضمن حزمة أطفالهما الصغيرة، في مرحلة بدأ فيها عبء تربية الأطفال يفقد زخمه، واتضح أنه عُرضة للحوادث. كان جنينًا كبير الحجم، محشورًا في رحم أمه، وولد بقدَمين ملتويتين نحو الداخل، وتعلّم الزحف وهو يرتدي جبائر تصحيحية تمتد حتى كاحليه. وعندما أُزيلت تلك الجبائر أخيرًا، بكى من الرعب، لأنه كان يظن أن تلك الأحذية الجصية الثقيلة التي كانت تحتكّ وتتصادم بالأرض كانت جزءًا من جسده.

في أحد الأيام من طفولته، وجدوه على أرضية غرفة الملابس ومعه صندوق من كرات النفتالين، بعضها مبلل باللعاب؛ فتساءلا فيما بعد إن كانت هناك حاجة فعلية لنقله إلى المستشفى وإجراء عملية غسيل لمعدته المسكينة. أصبح لون وجهه رمادياً مائلاً للاخضرار بعد ذلك. في الصيف التالي، عندما تعلم المشي، سبح والداه بعيدًا عن الشاطئ دون تفكير، سعيًا لتحقيق انسجام رومانسي في الصباح التالي لحفلة متأخرة وشجار بسبب الكحول، ولم يدركا، حتى شاهدا المنقذ يركض على امتداد الشاطئ، أن أوليفر كان يترنح خلفهما وهو يطفو على وجهه لعدة دقائق كان من الممكن أن تكون قاتلة لو لم يكن المنقذ يقظًا. هذه المرة، كان وجهه قد تحول إلى اللون الأزرق، وظل يسعل لساعات.

كان أقل أطفالهما تذمرًا. لم يَلُم والديه عندما فشل كلاهما، إلى جانب إدارة المدرسة، في اكتشاف أن عينه اليمنى "الناعسة" تحتاج إلى علاج في الوقت المناسب، مما أدى إلى أن كل شيء بدا ضبابيًا بشكل دائم عندما كان يغلق العين السليمة. وكان مجرد رؤيته وهو يحمل كتابه المدرسي بزاوية غريبة بالنسبة للضوء يدفع والده إلى رغبة يائسة في البكاء، عاجزًا عن فعل شيء.

وتصادف أنه كان في العمر غير المناسب تمامًا، سنّ هشّة، عندما مرّ والداه بتجربة الانفصال ثم الطلاق. كان إخوته الأكبر قد غادروا إلى المدارس الداخلية والجامعة، وانطلقوا في طريق الرجولة، متحررين من العائلة. أما شقيقته الصغرى فكانت صغيرة بما يكفي لترى في الترتيبات الجديدة — وجبات الطعام في المطاعم مع والدها، والرجال الودودون الذين كانوا يخرجون مع والدتها— أمرًا مثيرًا. لكن أوليفر، في الثالثة عشرة من عمره، شعر بثقل الأسرة يثقل كاهله؛ فأخذ يشعر بتخلي والدته عنه. ومرة أخرى، حزن والده حزنًا شديدًا.كان والده- وليس هو- المذنب حقًا عندما بدأت درجاته الدراسية المتدنية تتوالى، أولًا من المدرسة، ثم من الجامعة، وعندما كسر أوليفر ذراعه إثر سقوطه من درج سكنٍ طلابي، أو بالقفز، بحسب رواية أخرى للواقعة المشوشة، من نافذة سكن الطالبات. لم يكن حادثة سيارة واحدة بل عدة سيارات عائلية انتهت نهايات كارثية وهو خلف المقود، رغم لم يُصَب، لحسن الحظ، بأكثر من رضوض في الركبتين وأسنان أمامية مخلخلة. ولحسن الحظ أيضا، استعادت أسنانه تماسكها من جديد، إذ كان ابتسامته البريئة، التي كانت تنتشر ببطء على وجهه حين يدرك الطابع المضحك لمغامرته الأخيرة، كانت إحدى أجمل سماته. كانت أسنانه صغيرةً مستديرةً ومتباعدة - أسنان طفل.

ثم جاء زواجه ليكتمل سلسلة سوء حظه، فأضيف إلى لياليه الساهرة، ووظائفه المتقطعة، وفرصه الضائعة في مطلع شبابه. كانت عروسه أليشيا -مثله تماماً- منجما للمصائب، تعاني من إدمان المخدرات والحمل غير الرغوب فيه. وقد تركت تقلباتها النفسية جراحاً غائرة في نفسها وفي كل من حولها. لكن بالمقارنة، بدا أوليفر صلبًا وواثق الخطى، وكانت تنظر إليه بإعجاب. وهذا هو السرّ. فالتوقعات التي نضعها على الآخرين، يسعون إلى تحقيقها. تمسّك بوظيفته، وتمسّكت هي بحملها.

يجب أن تراه الآن، مع طفليهما، فتاة صغيرة شقراء وصبي داكن الشعر. لقد اشتدّ عوده واتسع صدره، يحتضنهما معًا في وقت واحد. إنهما كفرخين في عش، وهو شجرة، صخرة تحميهما. لقد غدا حامي الضعفاء.

(تمت)

***

.........................

* الكاتب: جون أبدايك/ John Hoyer Updike (18 مارس 1932 – 27 يناير 2009) روائي وشاعر وكاتب قصص قصيرة وناقدً فنيً وأدبيً أمريكيً. يُعد واحدًا من أربعة كتّاب فقط حصلوا على جائزة بوليتزر للأدب الروائي أكثر من مرة. نشر أبدايك، خلال مسيرته الأدبية، أكثر من عشرين رواية، وما يزيد على اثنتي عشرة مجموعة قصصية، إلى جانب الدواوين الشعرية، وكتب الأطفال، والمقالات النقدية في الأدب والفن.

في المثقف اليوم