شهادات ومذكرات

عبد الحسين الطائي: ثمانون عاماً على رحيل الشاعر العراقي معروف الرصافي

مرت ذكرى رحيل شاعرنا الرصافي(1) هذا العام وتحديداً في 16 آذار 1945م، أُسدل الستار على حياة أحد أبرز شعراء العراق في العصر الحديث. عُرف بصوته الجريء الذي عبّر عن قضايا وهموم الناس السياسية والاجتماعية، حتى صار رمزاً للثورة الفكرية والاجتماعية. ولا تزال كلماته حيّة تُقرأ وتُلهم الأجيال، شاهدة على قوة كلماته في وجه الظلم والجهل والتبعية. عاش في ظروف سياسية مضطربة حبلى بمرارة الاحتلاليين العثماني والبريطاني، فكان صوته معبّراً عن طموحات الناس وآلامهم، منحازاً دوماً للفقراء والمحرومين.

وعندما احتل الإنكليز العراق حاولوا تهدئة الأمور بإعطاء العراقيين حكماً مقيداً، فنصبوا فيصل الأول ملكاً على البلاد، أدرك الرصافي استهانة الملك والحكومة بأمره وعدم منحه ما يستحقه من التقدير. لم يكن الرصافي شاعراً للمدح أو التملّق، بل كان شاعر موقف، سخر قلمه لخدمة قضايا الحرية، التعليم، التقدم، وكرامة الإنسان. دعا إلى تحرير العقل من الجهل والخرافة، وانتقد السلطات الحاكمة بشجاعة نادرة، فكان في حالة صراع دائم مع ساسة الحكم، حتى وهو عضو في المجلس النيابي العراقي.

وهناك مَنْ يرى أن الرصافي كان متجنياً وقاسياً في نقده للملك فيصل الأول، لقد سُجلت له مواقف شجاعة، ظل وفياً لقناعاته حتى آخر أيامه. قال متجنياً ناقماً مبيناً الحالة في العراق:

لنا ملك وليس له رعايـــــــــــــــــــــا

وأوطان وليس لها حــــــــــــــــــدود

*

وأجنــــــاد وليس لهم ســــــــــــــلاح

ومملكة وليس لها نقـــــــــــــــــــــود

ويقول:

وكــــم عند الحكومة من رجـــــــــالٍ

تراهم ســــــــادة وهم العبيـــــــــــــد

*

كلاب للأجــــــانب هم ولكــــــــــــن

على أبنـــــــــــاء جلدتهم أُســــــــود(2)

ولم تنطلِ عليه حقيقة الحكم الذي تألف في العراق سنة 1921، والاستقلال الشكلي، فوقف موقف المعارض الذي يشعر بمسؤولياته، وكشاعر قلبه مفعم بالاسى، وله رسالته تجاه الشعب والوطن يؤكد ان لا طاعة إلا لامور ثلاثة الدستور، والعدل، والحق:

شــكاية قـلـب بالأسى نابض العرق

إلى قـائـم الدســـــــتور والـعـدل والحــقِ

*

مـلـوك على كل الملـوك ثـلاثــــــة

لها الحكم دون الناس في الفـتْـق والرتـق

*

وأقســم أني لا أكــون لـغـــــــيرها

مطيعاً ولو من أجلها ضربـت عـنْــقي (3)

لا يخاف الرصافي وصف الواقع الرديء، ولا يخاف الظلم الذي سيقع عليه، وقف شامخاً ومعه الشعب العراقي، وعلى الرغم من أن البرلمان كان يضم العديد من الشخصيات الوطنية، إلا أن الرصافي في تحدٍ قوي يقف ضد اتباع الاستعمار، حيث أنشد قصيدته التي جاء فيها:

أنا بالحكــــــومة والسياسة أَعرَفُ

أَأُلامُ فــــي تفنيدهــــــــــــا وأُعنّـفُ

*

سأقولُ فيها ما أقول ولــم أخفْ

من أن يقولــــــوا شاعر مُـتـطرِّف

*

هذي حكومتنــا وكلُّ شموخِهــا

كذِبٌ، وكـل صنيعهـا مُـتـكـلَّف(4)

ويقول:

علم ودستور ومجلس أمــــــــــــة

كل عن المعنى الصحيح محـــرفُ

*

أسماء ليس لنا سوى ألفاظهــــــــا

أما معـــــــــــانيها فليست تعــــرفُ

*

من يقرأ الدستور يعلم أنــــــــــــه

وفقـــاً لصــك الانتداب مصنـــفُ(5)

فكان الدستور في نظره عبارة عن وثيقة جديدة للانتداب الذي فرضه الإنجليز على العراق، دستور مزيف وعلم الدولة مزيف هو الآخر، وحتى المجلس الذي يسمى بمجلس الأمة أيضا كان مزيفاً، فيصرخ ساخراً ويقول:

يا قومُ لا تتكلمـــــــــــــــــــــــــوا

إن الكـــــلام محـــــــــــــــــــرَّمُ

*

ناموا ولا تستيقظـــــــــــــــــــــوا

ما فـــــاز إلا النــــــــــــــــــــوَّمُ

*

وتأخرّوا عن كلّ مــــــــــــــــــــا

يقضي بــــأن تتقدمـــــــــــوا (6)

ويصور الرصافي عتو السلطات الحاكمة وظلمهما للشعب فيقول بلسان شعبه:

نعِـمــوا في غضـارة المـلك عيشاً

وحمـلنـــــا من دونهــــم أثـــقــــاله

*

ما بهم ما يميزهم عن بني الســــو

قةِ إلا رســوخهـم فــي الجهــالة(7)

لعب الرصافي دوراً مميزاً في نقده للوضع السياسي وللحياة التي يحياها الشعب، كان شاعر النهضة الوطنية منذ بزوغ حركة التحرر الوطني في العشرينات، وأحد دعاة الحرية، ومحاربة الاستبداد: (إن تاريخ الرصافي هو تاريخ الحركة السياسية في العراق الحديث، إذ أثر شعره في تفتح الرأي العربي العام وإلهاب الشعور الوطني والقومي،... وقد ناضل في سبيل أن يحظى هذا الوطن بالحرية والسيادة، ويبلغ الغاية المتوخاة بعز الأمة ورغدها)(8).

كان مصلحاً ثاثراً على تقاليد المجتمع البالية، مندفعاً، حراً في جرأته، صادقاً في التعبير عن رغبات المجتمع، فنظم الكثير من القصائد التحريضية ضد السلطات، داعياً الشعب إلى اليقظة والخروج من سبات الجهل والتضليل. فقد كانت المشكلات الاجتماعية متشابكة، والتأخر ساد جميع نواحي البلاد والوطنيون يريدون شعباً قوياً، ولكن المتحكمين في البلاد هم من الدخلاء والانتهازيين، فوقف الرصافي في تكريم أمين الريحاني عند قدومه إلى بغداد في أيلول سنة 1933 ونفسه تفيض حسرة وألماً فقال:

أأميـنُ جئــتَ إلى العـراق لكـي تـرى

ما فيــه من غُــررَ العــلى وحجـوله

*

عفــواً فــذاك النجــم أصبــح آفِـــــلاً

والقـوم مُحتــربـونَ بعــد أفُـــوله(9)

واسترسل في تشخيص العلة التي يعاني منها الوطن، وقد كان الملك فيصل حاضراً، وعندما تمادى الرصافي في كلامه، قام الملك وترك المجلس(10)، تعبيراً عن عدم ارتياحه:

مـن أيـنَ يُرجى للعــراق تقــــــــــدم

وسبيــل ممتــلكيــه غيــرُ سبيـــــــله

*

لا خيـر في وطن يكـون السيف عـنـ

ــد جبـــانـه، والمـال عنـد بخـــيــله

*

والرأي عندَ طـريـده، والـعـلــم عـنـ

ــد غريبه، والحكـــــــــم عند دخـيـله

*

وقد اســــــتبدّ قـلـيـلـهُ بكثـــــــــــيره

ظلمــاً، وذلَّ كثــــــيره لـقـلــيـلـه(11)

وشارك الرصافي، في القضايا السياسية والاجتماعية، ودعا إلى بناء المدارس ونشر العلم، ودعا فيها طالب العلم ألا يكون طلبه للعلم لذاته بل لغايات اجتماعية وذلك من خلال ربطه بالعمل كقوله:

ابْنوا المدارس واستقصوا بهــــا الأمَلا

حتى نُطـاولَ في بنيانها زُحَــــــــلا

*

جودوا عليها بما درَّت مكاسبكــــــــــم

وقابلـوا باحتقار كلَّ مـن بخــــــــلا

*

لا تجعلوا العلم فيها كـلّ غايتكــــــــــم

بل علِّموا النش‏ء علماً ينتج العمَــلا

*

إن كان للـجهــــل في أحـوالــــنا عـللٌ

فالعـلم كالـطب يشــفي تلكُـم العـللا

*

ســيروا إلى العلم فيها ســـير معتزمٍ

ثم اركبوا الليل في تحصيله جَملا(12)

ثمانون عاماً على رحيل شاعرنا الكبير معروف الرصافي، ولكن قلمهُ الذي حمله لا يزال حاضراً، والرسالة التي آمن بها ما زالت تلهم وتوقظ الضمائر، في زمن تتغير فيه الوجوه، يبقى الشعر الصادق صامداً أمام الزمن. ورغم عطائه الكبير انتهت حياته في عزلة شبه تامة، مهمشاً من قِبل الدولة والمجتمع، وكأن صوته العالي أزعج الجميع. لكنه لم يمت، بل بقيت أشعاره ومؤلفاته ناطقة بالحق، حاضرة في وجدان الأحرار.

ترك لنا إرثاً خالداً تناول فيه شتى المواضيع السياسية والاجتماعية والفكرية، وامتاز شعره بالوضوح والجرأة، ومن أشهر أعماله: ديوان معروف الرصافي، رسائل التعليق على نهج البلاغة، وكتاب الشخصية المحمدية، الذي أثار وما يزال جدلاً واسعاً، جعلته موضع نقد من بعض الأوساط الدينية والسياسية.

***

د. عبد الحسين الطائي

أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا

..........................

الهوامش:

1- هو معروف بن عبد الغني بن محمود الجباري، ولد في الأول من تموز 1875م، في جانب الرصافة من بغداد، ومنها استمد لقبه الذي أصبح أشهر من اسمه الكامل"معروف عبدالغني البغدادي"، وتوفي في 16 آذار عام 1945. نشأ في بيئة متواضعة، وتيتم في سنّ مبكرة، فتكفلت والدته برعايته. تلقى تعليمه الأولي في المدارس الدينية، وتعلم على يد عدد من العلماء والمشايخ، مما أكسبه ثقافة دينية وأدبية واسعة. ينظر: الكيلاني، إبراهيم، معروف الرصافي، دراسة أدبية نفسية واجتماعية، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1978، ص 48. وينظر: الحاوي، إيليا، معروف الرصافي الثائر والشاعر، ج1، دار الكتاب اللبناني، ط1، بيروت 1978، ص 8.

2- الرصافي، معروف: الديوان، م2، دار العودة، بيروت 1972، ص 399. من قصيدة (كيف نحن في العراق).

3- المصدر نفسه: ص 252. من قصيدة (شكوى إلى الدستور).

4- المصدر نفسه: ص 403. من قصيدة (حكومة الانتداب).

5- المصدر نفسه: ص 404.

6- المصدر نفسه: ص374. من قصيدة (الحرية في سياسة المستعمرين).

7- المصدر نفسه: ص 277. من قصيدة (آل السلطنة). معنى الحمالة: ما يتحمله المحاربون من ديات القتلى.

8- آل طعمة، سلمان عبد الهادي: دراسات في الشعر العراقي الحديث، دار البيان العربي للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، بيروت 1993، ص 76.

9- الرصافي: الديوان، م2، مصدر سابق، ص314. من قصيدة (تجاه الريحاني شكواي العامة). وينظر: عزالدين، د. يوسف: تاريخ الفكر في العراق الحديث، مطبعة دار المعارف، بغداد 1976، ص 21.

10- عزالدين: مصدر سابق، ص 21.

11- الرصافي: الديوان، م2، مصدر سابق، ص318.

12- الرصافي، معروف: الديوان، م1، دار العودة، بيروت 1972، ص 250. من قصيدة (المدارس ونهجها).

في المثقف اليوم