شهادات ومذكرات
كيف بدأت فرجينيا وولف تحفتها الأدبية؟ / ترجمة: محمد غنيم

بعد قرن من إصدار رواية "مدام دالاوي"
مسوَّدة رواية "مدام دالاوي": كيف بدأت فرجينيا وولف تحفتها الأدبية
"يجب أن يكون هناك شيء من المتعة–"
بقلم: مارك هَاسي
ترجمة: د. محمد غنيم
***
كانت فرجينيا وولف كاتبة فوضوية. فمسوداتها التي لا تزال باقية كثيرًا ما تحمل بقع رماد السجائر أو آثار أقدام كلب. أما الطاولات الخشبية الكبيرة التي كانت تفضل استخدامها في غرف الكتابة، فكانت مغطاة بالمخطوطات، وزجاجات الحبر، ومنفضات السجائر المملوءة، والدفاتر التي كانت تصنعها بنفسها، حيث كانت ترسم هامشًا على كل صفحة بقلم أزرق سميك. لكنها لم تكن تكتب على الطاولة، بل كانت تجلس كل صباح على كرسي واطئ، وتضع على ركبتيها لوحًا ثبتت عليه حامل حبر، لتسند عليه الدفتر الذي تكتب فيه مسوداتها. وكانت تتابع سير عملها بتأريخ ما كتبته كل يوم، وأحيانًا تُحصي عدد الكلمات التي كتبتها، وتُسجّل المكان الذي كانت فيه حين كتبت مقطعًا معينًا.
وفي فترة بعد الظهر، كانت تقوم بطباعة ما كتبته يدويًا في الصباح، ثم تراجعه يدويًا، قبل أن تعيد طباعته حتى تصبح الصفحات جاهزة لإرسالها إلى كاتبة طابعة محترفة ومنها إلى المطبعة. وكانت تواصل التنقيح حتى في مرحلة بروفات الطباعة – وهو امتياز أتاحه لها كونها ناشرة نفسها.
كانت فرجينيا وولف كاتبة فوضوية
كانت حياة ليونارد وفرجينيا وولف تسير وفق إيقاع تحدده أعمالهما وتنقلاتهما بين منازلهما في لندن ومنزلهما الريفي. كُتبت رواية مدام دالاوي في ثلاثة أماكن: منزل "مونكز هاوس" في قرية رودميل بمقاطعة سَسِكس، و"هوغارث هاوس" في شارع بارادايس في ريتشموند، و52 ميدان تافيستوك في منطقة بلومزبري. قبل سنوات من أن تستقر هي أو أختها في منازلهما الريفية في سَسِكس، كانت فرجينيا تتخيل لڤانيسا ملاذًا ريفيًا فيه "كوخ صغير بين الأشجار عند أسفل الحديقة". في ذلك الكوخ المتخيَّل، كانت فرجينيا تأمل أن يكون لها غرفة فيها طاولة وكتب ومرآة و"خزانة عجيبة مليئة بالأدراج الصغيرة" يفتّش فيها أطفال أختها عن الأسرار.
لم تمتلك وولف غرفة في بيت أختها قط، لكن في صيف عام 1921 كانت في غاية السعادة حين كتبت أن ليونارد وهي يقومان بتحويل سقيفة أدوات في "مونكز هاوس" إلى غرفة في الحديقة. كانت ستُزوّد بنافذة كبيرة تطل على المروج الممتدة في "ساوث داونز" وصولًا إلى جبل كابورن. وفي تلك الغرفة بالحديقة، في أغسطس 1922، كتبت وولف في يومياتها بعض الخطط للعمل الذي كانت تأمل إنجازه في ذلك الصيف قبل العودة إلى ريتشموند في الخريف. وفي الخامس من أكتوبر، عادت هي وليونارد إلى لندن بالقطار من بلدة لويس، وفي اليوم التالي فتحت صفحة جديدة في أحد الدفاتر التي كانت قد صاغت فيها روايتها الثالثة غرفة يعقوب، لتدوّن بعض الأفكار عن "كتاب ربما يُسمّى في البيت أو الحفلة".
كانت غرفة يعقوب على وشك أن تُنشر، لكن ذهن وولف كان مليئًا بأفكار لروايتها التالية. كانت تنوي أن تكون كتابًا قصيرًا ينتهي بحفلة. أما الفصل الأول، فسيستند إلى قصة انتهت لتوّها من كتابتها بعنوان "مدام دالاوي في شارع بوند". وكانت ترى أنه يمكن أن تليها قصة أخرى كانت تعمل عليها، بعنوان "رئيس الوزراء".
ولكن، إن كان كتّاب الحداثة قد علمونا شيئًا، فهو أن تجربتنا للزمن نادرًا ما تكون خطية؛ فأسفل كل لحظة حاضرة، تجري تيارات الذاكرة بعمق. وولف نفسها كتبت أن الحياة "ليست سلسلة من مصابيح الغاز مرتبة ترتيبًا متماثلًا"، بل أقرب إلى "هالة مضيئة... تحيط بنا من لحظة الوعي الأولى إلى آخره". لذا، على الرغم من أن هذا المخطط في دفترها يمثل بداية تخطيطها لروايتها المقبلة، وتجميعًا للأفكار التي ظلت تتخمر في ذهنها لبعض الوقت، فإن من غير الدقيق اعتبار ذلك بداية رواية مدام دالاوي.
يمكننا تحديد العديد من المصادر التي ساهمت في تشكيل العالم الذي خلقته وولف في روايتها الرابعة، لكن لا يمكن الإشارة إلى إلهام أصلي محدد. فالشخصيات التي تسكن لندن في يوم من أيام يونيو عام 1923 – اليوم الذي تقيم فيه كلاريسا دالاوي حفلة وينهي فيه سيبتيموس وارن سميث حياته – خرجت من خيال الكاتبة، مُتشبعة بذكرياتها عن نشأتها في كنسينجتون، وعن تجربة الحرب العالمية الأولى، وعن انكساراتها النفسية، بل وحتى، كما تقول كلاريسا في الرواية، عن "أناس لم تتحدث إليهم قط، امرأة في الشارع، رجل خلف منضدة – بل وحتى الأشجار أو الحظائر."
في الوقت الذي بدأت فيه رواية مدام دالاوي تتبلور، لم يكن قد مضى سوى وقت قصير على بدء فرجينيا وولف في الشعور بالثقة ككاتبة، رغم أنها كانت تمارس الكتابة منذ عقدين. فعندما قرأ ليونارد المسوّدة المطبوعة لرواية غرفة يعقوب في أحد أيام صيف عام 1922، قال لها إنها "عمل عبقري." وكتبت هي في يومياتها أنها أخيرًا اكتشفت "كيف أبدأ (في سن الأربعين) قول شيء بصوتي الخاص."
وبعد غرفة يعقوب، شعرت فرجينا وولف أنها قادرة على الاستمرار في الكتابة دون الحاجة إلى الإطراء. كانت متحمّسة لتحدي تحويل القصص القصيرة التجريبية التي بدأت تكتبها منذ عام 1917 إلى شكل روائي أطول، وقد بيّنت لها غرفة يعقوب كيف يمكنها القيام بذلك.
وكتبت هي في يومياتها أنها أخيرًا اكتشفت " كيف أبدأ (في سن الأربعين) قول شيء بصوتي الخاص."
عندما فكرت فى كتابة غرفة يعقوب عام 1920، كانت وولف قد نشرت بالفعل روايتين تُعدّان تقليديتين إلى حدّ ما (رغم أن الحبكة الظاهرية حول الزواج في روايتها الأولى الخروج في رحلة تخرج عن مسارها بسبب الوفاة المبكرة لبطلتها)، بالإضافة إلى عشرات المقالات والمراجعات، وكانت أيضًا الشريكة المؤسسة لمطبعة "هوجارث برس". أطلقت فرجينيا وليونارد المطبعة بمنشور صغير يحتوي على قصة لكل منهما: "العلامة على الجدار" لفرجينيا، و"ثلاثة يهود" لليونارد.
وبينما كانت تبدأ في التفكير بالعمل الذي سيصبح لاحقًا غرفة يعقوب، كانت وولف تعيد قراءة روايتيها الأولى والثانية، إذ كان ناشر أمريكي قد وافق للتو على إصدار الروايتين في الولايات المتحدة (وكانتا قد نُشرتا في بريطانيا من قبل دار "داكوورث"، وهي الدار التي أسسها أخوها غير الشقيق جيرالد). وطلبت من أصدقائها أن ينبهوها إلى أية أخطاء مطبعية قبل أن تُرسل الكتابين إلى أمريكا. وقد أسعدها تعليق ليتون ستراشي حين قال، بعد إعادة قراءته الخروج في رحلة، إنه وجدها "رائعة للغاية"، وأعجبه على وجه الخصوص "سُخريتك من آل دالاوي".
تظهر كلاريسا دالاوي، أشهر شخصيات وولف، بشكل عابر لكنه لافت للنظر في رواية الخروج في رحلة، حيث تبدو شخصية ساحرة ترافق زوجها السياسي ريتشارد على متن سفينة تجارية متجهة إلى أمريكا الجنوبية. كشفت وولف لشقيقتها فانيسا بيل أن كلاريسا مستوحاة من صديقة لهما في الصبا تُدعى كيتي ماكسي (المعروفة قبل الزواج باسم لوشينجتون).وقد ذكرت وولف في مذكّراتها كيف أن مائدة الشاي في بيت والديها الشاهق في 22 شارع هايد بارك جيت كانت "مُفعمة بسيل آسر من الجمال الأنثوي"، وكانت كيتي لوشينجتون بلا شك "النموذج الأكمل للظرافة والرقة والسحر والتميز".
كانت كيتي من بين الذين رفضوا انتقال الأخوين ستيفن الصغيرين إلى بلومزبري عام ١٩٠٤ بعد وفاة والدهم، الأديب البارز في أواخر العصر الفيكتوري، السير ليزلي ستيفن. وعبر الأحاديث المتناقلة، سمعت وولف أن كيتي لم تُعجب بروايتها الثانية "ليل ونهار" — وهو أمر رأى فيه ليونارد بسخرية مديحًا لا بأس به.
جاء نص صفحة الدفتر كما يلي:
6 أكتوبر 1922. أفكار حول بدء كتاب قد يُدعى، ربما، في البيت أو الحفلة:
سيكون هذا كتابًا قصيرًا يتألف من ستة أو سبعة فصول، كل فصل مكتمل بذاته، ومع ذلك لا بد من وجود نوع من الاندماج. ويجب أن تتقاطع جميعها عند الحفلة في النهاية.
فكرتي هي أن أضم بعض الشخصيات البارزة جدًا [ ] مثل مدام دالاوي: ثم أن أُدرج فواصل من التأمل، أو التفكير، أو استطرادات قصيرة (يجب أن تكون مترابطة منطقيًا مع البقية) كلها مضغوطة، ولكن دون فجاجة أو انقطاع مفاجئ.
قد تكون الفصول على النحو التالي..
1. مدام دالاوي في شارع بوند.
2. رئيس الوزراء.
3. الأجداد.
4. حوار.
5. العجائز.
6. منزل ريفي؟
7. زهور مقطوفة.
8. الحفلة.
فصل واحد على الأقل، يُفترض إنجازه في غضون شهر تقريبًا: لكن هذه الخطة ينبغي أن تتيح صفحات قصيرة جدًا: فواصل، لا فصول كاملة. يجب أن يكون هناك شيء من المتعة –"
***
..........................
* كتاب" مدام دالاوي: سيرة رواية " من تأليف مارك هَاسي سيصدر عن منشورات جامعة مانشستر في 8 يوليو 2025
الكاتب: مارك هاسي/Mark hussey: مارك هاسي أستاذ فخري متميز للغة الإنجليزية في جامعة بيس بنيويورك. وهو المحرر المؤسس لمجلة وولف للدراسات السنوية، والمحرر العام لطبعة هاركورت المشروحة لأعمال فرجينيا وولف، التي حرر فيها كتاب "إلى الفنار". من بين منشوراته الأخيرة: كليف بيل ونشأة الحداثة (2022) وثقافات الطباعة في الحداثة (بالتعاون مع فاي هاميل، 2016).
رابط المقال: