شهادات ومذكرات

علي حسين: في ذكرى ميلاد ابن سينا.. الطريق الصاعد إلى الحكمة

‏‏قبل الف عام قرر رجل بلغ الخمسين عاما، وأصدر ما يقارب 200 كتاب تنوعت موضوعاتها من الطب الى الفلسفة، ومن الموسيقى الى علم النفس، ومن علوم الطبيعيات الى اللغة الدين والفلك، ان يدون سيرة حياته، التي أنتهت بأن اصيب بمرض الصرع، وكان قبل مرضة باشهر كتب رسالة عن اعراض هذا المرض، وحين وصف له بعض الأصدقاء ادوية للشفاء قال لهم ": المدبر الذي في بدني قد عجز عن التدبير، فلا تنفعني المعالجة " .

‏يصفه لنا المؤرخون بانه طويل القامة قوي البنية، محبا للطعام والشراب ومعاشرة النساء، سريع القراءة، سريع الكتابة، واذا حصل على كتاب جديد، بحث عن الموضوعات الصعبة فيه . ما ان بلغ الخامسة عشر من عمره، حتى كان قد استوعب علوم الطب والمنطق والألهيات، وعندما تمكن من علاج سلطان بخارى "نوح بن منصور "سمح له بدخول مكتبة السلطان، ولأنه كان يتمتع بقوة ذاكرة استطاع ان يحفظ المئات من الكتب: " دخلت داراً ذات بيوت كثيرة، في كل بيت صناديق كتب منضدة بعضها على بعض، في بيت منها كتب العربية والشعر، وفي آخر الفقه، وكذلك في كل بيت علم مفرد فطالعت فهرست كتب الأولين، وطلبت ما أحتجت اليه منها، ورأيت من الكتب ما لم يقع اسمه إلى كثير من الناس قط، وما كنت رأيته من قبل ولا رأيته ايضا من بعد " .

‏ولد ابو علي الحسين بن عبد الله بن سينا في الثاني والعشرين من آب عام 980 ميلادية قرب مدينة بخارى، والاسم " سينا " يعني بلغة اهل بخارى بـ" المقاتل الشجاع "، كان ابوه من اهل بلخ، اعجب بالأسماعيليين فصار واحدا منهم: " وكان والدي ممن اجاب داعي الأسماعيلية، وقد سمع منهم ذكر النفس والعقل، على الوجه الذي يقولونه ويعرفونه هم به، وكذلك اخي، وكانوا يتذاكرون فيما بينهم، وانا اسمعهم، وادرك ما يقولونه، ولا تقبله نفسي " .

‏عندما بلغ العاشرة قال له ابوه: " سارسلك الى من يعلمك الحساب والمنطق "، كان المعلم رجلاً يبيع البصل في النهار، ويلقي محاضرات عن النفس والعقل والحساب في الليل، ثم جاء إلى بخارى ابو عبد الله الناتلي الذي كان يسمى انذاك بـ " المتفلسف " فاصر الأب ان يُضيفه في داره من اجل ان يعلم ابنه اصول التفلسف، إلا أن الفتى كان قد مر بتجربة اخرى، فقد استهواه الفقه فقرر دراسته: " ترددت على اسماعيل الزاهد، لاشتغله بالفقه، وكنت أجود السالكين، وقد ألفت طرق المطالبة، ووجوه الاعتراض على المجيب، على الوجه الذي جرت فيه عادة القوم به " .1857 cina

‏أخذ التلميذ الصغير يقرأ على استاذه " الناتلي " كتاب " إيساغوجي " في المنطق الذي وضعه " فرفوريوس الصوري " ليكون مدخلاً للمنطق. وكلمة إيساغوجي لفظة يونانية بمعني المقدمة، وكتاب " الاصول " في الهندسة لـ " اقليدس، وكتاب " المجسطي " في علم الهيئة، واكتشف الاستاذ ان التلميذ بذكائه الحاد يتفوق عليه في هذه العلوم، ثم ما لبث الوضع ان انقلب، فاصبح التلميذ معلما، والمعلم تلميذا، حيث اخذ التلميذ الصغير يوضح لمعلمه ما غمض من هذه العلوم، ويضع لها تفاسير وتأويلات لم يكن الاستاذ يعرفها من قبل، وفي ذلك يقول ابن سينا: " ثم ابتدأت بكتاب (ايساغوجي) على الناتلي . وكانت أي مسالة قالها لي أتصورها خيراً منه، حتى قرأت مقدمات المنطق عليه، واما دقائقه، فلم يكن عنده منها خبرة . ثم اخذت اقرأ الكتب على نفسي، واطالع الشروح، حتى أحكمت علم المنطق، وكذلك كتاب أقليدس الذي توليت بنفسي حل مشكلاته، ثم أنتقلت الى المجسطي، ولما فرغت من مقدماته، وانتهيت الى الاشكال الهندسية، قال لي الناتلي: (تول قراءتها، وحلها بنفسك، ثم اعرضها عليَ، لأبينَ لك صوابها من خطئها)، وأخذت أحل ذلك الكتاب .فكم من مشكلة ما عرفها الى وقت ما عرضتها عليه، وفهمتها اياه " .

‏في السادسة عشر من عمره يعثر وبالصدفة على مخطوط يحل له لغز كتاب ما بعد الطبيعة لارسطو، كان ابن سينا قد قرا كتاب ارسطو اربعين مرة حتى حفظه عن ظهر قلب، ولكنه لم يفهم منه شيئا، وفي يوم من الايام ذهب الى سوق الوراقين، فعرض عليه احد نساخ الكتب، دفترا صغيرا بعنوان شرح ما بعد الطبيعة لارسطو، فرده الى البائع قائلاً: لافائدة من هذا العلم .فقال له الوراق اشتره بثلاثة دراهم لأنني محتاج إلى ثمنه، فاشتراه منه، وما ان فتح الصفحة الاولى حتى اثار اهتمامه العنوان " شروح على كتاب ارسطو ما بعد الطبيعة " المؤلف ابو نصر الفارابي، وكان الفارابي قد مات قبل 46 عاما . يسحره الكتاب، ويصف لنا شعوره وهو يقرا شروح الفارابي بقوله: " أسرعت الى البيت، ولم اخلع ملابسي حتى انتهيت من الكتاب، فانفتح علي ما استغلق في امر كتاب ارسطو ما بعد الطبيعة " . في السابعة عشر من عمره أهتم بدراسة الطب وقرأ كل ما يتعلق بهذا العلم: ": " رغبت في علم الطب وصرت اقرأ الكتب المصنفة فيه، وعلم الطب ليس من العلوم الصعبة، فلا جرم اني برزت فيه في اقل مدة، وتعهدت المرضى فانفتح علي من ابواب المعالجات المقتبسة من التجربة ما لايوصف " .ويستدعيه سلطان بخارى نوح بن منصور لمعالجتة من مرض الم به عجز الاطباء عن معالجته، وكان شفاء السلطان موضع دهشة واعجاب من الجميع، فتقلد ابن سينا منذ ذلك التاريخ مناصب رفيعة في الدولة .

‏بعد وفاة والده تحولت حياته الى سلسلة من المغامرات الغريبة، تنوعت ما بين التشرد والترحل من بلد الى بلد، ولما كان طوال حياته، قلقا، لا يرضى عن شيء، متمرداً، فانه كان يتلقى المنح والمراتب العالية حيناً، واحيان اخرى يعيش عيشة بائسة، مطاردا او حبيسا في احد سجون الامراء، يكتب ول ديورانت ان: " ابن سينا لم يعتد الحياة الهادئة المطمئنة، وهو الدائم التطلع الى العوالم المجهولة، والى الاجواء والاعمال التي تتجدد باستمرار " .

‏في كتابه تاريخ الفلسفة يكتب المستشرق الروسي ستكوفسكي: " حين كانت تسود اوربا بالقرون الوسطى نظرية واحدة، هي نظرية خلق العالم من العدم، كان الفلاسفة العرب يعالجون كل القضايا وكل شؤون الطبيعة . ولم يبدأ الكلام في اوربا على قضايا الطبيعة، ألا بعد ان تعرفوا على مؤلفات ابن سينا . فمنذ ذلك التاريخ اخذوا يطرحون الاسئلة عن الحي والجامد " .

‏أدرك ابن سينا منذ بداياته ان الأحتياج الحقيقي للفلسفة هو في صياغة منهج دقيق لدراسة الاشياء المحيطة بنا، ولم يكن ابن سينا مقلد للفلسفة اليونانية على رغم شغفه بها، ولا شارح لكتب ارسطو، وانما أنفرد من بين فلاسفة الاسلام بانه اول من جرؤ على نقد فلسفة ارسطو وافلاطون، وحاول ان يضع مذهبا فلسفيا مستقلاً .

‏الفلسفة عند ابن سينا هي العلم بالوجود بما هو موجود، بمعنى العلم بالوجود المطلق دون النظر الى نوع هذا الوجود، والغاية من الفلسفة هو تهذيب النفس واستكمالها لتحصيل السعادة . فالفلسفة: " صناعة نظرية يستفيد منها الأنسان، تحصيل ما عليه من الوجود كله في نفسه، وما عليه الواجب بما ينبغي ان يكسبه فعله، لتشرف بذلك نفسه وتستكمل وتصير عالما معقولا، مضاهيا للعالم الموجود، وتستعد للسعادة القصوى " وفلسفة ابن سينا فلسفة عقلية في اصولها ومبادئها، فهو يؤمن بالعقل الفعال مصدرا للعلم والمعرفة، والانسان من حيث هو كائن مفكر عند ابن سينا تنقل في اطوار ثلاثة .كان في اولها ساذجا يتصور الاشياء، ويعتقد انها في حقيقتها وواقع امرها، كما تبدو له، وكما يتصورها . وكان في ثانيها شاكا، او شبه شاك، في ان تكون لديه القدرة الكافية لادراك حقائق الاشياء والاطلاع على مكنوناتها .وكان في ثالثها قانعا بما تبلغه طاقته المحدودة راضيا بها .

‏ويشتق ابن سينا وصف للانسان حسب الطور الحياتي الذي يمر به، فهو في الطور الاول حكيم، وفي الثاني محب للحكمة، وفي الثالث باذل كل ما في وسعة من اجل الحصول على الحقيقة .

‏استطاع ابن سينا ان يحدد تعريف للفلسفة بالغ الوضوح والدقة يقول فيه: " الحكمة استكمال النفس الأنسانية بتصور الامور والتصديق بالحقائق النظرية والعملية على قدر الطاقة الانسانية، فالحكمة المتعلقة بالامور التي نعلمها وليس لنا ان نعمل بها تسمى حكمة نظرية وهي التي تتعلق بما في الحركة والتغيير، ويسميها ابن سينا بالحكمة الطبيعية، والحكمة المتعلقة بالامور العملية التي لنا ان نعلمها ونعمل بها، تسمى حكمة عملية والتي تبحث في في شؤون الانسان والمجتمع والاخلاق " .

‏ذكر فلاسفة عديدون ان مؤلفات ابن سينا فيها إشارات واضحة إلى مشاكل فلسفية حديثة لا بل وجد البعض ان فلاسفة عصر النهضة الاوربية تاثروا كثيرا بكتب الفارابي وابن سينا وابن رشد .وقد ربط العديد من الباحثين في تاريخ الفلسفة بين مفهوم العقل في الفلسفة الحديثة ووصف العقل الذي وضعه ابن سينا في كتبه، ففي عام 1927 حاول الباحث الايطالي فورلاني ان يربط بين نص لابن سينا عُرف باسم الرجل الطائر والذي ورد في كتاب الشفاء، وبين مقولة ديكارت الشهيرة " انا افكر اذن انا موجود " التي وردت في كتابه " التاملات " .

‏يكتب ابن سينا في الشفاء: " يجب أن يتوهم الواحد منا كأنه خلق دفعة وخلق كاملاً لكنه حجب بصره عن مشاهدة الخارجات وخلق يهوي في هواء أو خلاء هويا لا يصدمه فيه قوام الهواء صدماً ما يحوج إلى أن يحس، وفرق بين أعضائه فلم تتلاق ولم تتماس، ثم يتأمل أنه هل يثبت وجود ذاته، ولا يشك في إثبات لذاته موجوداً ولا يثبت مع ذلك طرفاً من أعضائه ولا باطناً من أحشائه ولا قلباً ولا دفاعاً ولا شيئاً من الأشياء من خارج بل كان يثبت ذاته ولا يثبت لها طولاً ولا عرضاً ولا عمقاً، ولو أنه أمكنه في تلك الحالة أن يتخيَّل يداً أو عضواً آخر لم يتخيله جزءاً من ذاته ولا شرطاً في ذاته. وأنت تعلم أن المثبت غير الذي لم يثبت والمقرب غير الذي لم يقرب. فإذن للذات التي أثبت وجودها خاصية لها على أنها هي بعينه غير جسمه وأعضائه التي لم تثبت. فإذن المثبت له سبيل إلى أن يثبته على وجود النفس شيئاً غير الجسم بل غير جسم، وأنه عارف به مستشعر له وإن كان ذاهلاً عنه يحتاج إلى أن يقرع عصاه " .

‏ويؤكد فورلاني ان: " هذا هو قول ديكارت المشهور، أنا أفكر فأنا موجود لان الصورة التي يقدمها ابن سينا تبرهن على أن نفس إنسان كاملة ولكن محجوبة هي التي تظهر له دون وساطة الجسد إنه موجود وإنه يفكر" .

‏وهناك محاولة ثانية لربط فلسفة ابن سينا بتيارات فلسفة عصر النهضة، فقد جعل ارنست بلوخ، الفيلسوف العربي من انصار ما دعاه " الارسطو طالية اليسارية "، فابن سينا على حد قول بلوخ يشكل حلقة في التطور التاريخي الذي وصل بالفلسفة الارسطية الى فلاسفة العصر الوسيط من امثال جوردانو برونو وتوما الاكويني، فابن سينا عند هذا القول هو حجر زاوية هنا لانه "ينطلق بهذا الاتجاه من مفهوم المادة والصورة الارسطي معرضا عن القدرة الالهية ذاتها لصالح المقدرة الفعالة لتي للمادة، وهذا هو طريق اليسار الارسطي الذي يشكل ابن سينا قطبا فيه ونقطة التحول في حقبة ما بعد الفلسفة اليونانية " وتكمن يسارية ابن سينا حسب قول بلوخ في انه جعل القوة الفاعلة الجامعة ما بين المادة والصورة، اي القوة واهبة الصور لا تتجه باتجاة الالوهية، بل باتجاه الطبيعة والانسان، فكل ما كان ينسب في الفهم الميتافيزيقي للفلسفة لله حول هذه القدرة، اصبح لدى ابن سينا للمادة .ذاك ان العقل واهب الصور، العقل الفعال هو خصوصيات الانسانية وليس روحا يرفرف فوقها .

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

 

في المثقف اليوم