قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: دراسةً نقديّةً موسَّعة لقصيدة "الحجازي"

قراءة تمزج بين الهيرمينوطيقيّة التأويليّة، والتحليل الأسلوبي، والرمزي
من الجدير بالذكر ان قصيدة (الحجازي) للشاعر السوداني محمد عبد الباري تفرض غلينا أن نلقي عليها إضاءة للبُنى النفسيّة (التحليل الأركيتيبيّ/اليونغيّ) التي تتحرّك تحت نصّ كتب بلغةِ باذخة “الحجازيّ” لمحمد عبد الباري.
- تمهيد: أطروحة القراءة:
تتمحور القصيدة حول “أنا” شعرية تتخلّق في فضاء كونيّ دينيّ ـ أسطوريّ، تُجرِّبُ الهبوطَ والصعود، الدورانَ والانشقاق، لتصوغ لنفسها مقامًا بين اللغة والوجود، وبين التاريخ والقداسة. “الحجازيّ” هنا ليس وصفاً جغرافياً بل اسماً لرحلة: من ماء البدء إلى نار القرابين، ومن “يثرب البدايات” إلى “غرناطة وبخارى”؛ أي من أصل النبوّة إلى أطراف الحضارة. الأطروحة: يبني الشاعر ذاتًا كونيةً بتقنية “التديّن الشعري” التي تُزاوج بين تناصٍّ كتابيّ (توراتي/إنجيلي/قرآني) ورؤيا يونغيّة للأركيتايب (البطل، الهادي، الجبل، الكأس، الدوران)، فيما تتولّى اللغة ـ بوصفها “وجوداً ” ـ القيام بوظيفة الخلق ثانياً.
أولًا: منهج القراءة:
1. هيرمينوطيقا المعنى المتولِّد: نفهم الأقسام الثلاثة للقصيدة بوصفها دوراتٍ في “دائرة الفهم”حول ماكتبه الفيلسوف الألماني (هانز جورج غادامير): سؤالٌ كونيّ، جوابٌ أسطوريّ/دينيّ، ثم ارتدادٌ وجوديّ على شروط المعنى والحرّية.
2. أسلوبيّات الأداء: رصد البنية الإيقاعيّة/القافية، الحقول المعجميّة (العناصر الأربعة، الزمن الكوني، أسماء القداسة)، والتوازي التركيبي.
3. الرمز والأركيتايب: تحليل عناصر الماء/التراب/النار/الهواء (باشلار)، ورموز الكأس والجبل والدوران و”حارس الفتوحات”، مع استراتيجيات “التشاكل” بين التجربة الفردية والذاكرة الجمعية.
4. نفس-رمزي (يونغ/ريكور): الأنا الأسطوريّة، الاستعارة الحيّة كمولّد للهوية.
ثانياً: المعمار العام للنص:
القصيدة مؤلَّفة من ثلاثة مقاطع تفصلها علامتا ***. لكلّ مقطع وظيفة:
- المقطع الأول: كوسموغونيا شعرية (سرد خلقٍ شخصيّ)، يقول:
“كنتُ ماءً… قبل أن تصبح البحار بحارا”
تظهر الأنا قبل الكون المتعيّن: ماء/دوار/هبوط/جبل/برق/كأس. هذه جميعًا “سلالم للظهور”. يتقدّم المشهد عبر أفعال صيرورة (تجذّرتُ، قمتُ، جرّبتُ، دُرتُ)، وصولًا إلى:
“وتدرجتُ في المصابيح حتى رشحتني لكي أكون النهارا”
وهو إعلانُ اصطفاء عرفانيّ (تحوّل إلى ضياء).
- المقطع الثاني: كتابة القداسة في جسد التاريخ.يقول عبد الباري:
“يومَ تاب (اللاويّ)… في (العشاء الأخيرِ)… ثم دوّيتُ في الحجاز”
التناصّ الكتابيّ (اللاوي/العشاء الأخير) يلتقي بالنبوّيّ الإسلاميّ (الحجاز/يثرب). تُعاد كتابة الجغرافيا الروحية بوصفها انتشارًا للروح:
“منكِ يا يثربَ البدايات حتى غربِ غرناطةٍ وشرقِ بخارى”
فتُصبح الأنا “قنطرة” بين أصولٍ وأطراف، بين وحيٍ وتاريخ حضاري.
المقطع الثالث: ميثاق الحرّية والكشف:
تتحوّل الأنا إلى مشرّعٍ لشروط الحبّ/المعرفة والحرّية عبر سلسلة نفي شرطية “لستَ… لستِ…”. إنّه “قانون الكشف” الذي يرفض الوصال الناقص، يقول:
“لستِ حريّتي إذا لم تكوني ضدّ أن تألفَ النجومُ المدارا”
إنها حرّية تُقاوم الألفة الكسولة للمدار.
ثالثاً: تحليل هيرمينوطيقي مفصّل:
1) سؤال الأصل: الماء/الهبوط/الجبل
- الماء: بداية الوجود وعمق اللاوعي (“كنتُ ماءً”). عند باشلار، الماء أصلُ الأحلام ونبع المخيّلة؛ وهنا هو “دوّار” يسبق نظام البحار.
- الهبوط، يقول:
“يوم أهبطتُ لم يلح لي طريقٌ فتجذّرتُ في مكاني انتظارا”
هبوطٌ بلا دليل يفضي إلى تجذّر: تأويلياً، يشتغل الانتظار بوصفه صورةً مُؤسِّسةٍ للمعنى (الانتظار شرطُ الوحي).
- الجبل، يقول:
“للجبال أشارا… قلتُ فلأرتفع إليها غموضًا وصلاةً وحكمةً”
الجبل أركيتيب “العلوّ المعرفي”، والمفارقة أنّ الارتفاع يتمّ عبر “غموض وصلاة”؛ أي طريق باطنيّ لا برهانيّ.
- 2) الدوران وحارس الفتوحات: ابتلاء الشكل الكوني:
- الدوران، يقول:
“كم على الطين أن يدور إذا ما شاء أن يمسك المياه جرارا؟”
سؤال حارس الفتوحات يعرّف قانون الوجود: على الطين أن يتقن شكلَه (الجرّة) ليحفظ الماء. مجازًا: على الإنسان أن يجد هيئةً رمزية تحفظ المعنى.
- الحارس: أركيتيب “الشيخ/المُرشد” الذي يقدّم لغزًا تربويًا؛ والحلّ يأتي بالفعل، يقول الشاعر محمد عبد الباري:
“درتُ حتى لم يبق في الأرض شيءٌ يشتهي أن يكون إلا ودارا”
تتخلّق كونيّة الأنا بالدوران الشامل (سعيٌ صوفيّ لإحاطة الوجود).
- 3) التجلّي: من المصابيح إلى النهار
- الضوء يتدرّج (مصابيح ← نهار): تسلّق رمزي من المعرفة الجزئيّة إلى الكشف الكلّي. هنا يعملُ قانون “الاستعارة الحيّة” (ريكور): النور لا يُخبر فحسب، بل يُنجز وجودًا لغويًا جديدًا للذات.
- 4) كتابة القداسة عبر التناصّ:
(اللاويّ/العشاء الأخير): استدعاء التوراتي/الإنجيلي يُشيّد جسرًا مع الإسلاميّ (الحجاز/يثرب). هذا توحيدٌ سرديٌّ للأديان تحت لاهوت شعريّ تُديره “أنا” متضخّمة كونياً، يقول:
“إنني الأوّل… السلالات كلّها فيّ… ولدتُ مرارًا”
الولادات المتكرّرة هنا تناسخٌ مجازيّ لا ميتافيزيقيّ: إعادةُ ميلاد المعنى في أزمنة متعددة.
- 5) الجغرافيا الروحية: من يثرب إلى بخارى/غرناطة:
- خطٌّ روحيّ يربط مهد الإسلام بعتبات التصوّف والفقه (بخارى)، وذاكرة الأندلس (غرناطة). إنها خرائط للروح تُوسّع الحجاز إلى كوسمولوجيا.
- 6) اللغة كوجود، يقول:
“لغتي كانت الوجود تمامًا استدارت حيث الوجود استدارا”
اللغة لا تصف الوجود بل تلتفّ معه؛ لذلك تفيض الصورة: “لم أقل مرة هو الغيم إلّا فتحت نفسها السماء انهمارا”. الاستعارة هنا فاعلة: الكلمة تُحدث أثرًا كونياً.
- 7) الحجارة السود… جداراً:
“ورأيتُ الحجارة السود وافى بعضُها البعضَ ثم قامت جدارا”
صورة تشي بالحرم/الحجر الأسود أو الكعبة بإيحاء شديد التحفّظ؛ التجمّع الحجريّ ينهض جدارًا من قداسةٍ مشتركة، أي إن المعنى جمعيةُ حجارة لا حجرٌ واحد.
- 8) ميثاق الحرية والنفي الشرطيّ:
- القسم الثالث سلسلةُ شر
***
بقلم: عماد خالد رحمة - برلين