شهادات ومذكرات

فالح الحمــراني: ميخائيل بولغاكوف وشبح ستالين

بعد الحملة التي شنها النقد الروسي عليه ومنع عروض مسرحياته ونشر أعماله القصصية وإقصاءه عن العمل في المسرح كتب الأديب الكبير صاحب الأعمال الرواية والمسرحية الهامة مثل " الماستر ومرغريتا" و" الحرس الأبيض" و" قلب كلب" " والهروب "ومسرحية "دون كيشوت " وغيرها قدم ميخائيل افناسوفيتش بولغاكوف فب 28 اذار/ مارس 1930 رسالة الى الحكومة السوفياتية، يطلب بها السماح له بمغادرة البلاد والتوجه الى احدى الدول الأجنبية وكان على يقين إن رسالته ستصل الى يوسف ستالين. وفعلا اتصل ستالين بنفسه بالأديب الكبير وأوصاه بتقديم طلب للعمل في مسرح موسكو الفني. وبعد استئناف العمل هناك وفي غيره من المسارح، ولكن العلاقة بين الحاكم والأديب ظلت متشنجة، مرة يمد له الحبل وأخرى يجره الى منتهاه. ودخلت حياة بولغا كوف في ممر مظلم وراح يطاره شبح ستالين الذي يظهر مهددا أو مشجعا ويختفي لا يتيح له لحظة لقاء حقيقية لحديث جدي وجوهري.
وتعد علاقة ستالين بالمثقفين والثقافة عموما احدى الجوانب الخطيرة في سيرته، فخلال حكمه أهدرت دماء كبار الشعراء والروائيين والفلاسفة وعلماء اللغة والعلوم الطبيعية أو اضطروا للهجرة، وهو أيضا احتضن أسماء وداهن أخرى، وعلاقاته بالأديب الكبير صاحب الأعمال الرواية والمسرحية الهامة مثل " الماستر ومارجريتا" و" الحرس الأبيض" و" قلب كلب" ومسرحيه "دون كيشوت " وسيرة مولير... وغيرها ميخائيل افناسوفيتش بولغاكوف صفحة يسودها الغموض.
إن دور ستالين في تاريخ روسيا الحديث كان وما يزال وسيظل مثارا للجدل فهو شخصية غامضة. وهناك الكثير من ممارساته التي تستحق الشجب والإدانة، لكن الحقيقة التي لا تقبل الجدل أنه أصبح بحلول نهاية ثلاثينيات القرن العشرين الشخص الذي يمتلك فعليا كل السلطة في البلاد. ومن الحقائق التي لا جدال فيها أيضًا أن غالبية الشعب السوفييتي كانت حينذاك موافقة على ذلك الوضع.
بولغاكوف
عاش الاديب الروسي الكبير ميخائيل بولغاكوف (1891¬ـ 1940) في زمن صعب، تحولت فيه عبقريته الفنية الى صليب ثقيل يجره، وتعاملت السلطات معه بقسوة. وأعجب ستالين بأدبه وكمال فنه، لكنه كان يمقته كخصم عقائدي ينظر للعالم من زاوية أخرى ويحدد أولوياتها من وجهة نظر مبدع لا من مقاييس حزبية، انها مقاييس الفنان الحر. بيد إن "المخطوطات لن تحترق" كما يقول بطل أحد قصصه، فجاءت الحياة الأخرى لبولغاكوف بعد رحيله من عالمنا المضطرب، حين استجاب الجمهور القارئ بقوة لمؤلفاته. ولحد اليوم تغص المكتبات بأعماله بمختلف الطبعات وتحولت بعضها لمسرحيات وأخرى لأفلام وأظهر استطلاع ان بولغاكوف مدرج في لائحة أفضل عشرة كتاب روس في القرن العشرين. وتواصل مراكز البحث في أفضل الجامعات حل لغز روايته الشهيرة " الماستر ومارجريتا" " اعقد عمل أدبي في القرن العشرين". علما ان مؤلفاته لم ترَ النور بصورتها النهائية إلا بعد انطلاقة إعادة البناء (البيريسترويكا) والجلاسنت التي دشنها الرئيس ميخائيل السوفياتي جورباتشوف في عام 1985.
وتعرضت أعمال بولغاكوف الروائية والمسرحية في عصر الاتحاد السوفياتي السابق للشطب والاختصار، وصدرت حينها ناقصة ومشوهة وتباينت المواقف من أعماله الأدبية وأثيرت حولها السجالات، نظرا للغموض الذي يحف مضامينها ويوفر التعددية في قراءتها وتفسيرها. بيد أن أجواءها تسربلت بالشفافية والبساطة الحياتية حيث تركت مهنته كطبيب بصماتها عليها. فالمكان في قصصه: كييف وموسكو، والموضوع الأثير لديه: سخريات شيطان ذكي وفنان عاجز ومحجوز في دار المجانين، والأبطال الذين تعج بهم أعماله مولير وبوشكين ودون كيشوت وبقايا الحرس الأبيض والمهاجرون الروس، وهم لا يطلبون شيئا، بل يقفون بانتظار من سيأتي في منحهم هباته، وهكذا في كل مكان. كانو فيه. إن بولغاكوف لم يضع في مهامه مواجهة السلطة فهو لم ينخرط في نضال سياسي، بل كرس حياته للأدب. الأدب الخلاق الذي يصطدم القارئ ويعيد بناء رؤيته للعالم.
المعبود
وكان ستالين معبود بولغاكوف وبطل أخر أعماله، مسرحية "باتوم"، رغم إن (شاريكوف) بطل قصته "قلب كلب"، الكلب الذي حاول البرفيسور بريوبريجينسكي تحويله الى بشر، اثأر التداعيات السلبية عن الواقع السوفياتي الذي خلقته ثورة أكتوبر البلشفية وصرخة باستحالة تغير جوهر الأنسان وإنما يمكن تطويره في ظروف معينة، وتضمنت أعماله الرئيسية نصوصا توحي بالكثير. لكن هذا الأديب لم يستطع تحدي عصره، وكل ما كان بمقدوره أن يفعله وكأي فنان هو طرح قضايا ملحة تشغله وتشغل عصره ويكون شاهدا عليه (العصر) مفكرا وكاتبا، يطلع الناس على رؤيته لتوسيع بصيرتهم. وأقصى ما كان يرجوه ألا يُزج به ومن دون ارتكابه جريمة في سجن أو معسكر عمل إجباري وألا تصادر مخطوطاته." عصار روحه ودماغه" كما جرى الزج بالكثير من الأدباء والمفكرين والشعراء او إقصائهم عن الحياة.
تخرج بولغاكوف عام 1916 من كلية الطب في جامعة كييف ومارس مهنته حتى عام 1919 ليتفرغ للأدب. وشاهد الفظائع التي ارتكبت باسم الثورة، وتدمير بحجة الدفاع عن الثقافة البروليتاريا، تراث ثقافي افتخرت به روسيا فقابل عالمه بسخرية لاذعة. وفي عام 1921 عرضت روايته (أيام عائلة توربين) الشهيرة التي تناولت عالم الجيش الأبيض، في المسرح الفني، في موسكو وعرضت مسرح "فوختانجوف" مسرحية "شقة زايكين" وشاهد ستالين المسرحيتين عشرات المرات لإعجابه الشديد بهما، رغم انهما تعرضان بجوانب من الحياة السوفياتية. وفي عام 1920 باشر في كتابة رائعته" ماستر ومارجريتا" " (المعلم ومارجريتا) وعمل في الوقت نفسه مساعد مخرج في المسرح الفني الي جانب ستانسلافسكي. ولم تنشر "المعلم ومارجريتا" الا في عام 1967.
شبح ستالين
وصدر في موسكو كتاب يضم رسائل الأديب الروسي ميخائيل بولغاكوف والمذكرات التي سجلتها زوجته عنه التي نشرت لأول مرة لتلقي المزيد من الضوء على علاقته المعقدة بجوزيف ستالين التي تعد واحدة من أكثر صفحات حياته مأساوية. فكرة واحدة ظلت تراود بولغاكوف وتقض مضجعه وهو على فراش الموت يلفظ أنفاسه الأخيرة، وكاد يفقد نظره تماما: لقد أفلتت الأمور من يدي، لقد فشلت في الحديث مع ستالين. بيد إن الحوار الذي استمر بين الاديب وستالين ظل متوترا على مدى عشر سنوات، دون ان يسمع الكلمة الاخيرة التي انتظرها بولغاكوف فشبح ستالين كدكتاتور وكشخصية تاريخية كان لها دور في مسرحية التاريخ، كانت تطارده.
وتعرض رسائل الأديب المشهور ومذكرات زوجته موت روح الأديب قبل أن يفارق جسده الحياة. والجانب الاكثر اثارة في الكتاب تلك المذكرات المتفرقة التي طلب من زوجته تدوينها حينما شعر بدنو النزع الاخير. ولاحت الضربة الاخيرة في المبارزة بين الاديب والسلطة كأنها قدر محتوم. فلم يسمح الا بعرض مسرحيات معدودة من اعماله، ولم تسمح الرقابة بطبع أي من رواياته.
وفي نهاية الأمر راهن بولغاكوف بكل شيء وكتب "باتوم" المسرحية التي كرسها لسيرة ستالين الشخصية في مطلع شبابه في القوقاز، علها تشفع له. ولكنه تسلم في 15 آب/ أغسطس عام 1939 خبرا غير سار مفاده ان بطل"باتوم" (ستالين) منع وضع المسرحية التي تناولت سيرته. ولم يرافق المنع أية تفسيرات، فربما كانت المسرحية ناقصة في تناولها للموضوع. لقد كان ستالين يهتم جدا بكل ما يكتب عنه، لكي يتناسب والصورة الوهمية التي رسمتها الماكنة الإعلامية عنه بذهن الجماهير (كان ستالين يقول إن الصورة التي رسمتها الجماهير عنه غير ستالين الحقيقي)، أو لان بولغاكوف انتهك قواعد اللعبة القائمة حينها بين القط والفأر. لقد كانت تلك بداية النهاية. وظل يتساءل من زوجته التي كانت دائما بجواره، وهما في حافلة كانت تقله وهو عائد لبيته: إلي أين نذهب؟ إلى الموت؟ لقد ساوره الشعور بانه ميت، وراح يتجرع الموت فعلا، ففقد بصره، وعانى من صداع الشقيقة، التي زادها بعد وقت سريع آلام في الظهر. واستولي عليه مجددا الخوف والكآبة. لقد كانت تلك أعراض مرض نفسي، وأدرك المحيطون به ذلك. ووجه ثلاثة من أصدقائه، من ممثلي المسرح الفني، رسالة التماس إلي سكرتير يوسف ستالين طلبوا بها تدخل ستالين، فذلك الأمل الوحيد لإنقاذ الأديب الكبير وسيكون منعطفا قويا وإيجابيا يمكن أن يعيد حب الحياة لبولغاكوف. وعُـقدت حينها الآمال على تكرار المعجزة التي وقعت عام 1930، حينما رد ستالين علي رسالة الأديب اليائسة بمكالمة تليفونية، تم بعدها عين بولغاكوف في المسرح الفني الذي كان يديره ستانسلافسكي والسماح للنظر بعرض عدد من مسرحياته. ولكن ستالين اكتفى هذه المرة بالاعتراف علنا بان" باتوم "مسرحية جيدة، مما جعل قراره بمنع عرضها يبدو قرار غير مفهوم. ولم يساعد ذلك الرأي على انتشال الأديب من تلك الهاوية التي راح يسقط بسرعة في أعماقها. وظل بولغاكوف ينتظر دعوة ستالين للقاء به منذ 18 أبريل/نيسان 1930 حينما رن الهاتف في شقة بولغاكوف. الاتصال من ديوان القائد. اخذ ستالين بنفسه الهاتف " تريد الرحيل؟" ومن ثم بصوت فيه شيء من الاعتذار " هل أزعجناك للغاية؟". فرد عليه بولغاكوف انطلاقا من أيمانه العميق، بان على الكاتب الروسي العيش بروسيا. وبلغ بولغاكوف ستالين عن رغبته العمل في المسرح فأشار عليه ستالين بتقديم طلب للعمل بالمسرح الفني. واختتم ستالين المحادثة بالقول" علينا الالتقاء والحديث معك "فرد بولغاكوف " نعم نعم من الضروري الحديث معكم" ستالين" نعم. ينبغي إيجاد الوقت والالتقاء، حتما". وظل الكاتب الكبير ينتظر متى تحين الفرصة!
نهاية المبارزة
وبذل بولغاكوف على فراش الموت مجهودا مضاعفا لوضع اللمسات الأخيرة على رائعته "المعلم ومارجريتا" وقال لزوجته: إنني علي استعداد للتضحية بكل شيء بالرواية وبالنظر مقابل أن تزول عني آلام الرأس الفظيعة. ويصبح أحيانا بعد تناوله جرعة من المهدئات شديدة التأثر والحساسية، ويستعيد مرارة الواقع: المسرح والحرب الأهلية وستالين. وسرد على زوجته قبل يومين من موته حلما راوده: كنت واقف وسط حجر جميل رمادي. أردتِ ان اتحدت لستالين، أردت أن يقول لي بنفسه شيئا ما، لكني لم أفلح جره للحديث، وسيكون الحلم واضحا حين تفسيره وفق نظرية يونج، وهو مشابه لحلم بونتيا بيلاتا احد أبطال روايته "المعلم ومارجريتا" الذي تحقق في الواقع. ويواصل بولغاكوف بإصرار الحوار، ولكن هذه المرة وهو على شفرة الموت. لقد كان ستالين بالنسبة له القوى العليا الخرافية التي بمقدورها وحدها الحكم علي أعماله وتقييمها.
ولم يتم بينهما اللقاء الذي عقد الأديب عليه الآمال الكبير، ولذلك فان بولغاكوف يرتب ذلك اللقاء بمخيلته (كان بمقدوري أن أرد.، دون شك كان بمقدوري أن أرد ليعرف الجميع ذلك. (من سيأخذني من سيستقبلنا؟، ولا أتمنى الشر لاحد وبعدها غدت الكلمات مبهمة. ينادي زوجته ويحاول كل مرة أن يقبض على السكين. وعقب ذلك صرخة (النور) إنها صرخة بطل مسرحيته (موليير قبيل موته. ورددت زوجته في الساعة 39، 16 في العاشر من مارس عام 1940 جملة واحدة "لقد مات ميشا" (اسم التحبب لميخائيل) ورن في اليوم التالي جرس التليفون في المسرح الفني، وجاء صوت سكرتير ستالين علي الخط ليتساءل، أصحيح أن الرفيق بولغاكوف قد رحل. وجاء الرد حزينا: نعم صحيح. ولف الصمت الجهة الأخرى من الخط. انتهت المبارزة، وسقط الأديب دون يسمع الكلمة الأخيرة.
والسؤال يظل ماثلا عن موقف ستالين الحقيقي من ستالين. هل هو الشيطان الذي هبط على الأرض (كما في روايته المعلم ومارجريتا) لكي يقوم بدور المصلح على الأرض (الروسية) وينشر العدالة والمساواة؟.
***
د. فالح الحمــراني

في المثقف اليوم