شهادات ومذكرات
حكمة حارس الحقيقة إدوارد آبي / ترجمة: محمد غنيم

حكمة خالدة من حارس الحديقة الذي ألهم الأجيال
بقلم: ماريا بوبوفا
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
في صيف ما بعد تخرجه من المدرسة الثانوية، وهو يعلم أنه سيواجه التجنيد الإجباري في الجيش فور بلوغه الثامنة عشرة، انطلق إدوارد آبي (29 يناير 1927 – 14 مارس 1989) ليتعرف الأرض التي طُلب منه أن يموت من أجلها. سافر متطفلًا على السيارات، وركب قطارات الشحن، وتنقل في حافلات متهالكة، وسار أميالًا طويلة تحت شمس الجنوب الغربي الأمريكي الحارقة.
وعند عودته إلى منزله في بنسلفانيا، جرى تجنيده على الفور، فقضى عامين مترددين كشرطي عسكري في إيطاليا المحتلة. كان متمرّدًا على السلطة ومعارضًا للحرب، مما أدى إلى تخفيض رتبته مرتين، إلى أن تم تسريحه بشرف "بسبب تسريح الجنود". وعندما تلقّى أوراق التسريح، كتب على الظرف بحروف كبيرة وواضحة: "يُعاد إلى المرسل"، في إشارة إلى أنه لم يكن يومًا راغبًا في الوظيفة التي يجري الاستغناء عنه منها.
لاحظ مكتب التحقيقات الفيدرالي ذلك وفتح له ملفًا، أضافوا إليه لاحقًا أنشطته، مثل تنظيمه "حركة السلام العالمي" في جامعته، وأعماله في العصيان المدني لحماية الغابات العتيقة من منشار الشركات، وحضوره مؤتمرًا لحماية الأطفال في فيينا، وُصفت كل تلك الأنشطة بأنها "مبادرة شيوعية".
حتى في سنوات مراهقته، أدرك آبي أن الإيديولوجيات لا تُهزم بالسلاح، بل بالأفكار، فاختار أن يتحدّى النظام من داخله فالتحق بجامعة نيو مكسيكو لدراسة الفلسفة والأدب مستفيدًا من منحة المحاربين القدامى. قضى بقية عقده الثاني متنقلًا بين البلدان، وقد أسرته اسكتلندا على وجه الخصوص، فانشغل بالتأمل في معنى الحياة وما يجعلها جديرة بأن تُعاش، وظل يحلم بأن يصبح كاتبًا.
لكن حين تولّى وظيفة حارس متنزه في سن الثلاثين، وجد المادة التي شكّلت نواة كتابه الأول (عزلة الصحراء)، وهو عمل أخّاذ ألهم أجيالًا من الكتّاب والناشطين البيئيين، من بينهم ويندل بيري، جاري سنايدر، شيريل سترايد، وريبيكا سولتنيت.
وعلى مدار حياته، دوّن آبي يوميات شكّلت تحفة متفرّدة في سجلّ المذكرات البارزة، نُشرت مختارات منها بعد وفاته تحت عنوان: (اعترافات همجي). في إحدى تدويناته، التي خطّها قبيل عيد ميلاده الخامس والعشرين، في وقت يشعر فيه معظمنا بأننا لا نُقهر وبأن الحياة تمتد بلا نهاية، تأمّل آبي في معنى النهاية والموت.
كيف تموت - ولكن أولاً، كيف لا تموت:
ليس على سرير قديم متعفن، غارق في الدماء، في غرفة دار رعاية، وسط أرواح مترنحة تتخبط حولك في محيط مثقل بالافتتان المرضي بالألم والخطيئة والندم، وجوه باردة سريرية، غدد دمعية تعمل بآلية رتيبة، وكاهن مترهل يضع يده على القلب العاري.
ليس في بياض ثلجي تحت أضواء مقوسة وكشافات سينمائية وبث تلفزيوني مباشر. لا، أبدًا، ليس وسط روائح المستشفيات المعقمة، ولا تحت أعين طبية باردة تتابع التفاصيل بدقة، تُطيل العذاب بالإبر المحسوبة، في زنزانة بيضاء متقشفة، جامدة ونشوية، لا.
ليس في أوحال المعركة، حيث الدم يمتزج بأشلاء القتلى ودماء الآخرين، الأحشاء، العظام، الطين، والفضلات، في رائحة الهواء المهترئ الممزق بالقصف؛ ولا في اختناق المدن المنهارة حيث تنهار الجدران وتسقط الثريات متحطمة، مدفونًا تحت الأنقاض مع مليون آخرين، لا.
ولا في جريمة قتل قانونية—ما أقبح مثل هذه الشهادة وما أفظعها—على طول ممر مظلم، وسط همسات مؤمنين يتحدثون بصوت خافت، تحت أضواء ساطعة، مشهد بارد، عرض رسمي كئيب، رجال شرطة ضخام الأجساد، يقودون الطقوس الصامتة بحركات صارمة، طاحونة القضاء تطحن بعظم قبضة، وشرطي فظ غليظ يراقب كل شيء، لا، ليس هكذا، أبدًا.
ولكن كيف:
وحيدًا، بوقار، ذئبٌ على صخرة، هرمٌ، شاحبٌ وجاف، عظامٌ يابسة تتنافر داخل جرابٍ جلدي، عيناه متقدتان، عالٍ، باردٌ، بعيدٌ، في مدىً ضبابي، وحيدٌ، حرٌّ كذئبٍ يحتضر على صخرةٍ باهتةٍ جافة، يغرغر بهدوء بين تقلصات الألم ونشوة الجمال؛ وعندما يزحف أول ومضٍ للكراهية، ينزلق الجسد العجوز عديم النفع إلى الفضاء، هادئًا، مستسلمًا، متدحرجًا، يلمح للمرة الأخيرة زرقة المساء والصخور البعيدة الوحيدة في الأسفل—قبل الارتطام، قبل…
ولا أحد ليقول "لا"، لا أحد.
بعيدًا هناك، في زرقة المساء، في العتمة الخافتة.
حين رحل بعد عمرٍ طويل، وحيدًا في منزله الصحراوي، ترك آبي رسالة ماكرة لكل من يبحث عن كلماته الأخيرة: "لا تعليق." أوصى بأن يُستخدم جسده "عديم النفع" ليساهم في إنبات صبار أو ورد صخري أو شجيرة مريمية أو شجرة، أي شجرة. رافضًا أن يكون جزءًا من صناعة الجنازات، بتحنيطها وتوابيتها، طلب من أصدقائه أن يتجاهلوا القوانين، أن يلفوه في كيس نومه الأزرق المفضل، ويدفنوه مباشرة في الأرض العطشى.
أما إذا أقيم له مأتم، فقد أراده بسيطًا، قصيرًا، ومبهجًا، بموسيقى القِرب، و"كثيرٍ من الغناء، والرقص، والحديث، والصياح، والضحك، وصُنع الحب"، بلا خطبٍ رسمية—"رغم أن الفقيد لن يعترض إن شعر أحدهم بالرغبة في إلقاء كلمة."
وحين أُقيم المأتم في منتزه الأقواس الوطني، حيث وجد صوته ككاتب، كان ويندل بيري وتيري تيمبست ويليامز من بين الذين لم يستطيعوا مقاومة الرغبة في الحديث.
بعد زمنٍ طويل من صياغته رؤيته المتقدة حول كيفية (وعدم) مواجهة الموت، وقبيل أن يعيد ذراته المستعارة إلى الأرض، قدّم آبي أفضل نصائحه عن الحياة في خطابٍ ألقاه أمام جمعٍ من الناشطين البيئيين:
ليس كافيًا أن تناضل من أجل الأرض؛ بل الأهم أن تنعم بها. ما دمت قادرًا. وما دامت باقية.
لذا... انطلقوا بعيدًا، استكشفوا الغابات، تسلقوا الجبال، ارتقوا القمم، اجتازوا الأنهار، تنفسوا بعمق ذلك الهواء الذي لا يزال نقيًا وعذبًا وصافيًا، اجلسوا بهدوء لبعض الوقت وتأملوا تلك السكينة الثمينة، ذلك الاتساع الجميل، الغامض، والمهيب.
استمتعوا بوجودكم، حافظوا على عقولكم في رؤوسكم، ورؤوسكم ثابتة على أجسادكم، وأجسادكم نشطة وحية، وأعدكم بهذا الأمر الوحيد؛ أعدكم بهذا الانتصار الحلو على أعدائنا، على أولئك الذين تقيدهم مكاتبهم، وقد أودعوا قلوبهم في صناديق أمانات، وأصبحت أعينهم مسحورة بشاشات الحساب. أعدكم بهذا: سوف تعيشون أطول منهم، هؤلاء الأوغاد.
(تمت)
***
* إدوارد بول آبي (29 يناير 1927 – 14 مارس 1989) كاتب ومؤلف مقالات أمريكي، عُرف بدفاعه عن القضايا البيئية وانتقاده لسياسات إدارة الأراضي العامة، إضافة إلى توجهاته الفوضوية في الفكر السياسي. من أشهر مؤلفاته رواية عصبة مفتعلي الأعطال، التي كانت مصدر إلهام لجماعات بيئية متطرفة، وكتاب عزلة الصحراء، وهو عمل غير روائي. وُلِد إدوارد آبي في إنديانا، بنسلفانيا، في 29 يناير 1927، لأبوين هما ميلدريد بوستلوات وبول ريفير آبي. كانت والدته معلمة وعازفة أرغن في الكنيسة، وغرست فيه حب الموسيقى الكلاسيكية والأدب، بينما كان والده اشتراكيًا وفوضويًا وملحدًا، ما أثر بشدة على أفكار آبي ومعتقداته.
الكاتبة: ماريا بوبوفا/ Maria Popova: ماريا بوبوفا (بالبلغارية: Мария Попова؛ مواليد 28 يوليو 1984) كاتبة مقالات، ومؤلفة كتب، وشاعرة بلغارية المولد تقيم في الولايات المتحدة، وتُعرف بتعليقاتها الأدبية والفنية ونقدها الثقافي، الذي لاقى استحسانًا واسعًا، سواء من حيث محتوى كتاباتها أو الأسلوب البصري الذي يرافقها.